لماذا هي تمثيلية؟

2024.04.27 | 04:41 دمشق

آخر تحديث: 27.04.2024 | 04:41 دمشق

إيران
+A
حجم الخط
-A

عندما يكون لدى شعب من الشعوب أو أمة من الأمم قضية على درجة عالية من القدسية، فلا بد أن يكون تبني هذه القضية مدخلا أو وسيلة لكل ذي طموح توسعي أو تسلطي أو ما شابه ذلك، وهكذا - مع الزمن - أصبح تبني القضية الفلسطينية والمجاهرة بالعداء للكيان الصهيوني مرتبطا بشكل واضح برغبات الأشخاص أو الأنظمة التي تبحث عن نفوذ أو مكانة على مستوى منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم مكانة خاصة لدى القوى الكبرى.

منذ أن وصل نظام الملالي لحكم إيران تدهورت علاقات إيران مع الولايات المتحدة، فكانت أزمة الرهائن إيذانا بعهد جديد من العلاقات عنوانه العداء. فتبني الخميني البعد التطبيقي لمفهوم تصدير "ولاية الفقيه" بصيغته الأممية تحت شعار الدولة الإسلامية العالمية لا بد أن يكون مشفوعا بشعارات العداء للولايات المتحدة، أو "الشيطان الأكبر" الحامي الفعلي لإسرائيل. بمعنى آخر: أفصح النظام الإيراني عن رغباته التوسعية وطموحاته الإمبراطورية من خلال تبنيه هذا النهج.

بمنظور علم السياسة، تعد السياسة الخارجية هي مجمل الأقوال والأفعال الصادرة عن صانعي تلك السياسات. ومن أجل استخلاص حقيقة سياسة دولة ما تجب الموازنة بين الأقوال والأفعال واستكشاف مدى التوافق بين الأقوال والأفعال من ناحية، ونمط تعبئة الموارد من ناحية أخرى. ولدى إخضاع السياسة الإيرانية لهذا المنظور يتبين أن العداء بين إسرائيل وإيران هو عداء استراتيجي؛ يلعب الصراع على النفوذ الإقليمي فيه دورا، وتخدير شعوب المنطقة، ومن ثم التحكم بدولها وحكوماتها دورا آخر.

اتخذ الصراع بين نظام الملالي والكيان الصهيوني عدة أشكال؛ إذ تدعم إيران فصائل المقاومة الفلسطينية، وتدعم حزب الله، وتدعم جماعات أخرى جاعلة – في الوقت ذاته - منها مصادر نفوذ لها داخل الدول وبؤر استنزاف للكيان الصهيوني، كما وتسعى لإفشال كل محاولات التطبيع معه.

ويقوم الكيان من جهته بتوجيه ضربات عسكرية لبعض هذه الجماعات وللذخائر القادمة إليها من إيران، ويمارس ضغوطا هائلة لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، كما يسعى لاستمالة بعض الأنظمة العربية المتوجسة من التمدد الإيراني من أجل تشكيل أحلاف مضادة، ويتخذ الصراع شكل التحرشات الأمنية، والتحرشات المضادة في كثير من الأحيان.

نتيجة لما أشاعته حرب غزة من توتر في الإقليم كاد الصراع بين الطرفين أن يتجه نحو مواجهة مفتوحة. وبغض النظر عن طبيعة الرد الإيراني على مقتل الضباط الإيرانيين في قنصلية بلادهم في دمشق، وكذلك الرد الإسرائيلي؛ فإن ما يمكن قوله إن الصراع احتدم واحتاج للكثير من الوساطات والضغوطات، وكذلك التعقل والحذر لكي تخف وتيرته في الوقت الراهن.

رغم ذلك؛ يصر الكثير من العرب والأغلبية الساحقة من السوريين على اعتبار أن كل ما حدث من ضجيج واحتكاك مجرد "تمثيلية"، فأين المشكلة؟

بكل تأكيد هناك عدة عوامل تؤثر في تبني السوريين هذه المقولة، ولكن أهمها على الإطلاق هو الخلل في سلم القيم الذي اعتمده السوريون، حيث استطاع نظام الاستبداد في سوريا أن يجعل من قضية مناهضة الكيان الصهيوني قيمة عليا تتضاءل وتضمحل أمامها باقي القيم، فكما أن المستبد يقدم نفسه على أنه فوق البشر، كذلك فرض قيمة مناهضة العدو كقيمة فوق القيم، فهي الفيصل في فرز الأفراد والحكومات بين شريف وخائن وفق التفكير الحدي الذي لا يعرف الدرجات أو المراتب. أما باقي القيم فهي تدور في فلك القيمة العليا.

ماذا لو قام السوريون بتعديل سلم قيمهم، بحيث تصبح كرامة الإنسان وحقوقه في أعلى السلم كقيمة عليا؟

منذ انطلاقة الثورة السورية حتى يومنا هذا؛ يبدو أن السوريين يعتمدون سلم القيم ذاته، فكل طرف يسارع باتهام الطرف الآخر من خلال محاولة البرهنة على أنه عميل للكيان الصهيوني. وإن كان النظام السوري قد اتخذ من هذا الأسلوب وسيلة لقهر معارضيه ومصادرة الحريات وكم الأفواه فما بال من ثار عليه؟! ألا يكفي اتهامه باستباحة وطن وإذلال شعبه وامتهان كرامته لإسقاط الشرعية عنه وتقديم الأسباب الموجبة للثورة عليه؟ ألا يكفي السلخ والجلد وما هو أسوأ منهما لاتهامه بالخيانة أم أن كل ذلك لا قيمة له أمام القيمة العليا؟!

ماذا لو قام السوريون بتعديل سلم قيمهم، بحيث تصبح كرامة الإنسان وحقوقه في أعلى السلم كقيمة عليا، ومن ثم لا بأس، أو يا حبذا أن تكون مناهضة الأعداء في المرتبة الثانية؟! عندها لن يفيد النظام السوري وحليفه النظام الإيراني ليس مجرد مناهضة ومعاداة الكيان الصهيوني، ولكن حتى تحرير فلسطين لن يغفر لهم خطاياهم التي ارتكبوها بحق شعوبهم وبحق الآخرين. وقتها يمكن النظر إلى الصراع بين هذا النوع من الأنظمة مع الكيان المحتل على أنه صراع بين أنظمة معادية للإنسانية دون الحاجة لابتكار وطرح مقولات خيالية.

ما لم نؤمن بأن الإنسان هو القيمة التي لا تعلوها قيمة أخرى سنبقى نعتقد أنها تمثيلية.

لا شك أن العدول عن نمط تفكير معين اعتاده الناس على مدى عقود، أو تغيير في سلم قيم اعتمده مجتمع ورسخ في ذهنه ليس بالأمر السهل، ولكن هذه المهمة إن تصدى لها قادة الرأي وأصحاب النفوذ لن تكون مهمة مستحيلة، فمن استطاع أن يقنع الأغلبية الساحقة من الجماهير بمقولة "التمثيلية" رغم مجافاتها للواقع بشكل واضح؛ يستطيع أن يقنع الجماهير أن نمط التفكير هذا موروث عن نظام الاستبداد، وأن سلم القيم المعتمد هو من صنع نظام الاستبداد ولخدمته. هذا إذا افترضنا أن هذه النخب لا تؤمن بما تقول، وإنما تفعل ذلك على مبدأ تجريد العدو من سلاحه.

ما لم نؤمن بأن الإنسان هو القيمة التي لا تعلوها قيمة أخرى سنبقى نعتقد أنها تمثيلية – رغم طرافة المقولة - لأننا لا نستطيع أن نفعل غير ذلك.