منذ دخول لبنان مرحلة التنافس الرئاسي، يعاد من جديد تسويق مفهوم "المرشح التوافقي"، وكأنه فكرة مهيمنة على أي استحقاق لبناني. ومع وجود برلمان بدون أغلبية واضحة لفريق من الأفرقاء، أدرك جميع اللاعبين أن المعركة محصورة باسمين اثنين وهما جوزيف عون قائد الجيش أو سليمان فرنجية مرشح فريق الأسد- حزب الله
وحتى القوات اللبنانية تعترف في كل مجالسها أن ترشيح مناهض لحزب الله تبدو مناورة للوصول لاسم توافقي لا يستفز أي طرف ويصلح ما أفسده ميشال عون، باختصار شخصية لم يتم تمييزها سياسياً بشكل كبير. القوى الغربية، التي تلعب تقليديًا دورًا حاسمًا على المستوى الرئاسي، وحتى القوى الخارجية تتفق على نفس الهدف ولكن وبعد ذلك، وإذا كان الجميع بمن فيهم طرفا الصراع أي حزب الله والقوات متفقين بالفعل على نفس الهدف، فلماذا تخاض هذه المعارك حيال الرئاسة وما بينها من استحقاقات أبرزها تشكيل حكومة إدارة الفراغ؟
وإذا كان حزب الله على لسان رئيس كتلته محمد رعد قد حدد قبل أيام مواصفات المحور للرئاسة تحت عنوان واضح: رئيس لديه ركاب، ولا يأمره الأميركي فيطيع، بل يُطيع المصلحة الوطنية، كذلك يجب أن يحترِم ويعترف بدور المقاومة في حماية السيادة الوطنية" ولكن يبقى التحدي الأساس الذي يواجه معسكر 8 آذار هو في الاتفاق بينهم أولاً على مرشح مقبول منهم جميعاً ثم محاولة استقطاب الدعم له من كتل أخرى.
يتزامن ذلك مع تلويح رئيس التيار الوطني الحر بالذهاب لمعركة الأحقية العونية في موقع رئاسة الجمهورية من منطلق تمثيله المسيحي، لذا فإن رفع الأسقف السياسية مرده التلويح للحزب بأنه في حال حظي برفع العقوبات بعد الترسيم فإن التنازل عن الموقع ليس عنوانا لمرحلة الرئاسة المقبلة.
لا تبدو الأطراف الإقليمية والدولية باستثناء فرنسا مستعدة لخوض معركة رئاسة لبنان انطلاقاً من انشغالها بملفات أكثر حساسية
وقبل أيام من موعد رحيله عن القصر يخوض ميشال عون آخر معاركه وهي معركة تشكيل حكومة ميقاتي والتي سيناور للحظة الأخيرة حرصاً على تشكيلها بشروط جبران باسيل، ومن المؤكد أن عون وفريقه لن يتنازلوا عن مشروع تغيير الوزراء وتبديلهم بأسماء أكثر التصاقاً بمصالح التيار العوني، ما يعني الاستمرار بلعبة الاستحصال على الثلث المعطل انطلاقاً من معرفته بمعنى حكومة تمرير الفراغ وما يصدر عنها من مراسيم وتعيينات، ولذلك يبدو عون ومن خلفه باسيل أكثر تشبثاً إلى أقصى الحدود بهذه الصيغ، وخصوصاً أنه يستند إلى توقيعه الذي سيكون ملزماً لتمرير التشكيلة الحكومية.
بالمقابل لا تبدو الأطراف الإقليمية والدولية باستثناء فرنسا مستعدة لخوض معركة رئاسة لبنان انطلاقاً من انشغالها بملفات أكثر حساسية ربطاً بالنزاعات المتنقلة والاستراتيجية في المنطقة والعالم، ما يعني أنّه في نهاية هذا الشهر لبنان ذاهب مرة جديدة إلى قدره المحتوم بالفراغ المفتوح حتى إشعار آخر، في حين ستحصل في إسرائيل الانتخابات التشريعية الخامسة خلال 3 سنوات ونتائجها أكثر ارتباطاً باهتمامات المنطقة لكون نتائجها ستحدد شكل الدور الإسرائيلي وسياستها الخارجية عبر فوز واحد من الطرفين، فإما عودة بنيامين نتنياهو إلى المشهد أو خسارته وما بين الاحتمالين سياستان مختلفتان سيكون لكل منهما تأثيرها على الساحة اللبنانية سياسياً وميدانياً.
