سجال آخر في لحظة الاغتيال.. السوريون بحاجة لمرجعية تمثلهم

2024.08.04 | 05:57 دمشق

هنية
+A
حجم الخط
-A

شكلت حادثة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية مناسبة جديدة للتدليل على عمق الخلافات بين السوريين، بناءً على اختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية والإيديولوجية.

فقد كشفت ردود فعل طيف واسع من النخب والناشطين المحسوبين على الثورة والمعارضة السورية من هذه الجريمة عن وجود خلل كبير في التعامل مع قضايا تحتاج إلى قدر كبير من التبصر والحكمة، والبحث عن المشتركات بين القضيتين الفلسطينية والسورية وكل القضايا الأخرى. فالمشكلة ليست في اختلاف المواقف والتقديرات، إنما في الانقسام الحاد الذي يتسبب فيه أي طارئ يطرأ، ليس بالضرورة على المشهد السوري وإنما على المشهد الإقليمي والعربي، بل وحتى الدولي.

طبعاً لا يمكن القول إن كل القضايا بمستوى واحد من الأهمية أو إثارة الجدل، وبالتالي لا يمكننا التقليل من أهمية النقاش والحوار حول بعضها، والاختلاف وإبداء الآراء فيها. لأن هناك كثيراً من الملفات التي تمس بشكل مباشر أو غير مباشر العلاقة بالمسألة السورية، ومنها مسألة قضية حركة حماس وعلاقتها مع المحور الإيراني، وموقفها من الثورة السورية الذي طرأت عليه عدة تحولات وتبدلات، من مؤيد وداعم للثورة إلى تمجيد لقاتل أطفال سوريا (قاسم سليماني) واعتباره شهيد القدس، في حالة كانت الأكثر استفزازاً وإيلاماً لمشاعر السوريين، انتهاءً بإعادة العلاقة مع نظام الأسد، وهي كلها عناوين مؤلمة جداً.

لكن مع ذلك، لا يمكن نسف مجمل تاريخ الرجل والحركة ولا مكانتهما السياسية والوجدانية في العالم العربي والإسلامي، ما يوجب اتخاذ موقف يتحلى بالموضوعية، خاصة ونحن أمام مشهد اغتياله على يد الاحتلال الإسرائيلي.

لا يمكن نسف مجمل تاريخ الرجل والحركة ولا مكانتهما السياسية والوجدانية في العالم العربي والإسلامي، ما يوجب اتخاذ موقف يتحلى بالموضوعية

من حق السوريين أن يتناقشوا في كل القضايا وأن يختلفوا حولها أيضاً. فالاختلاف بحد ذاته ليس مشكلة، بل المشكلة في غياب وعي إدارة الخلاف. فنحن نفتقد لآليات وأدوات إدارة خلافنا، ومن ثم إنتاج مواقفنا الجمعية من هذه القضايا الخلافية. ويعود سبب ذلك بالدرجة الأولى لغياب النخب التي يتوجب عليها التصدي بجرأة للمهام والقضايا الرئيسية الكبيرة المتعلقة بالمسألة السورية وما يحيط بها ويؤثر عليها.

إلا أن غياب بعض تلك النخب السياسية والاجتماعية والعسكرية يعود لعدة أسباب، أهمها تعرضهم للهجوم والشتائم والتخوين وحتى التكفير، فيما البعض منهم اختار الانحياز لمحاور معينة، وبالتالي فقدوا مصداقيتهم وقدرتهم على التعبير بما يتوافق ومبادئ الثورة وقيمها ومصالحها الحقيقية.

بشكل عام، سواء بسبب الخوف أو بسبب التردد أو بسبب توظيف جزء كبير من نخبنا أنفسهم عند الآخرين، فإن الثورة السورية باتت تفتقد النخب المؤثرة والفاعلة، وبالتالي تراجعت فرصنا بإنتاج مرجعية تعبر عنا، وتمثل مواقف الثورة الرسمية، وكذلك تكون دليلاً يوجه الحاضنة وجماهير السوريين بحيث لا تبقى الناس مشتتة في مواقفها من المسائل الملتبسة والخلافية.

إن الحاجة الملحة إلى مرجعية شرعية ومعبرة تمثل الثوار والمعارضين، تتأكد اليوم كما في كل مرحلة ومسألة اختلفنا حولها ووقعنا ضحية سجالات متوترة أفضت لقطيعة بين تيارات أو مجموعات أو حتى على صعيد الأفراد.

ما يؤكد هذه الضرورة أكثر أن الكيانات السياسية الرسمية القائمة حالياً لا تعبر فعلياً عن الثورة والشعب، ما يعني فراغاً مستمراً على صعيد المرجعية والممثل، الأمر الذي يفتح الباب لمزيد من الانقسام والتشظي والاختلافات، وربما الكثير من استعداء الآخرين بشكل مجاني نتيجة فقدان الموقف الحكيم والمنضبط المؤسس على قواعد موضوعية.

إن السجال حول اغتيال هنية يمثل فرصة لمناقشة أعمق لكيفية تفاعل الوعي السوري المحسوب على قوى الثورة ونظرته إلى العديد من القضايا، سواء الداخلية السورية أو الخارجية التي تعني السوريين بصورة وثيقة.

إن حالة التشرذم وصب الزيت على نار الصراعات الداخلية أصبحت السمة العامة لخلافاتنا، فخسرت الثورة وأهدرت بسبب ذلك كثيرا من الفرص والطاقات، وأبعدت كثيرا من الشخصيات الوطنية والكتل المجتمعية عن هذا الميدان الذي أصبح يعج بالظواهر المدمرة للذات السورية، والتي بسببها فشلنا في بناء كيانات ومؤسسات ثورية معتبرة تحكمها معايير وطنية ديمقراطية. وبالتالي، علينا تحويل هذا السجال والخلاف الذي نراه الآن إلى فرصة لقراءة الشخصية السورية، كيف تفكر وكيف تتعاطى مع السوري الآخر وغير السوري، وإيجاد السبل لإقناع الطيف الواسع من النخب السورية والناشطين لتجاوز نقاط الخلاف والتصادم، وإيلاء الاهتمام الكبير في البحث عن التوافقات والمشتركات وآليات احترام الرأي الآخر والتعامل معه بموضوعية وإنصاف.

بعد كل هذه السنوات من التنابز والصراعات الداخلية، يجب التوقف ملياً لمعالجة هذه الأزمة التي لها علاقة بالوعي وبالأخلاق، وتدبر كيفية الخروج بصيغة مختلفة وبمنطق آخر يؤدي بنا إلى بناء مؤسسات وأطر تحتكم إلى لغة العقل وتدير الصراع مع النظام ومع المتغيرات بطريقة ناجحة وحكيمة. وبالتالي، نحن أمام مناسبة لإعادة تصحيح كثير من المفاهيم والسلوكيات في التعامل مع أنفسنا ومع الآخرين، وهذا يحتاج إلى مصادر توعية تستطيع أن تبني وعياً جمعياً قادراً على فهم ما يجري، والتعامل مع الأحداث والمجريات ذات الصلة بقضيتنا وقضايا الآخرين. فشتان بين من يحمي قضيته بوعيه وبقدرته على جذب كل الأحرار إلى الميدان الذي يحارب فيه، وبين من يدفع الناس للهروب من هذا الميدان بسياسات ومواقف طائشة لا تقوم على تفكير موضوعي ومنصف وقائم على تجميع كل الأصدقاء والمناضلين في هذا الركب.