إسرائيل تستنزف قادته الميدانيين.. ماذا تبقى من حزب الله؟

2024.06.18 | 06:03 دمشق

234
+A
حجم الخط
-A

حاول حزب الله اللبناني منذ نشأته في مطلع ثمانينيات القرن الماضي أن يؤسس في ذاكرة العرب والمسلمين سواء في لبنان أو خارجها إرثاً نضالياً مُستمدّاً من مزيج إيديولوجي متنوع، إذ رفع شعار مناهضة الصهيونية ومقاومة إسرائيل ولكن تحت غطاء ديني تفصّله وتحدد ملامحه الجمهورية الإسلامية الإيرانية بقيادة وتوجيه مباشر من آية الله الخميني آنذاك، وكان يقتضي تسيّد حزب الله للساحة اللبنانية أولاً أن يتفرّد في الواجهة من خلال إقصاء مجمل القوى الوطنية سواءٌ من خلال احتوائها الطوعي أو من خلال محاربتها بالقوة، وقد حقق ذلك الاستفراد بالفعل وأضحى قوّة، بل سلطة موازية لسلطة الدولة اللبنانية.

وكان لزاماً على حزب الله آنذاك أن يجسّد المنطق المقاوم لإسرائيل من جهة، والممانع لجميع السياسات التي كان يسمّيها (مهادنة) للعدو الصهيوني من جهة أخرى، ولعل إتمام تلك المعادلة كان يقتضي أن تسهم إسرائيل أيضاً في إيجاد تلك الهالة المهيبة للعدو الجديد الذي لا يمكن أن يكمل بنيانه وتستقيم سرديته العسكرية والسياسية من دونها، وهكذا بات حزب الله هو الكيان المقاوم للمد الصهيوني على المستوى الميداني، وكذلك هو الملاذ للقوى الشعبية الرافضة والمستاءة من سياسات أنظمتها المهادنة لإسرائيل أيضاً.

وعلى مدى أربعة عقود من الزمن خاض حزب الله أكثر من مواجهة مع إسرائيل، كانت معروفة النتائج قبل البدء فيها، لعل أبرزها في عام 2006 التي انتهت بتدمير الضاحية الجنوبية، وكذلك في العام 2008 و2009، وغالباً ما كانت تجري تلك المواجهات في موازاة سياقات سياسية لم تكن المصالح الإيرانية بعيدة عنها، ولكن وجود إسرائيل داخل كل معركة كان كفيلاً بالتستّر على أية أجندة أخرى.

ربما جسّدت عملية (طوفان الأقصى) منذ انطلاقتها في السابع من تشرين أول الماضي مفصلاً حاسماً في تبديد الاستراتيجيات التي كان يسعى حزب الله إلى ترسيخها وتوقيرها في أذهان ومدارك الجميع، وذلك من خلال انكفاء حزب الله عن الانخراط المباشر في المعركة، استناداً والتزاماً بقواعد وضوابط الاشتباك مع إسرائيل من جهة، والتزاماً بتوجيهات وتعاليم الولي الفقيه من جهة أخرى، ولعل ما جرى من مناوشات خفيفة بين الحين والآخر، أو ما تقوم به عناصر من حزب الله بإطلاق بعض الصواريخ على مناطق خالية داخل الأراضي المحتلة، لا يمكن أن يجسّد خرقاً لتلك القواعد بقدر ما هو مخرج للإحراج الذي يواجهه الحزب أمام الرأي العام لحاضنته ومواليه. ولكن يبدو أن خروج السياسات الإسرائيلية عن طورها السابق نتيجة المستجدّات الداخلية والخارجية استدعى أن تقوم إسرائيل نفسها بخرق قواعد الاشتباك، ولتجعل من استهداف حزب الله أحد المخارج التي تحاول حكومة نتنياهو تصدير أزماتها من خلالها.

لعله من الصحيح أننا لم نشهد حرباً إسرائيلية شاملة تجاه حزب الله في لبنان، ولكن ما يجري من استهداف إسرائيلي نوعي لقادة حزب الله وكوادره النوعية سواء على الأرض اللبنانية أو السورية فإنه يجسّد مشروعاً عسكرياً يهدف إلى تعرية هذا الحزب سياسياً وتجريده من جميع سواتر الممانعة من جهة، كما يسعى إلى تجريد الحزب أيضاً من كوادره البشرية الفاعلة، وبالتالي تجريده من أهم عناصر قوته وتميّزه.

