لماذا ننتقد معرض الكتاب في إدلب؟

2024.09.16 | 06:30 دمشق

555555555
+A
حجم الخط
-A

كان معرض إدلب للكتاب الحدث الأبرز في تلك المدينة من شمالي سوريا، وبعض المهتمين من خارجها، في الأسبوعين الماضيين. وتعددت الآراء فيه بين متحمّس ومنتقد.

أما الأولون فكان خطابهم موحدًا، كما بدا من سيل التصريحات والمقابلات التي واكبت المعرض. فقالوا إن تنظيم فعالية كهذه، وللسنة الثالثة على التوالي، دليل على أن مجتمع المناطق المحررة مثقف، حضاري، يهتم بالعلم، فضلًا عن أنه يستجيب للأمر الأول في الإسلام الذي حملته كلمة «اقرأ». وفي كل ذلك رسالة للخارج بأن هذه المنطقة ليست أرض حرب ودمار وفوضى، بل إن فيها شعبًا حيًا يحمل البندقية بيد والكتاب بيد.

ولكن ما هي «إدارة الشؤون السياسية»؟ هي جهاز غامض ليس له مقر محدد، يديره أحد المقربين بشدة من قائد «الهيئة» أبي محمد الجولاني، باسم مستعار هو زيد العطار وصورة مجهولة.

ككل الجمل المرصوفة، تخفي العبارات البراقة السابقة تفاصيل لا تنفيها بقدر ما توضح حقائق أكثر عن المعرض وتوظيفه في سياق توطيد شرعية حكم «هيئة تحرير الشام» في المنطقة.

وبما أن المكتوب يُقرأ من عنوانه، فقد تصدّرت واجهة المركز الثقافي في إدلب، حيث أقيم المعرض، يافطة كبيرة تُحوِّل اسمه إلى «دار الثقافة والمعارف» التابعة لما يسمى «إدارة الشؤون السياسية» كما تدل اليافطة، وجميع منشورات المعرض، بوضوح غفل أصحابه عن دلالته المريعة بإلحاق الثقافة بالسياسة بعلنية لا تحدث إلا في أعتى الأنظمة الشمولية، وبطريقة لم يفعلها صراحة حتى نظام الأسد.

ولكن ما هي «إدارة الشؤون السياسية»؟ هي جهاز غامض ليس له مقر محدد، يديره أحد المقربين بشدة من قائد «الهيئة» أبي محمد الجولاني، باسم مستعار هو زيد العطار وصورة مجهولة. على الرغم من توليه مهام تفترض الشفافية كالعلاقات الخارجية للجماعة، وهيمنته على عدد من مفاصل ما يعدّ من قوتها «الناعمة»، ولا سيما في قطاع الإعلام، الرسمي والرديف، والثقافة ومجالات أخرى.

يولي العطار أهمية خاصة للمعرض، ويغدق على جوانبه الشكلية من حساب شبه مفتوح، بهدف إحراز انطباع الإبهار لدى الزائرين والمراقبين، في إطار سعي قيادة «الهيئة» لتسويق نفسها مؤخرًا بوصفها إدارة ناجحة للحياة المدنية، لا تكتفي بتأمين الخدمات الأساسية لرعاياها بل تتجاوزها إلى الكماليات والجماليات وبعض الرفاهية للقادرين عليها.

والحق أن المعرض وقع، نسبيًا، في محاذير شابت خطوات سابقة في هذا الطريق، كالمولات التجارية وبعض الأبنية الباذخة. من جهة شعور غالبية من سكان المنطقة بأنه لا يعنيهم، فأكثرهم تحت خط الفقر، وقد رغبوا لو أن قدرًا من المصاريف التي أُنفقت عليه - جرى حديث غير رسمي عن نصف مليون دولار - ذهب لتلبية حاجات أساسية للمخيمات وناسها، ولغيرهم.