في هذا الإطار تتقاطع المصالح الأميركية – الإيرانية أولاً باهتمام الطرفين بضرورة خسارة نتنياهو، وخاصة أن الجانبين لا يريد تصعيد وسطٍ حرص على تطوير التفاهمات عقب الانتخابات النصفية للمضي قدماً في الاتفاق النووي، بعد انفراجات سمح لها بالولادة بدءًا من ترسيم الحدود وصولاً لانتخابات الرئاسة العراقية، لذا يسعى الجانبان لتطويرها لتشمل لبنان ولو في نهاية المطاف.
فملامح التسوية في العراق، وتبريد الجبهات في سوريا معطوف عليها مصالحة فلسطينية واتفاق على تهدئة مفتوحة في غزة، وهذه التحركات الأميركية، التي يبدو الإيرانيون إيجابيين حيالها، قد تشكّل فرصة لا تتكرر للبنان، لكنها محددة بفترة وجيزة، انطلاقاً من ثابتة تاريخية تقول إن أي تقاطع دولي أو إقليمي تتوافق عليه مجموعة من الأطراف سرعان ما تنتهي.
بالتوازي لا تبدو السعودية سعيدة بهذا الاندماج والإيجابية الأميركية مع إيران، وآخر فصول هذا الانزعاج تجلى لبنانياً بإجهاض السفارة السعودية في بيروت للقاء تشاوري تعمل عليه السفارة السويسرية في لبنان بغية جمع الأطراف اللبنانية، وهذا اللقاء استدعى مواقف عالية وإطلاق معركة الحفاظ على الطائف والذي أعيد إلى واجهة المعارك المستحدثة منذ أشهر في إطار المناورة السعودية في لبنان، والهجوم على الحراك السويسري الذي وضع في إطار التوتر الأميركي - السعودي وخاصة عقب أزمة أوبك+ وما نتج عنها.
الخلافات المستفحلة بين السعودية وواشنطن والتي يبدو أنها مقبلة على تصاعد كبير إذا لم يتم احتواؤها، قد تنعكس سلباً على لبنان
بالمقابل تتحدث السعودية عن تعرضها لخمس خيبات أميركية، تبدأ بالسماح لإيران برفع إنتاجها النفطي من 400 ألف برميل إلى 800 ألف برميل وهذا يهدد الخطة السعودية لسوق النفط، وثانيها عدم الاكتراث الأميركي بملف الهدنة في اليمن مروراً بالتقاطعات بين واشنطن وطهران في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والرسائل الإيجابية لعودة الاتفاق النووي، وليس انتهاء بانتخابات العراق الأخيرة والتي يبدو أن الرياض غابت عن الصفقة التي أجريت هناك، لذا يأتي الحراك السعودي تجاه المبادرة السويسرية كرسالة لواشنطن مع شعور سعودي أن ما تقوم به سفارات أوروبية في لبنان يحظى بموافقة أميركية، وقد تصحوا الرياض يوماً على تسوية رئاسية في لبنان تتجاوز مصالحها.
والخلافات المستفحلة بين السعودية وواشنطن والتي يبدو أنها مقبلة على تصاعد كبير إذا لم يتم احتواؤها، قد تنعكس سلباً على لبنان، وخاصة أن واشنطن كانت تعول على الرياض في دعم أي خطة نهوض اقتصادي ومالي في لبنان، وذلك من خلال تفعيل الاتفاقيات العشرين بين بيروت والرياض وهي مساعدات كبيرة، مع اشتراطها بالذهاب إلى إعادة تركيب سلطة سياسية خارج إطار نفوذ حزب الله والتيار العوني.
وعليه فإن الانهيار اللبناني المستفحل بات يتطلب إعادة تركيب المشهد من جديد، والانتقال إلى مرحلة مختلفة عما سبقها من أداء غير متوازن، وهو ما يعني أن الأطراف في ظل أي تلاقي إقليمي - دولي ستضطر لتقديم تنازلات وأثمان وقد يكون جبران باسيل على رأسهم، فيما تبدو واشنطن ومن خلفها كل الأطراف هي القادرة على تسويق أي تسوية، وأن كل الاستهتار اللبناني والذي تمارسه الطبقة الحاكمة لمصالح فئوية قد تنكسر على صخرة التحولات الجارية ما سيفاقم من حجم التعقيدات وحال الفوضى.