وباستعراض سريع لأهم القادة العسكريين والميدانيين الذين استهدفتهم إسرائيل منذ شهر أكتوبر من العام المنصرم حتى الآن والذي اعترف الحزب بمقتل ما يقارب \280\ قياديا وعنصرا في هجمات الكيان الصهيوني، إلا أن إسرائيل تتحدث عن عدد أكبر من ذلك بكثير، ومعظمهم من قادة الصف الأول والثاني الفاعلين.

من الواضح أن خيار القيادة الإسرائيلية التي عجزت حتى الآن من إقناع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والغرب بشن حرب شاملة على حزب الله، هو إغراق الحزب بحرب استنزاف تشمل اغتيال وتصفية قيادات الصف الأول الميدانيين وتدمير البنية التحتية العسكرية، فقد خسر الحزب قيادات لا يستهان بها من منظومته العسكرية وقادة الصف الأول والثاني أذكر بعضاً منهم:

المسؤول عن وحدة المسيرات والصواريخ الدقيقة في حزب الله طالب سامي عبد الله والذي يعتبر القيادي الأرفع الذي يقتل منذ بداية التصعيد بين حزب الله وإسرائيل، وقائد القطاع الساحلي لحزب الله إسماعيل يوسف باز، وقائد وحدة الصواريخ في قطاع الغربي لقوة الرضوان محمد حسين مصطفى شحوري، وقائد منطقة مارون الراس في الحزب محمد علوية، وقائد منطقة جنوبي لبنان من الوحدة الجوية للحزب علي حسين برجي.

من الناحية العسكرية العملياتية والاستراتيجية فإن هذه الضربات والاغتيالات لقادة الحزب تؤثر بشكل كبير إذ تجعل الحزب يفقد القدرة القتالية والتنظيمية لقواته، بالإضافة إلى ضياع فكرة المعركة وتنظيم القتال وبالتالي تخريب ترتيب القتال، فقيادات الصف الأول ليست قيادات عادية، بل هي قيادات أكاديمية مدربة تدريباً عالياً على كل أنواع الأسلحة وفنون القتال ومتخرجة من أقوى الأكاديميات العسكرية في إيران.

من المؤكد أن فقدان هذه الأدمغة العسكرية لن ينهي حزب الله ويقضي عليه، ولكن سيؤدي إلى هشاشة في التنظيم العسكري والميداني للحزب وبالتالي إضعاف قوته العسكرية، فإدارة المعركة الدفاعية بالنسبة لحزب الله هي إدارة عميقة وقوية، ما يعني أن خسارته لتلك القيادات بمثابة العبث بجهاز الدفاع الموجود عند الحزب، وهذه الخسارة تعتبر عملياً بمثابة القضاء على الدماغ العسكري الذي يخطط ويقود عملياته إن كان على مستوى الإغارات أو على مستوى المعركة ككل، وتعويض هذه القيادات التي تملك خبرات قتالية عالية وكثافة في التحصيل العلمي العسكري من خلال خضوعها لتدريبات ودورات خاصة بأنظمة قتال حزب الله وإيران، ليس بالأمر السهل.

لا جديد في القول إن الإدارة الأميركية تحرص بشدّة على عدم إضافة أي حدث جديد إلى أجندتها السياسية في الوقت الراهن، أو على الأقل قبل تشرين ثاني المقبل موعد الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي يعزز رغبتها بعدم اتساع رقعة الحرب خارج حدود غزة، ولكن على الرغم من ذلك فإن صلف السياسات الأميركية يبقى قابلاً للانحناء أمام النزوع الإسرائيلي الضاغط المتمثل بإصرار نتنياهو على نقل الحرب خارج غزة، وذلك في ضوء عجزه عن تحقيق منجز عسكري مقنع للإسرائيليين، وكذلك في ضوء عجزه أيضاً عن إرغام حماس للامتثال للضغوطات والقبول بتسليم الأسرى الإسرائيليين، ولهذا يبدو أن نتنياهو يريد أن يحقق من استهدافه لحزب الله ما عجز عن تحقيقه في غزة، وإن لم يكن ذلك من خلال حرب شاملة، فيمكن أن يكون من خلال استهدافات نوعية تحظى بقبول ومباركة الإدارة الأميركية.