ولم يقتصر كرم المعرض على تجهيز المكان وديكوراته، بل وصل إلى فريق فائض من الإعلاميين الذين لم يتوانوا عن التسويق الدؤوب للفعالية وأهمية رسالتها «للخارج» الذي حضر، شخصيًا، عبر عدد من الضيوف المدعوين من تركيا، ممن روعي فيهم أن يكونوا «نجومًا» مفترضين من المعارضة السورية، السياسية والعسكرية والإعلامية والثقافية. وبقدر ما امتنّ هؤلاء، في لقاءاتهم العديدة، من الحفاوة البالغة التي قوبلوا بها من المنظمين، لم يكن مطلوبًا منهم، بالمقابل، سوى إبداء إعجابهم بمستوى «التطور» الذي عاينوه، وغضّ الطرف عن الفقراء خارج مقر استضافتهم الفاره، وعن أصوات مشاغبة خرجت ضد القمع في مظاهرة كبيرة قريبة، فقمعتها أمنية «الهيئة» قبل أن تشوّش على أجواء المعرض المهرجانية وعلى تغطيات الإعلاميين المشغولين فيه عما يجري خارجًا من شجون.

تدفع عقدة الناجي عددًا كبيرًا من السوريين المقيمين في الخارج إلى الاحتفال بأي نشاط فوق معيشي في المناطق المحررة.

وفي سياق موازٍ، أُتخم المعرض بنشاطات يومية تهدف إلى أن توحي بوجود نهضة ثقافية، من ندوات وأمسيات شعرية وصالون ثقافي نظّمه أحمد موفق زيدان. وهو مسوّق كبير آخر لمشروع «الهيئة» في «الكيان السنّي» لدى رموز عربية من التيار الإسلامي يشاركون عبر الزوم.

لكن عدد المثقفين والأكاديميين و«النخب» في المنطقة، بعد استبعاد معارضي «الهيئة» ومن هاجر أو هُجِّر، أقل من أن يكفي لملء كل هذه الفعاليات بمشاركات معتبرة. وهو ما كان ملحوظًا في تواضع مستوى أغلب الندوات والأمسيات والصالون الثقافي الذي كان زيدان يملؤه كما اتفق وبمن حضر من «متخصصين في هذا الشأن لتبادل الأفكار والآراء»، على حد تعبير متكرر لإعلانات الصالون «الثقافي» الذي تناول قضايا مثل «طائفية جيش النظام» و«الاحتلال الإيراني» و«اللغة والهوية» و«فن الكتابة والتأليف».

وفي السياق الأخير، نظّم المعرض حفلات توقيع كتب لمؤلفين محليين كانت، في مجملها، إنشائية وواعظة وبعيدة عن متابعة الحقل الأدبي الذي تدّعي كتابته، كالرواية والقصة والشعر، إن لم تكن خواطر.

ما الذي بقي للكتاب، إذًا، في زحمة هذا العرض الترويجي؟ بقي له سبعة عشر ألف عنوان، على ذمة المنظمين، تضم أساسًا كل مراجع التراث الإسلامي، وكتبًا متوسطة في الفكر الإسلامي المعاصر؛ المحافظ والإخواني والسلفي الحركي وأحيانًا السلفي الجهادي، وكتبًا في التنمية الذاتية، ومراجع طبية وهندسية داعمة للطلاب في جامعة إدلب.

تدفع عقدة الناجي عددًا كبيرًا من السوريين المقيمين في الخارج إلى الاحتفال بأي نشاط فوق معيشي في المناطق المحررة. ويتجلى هذا خصوصًا في النظر إلى التعليم العالي والنشاطات الفنية ومعارض الكتب. والحق أن هذه البنى شبّت عن الطوق وخرجت من الحاضنة. وبات ينبغي لمن يهتم بها ويحترم المشاركين فيها أن ينظر إليها بعين تقييم عادلة، تتفهم الوضع ولكنها غير محابية، بعيدًا عن عقلية «بظروفهم، شو ما طلع معهم منيح» التي تستبطن التعالي وتلويحة الوداع في حقيقة الأمر.