على وَقع الفلتان المتزايد في الأمن الاقتصادي والاجتماعي اللبناني، وتحت وطأة الارتفاع الدرامي للدولار، بَدا لبنان وكأنه يسبح خارج "الجاذبية"، في ظل غيبوبة الدولة التي يكاد يغيب أي أثر لها، بفِعل الشغور المتمادي في موقع رئاسة الجمهورية وشلل الحكومة المستقيلة التي يختلف وزراؤها ورُعاتها على حدود تصريفها للأعمال، وصولاً إلى دخول مجلس النواب في إجازة الأعياد. هكذا، وبدل أن تكون السلطة مُستنفرة بكاملها في هذه الظروف الصعبة لمواجهة الأزمة المتفاقمة على كل الصعد، إذا بها تنكفئ أكثر فأكثر لتملأ فراغها أحداث أمنية بطلها الفعلي هو حزب الله.
وفي حين يتصاعد التوتر بين حزب الله والعدو الإسرائيلي. عادت إسرائيل مؤخراً لشن هجمات عسكرية في سوريا، تجددت الغارات على وقع التهديدات التي يستمر بنيامين نتنياهو بإطلاقها. فكانت عملية القنيطرة قبل نحو أسبوعين، وتم فيها استهداف موقع أساسي للحرس الثوري وحزب الله، وهذه العمليات ترافقت مع تهديدات من قبل نتنياهو لإيران التي تستمر في رفع نسبة تخصيب اليورانيوم على الرغم من المساعي الرامية لتجديد التفاوض معها حول ملفها النووي.
فيما بعد جاء تصريح رئيس الأركان الإسرائيلي، أفيف كوخافي، حول نجاح طهران بتهريب الأسلحة لصالح حزب الله في لبنان. حصل ذلك في وقت أشارت فيه تسريبات إسرائيلية إلى استخدام مطار بيروت لتهريب الأسلحة من قبل الإيرانيين وكل هذه الأجواء التي يتم تسويقها من الجانب الإسرائيلي بهدف إما التوتير أو التحضير لضربة أمنية استباقية في المنطقة ضد الحزب أو إيران.
والحقيقة أن السؤال الرئيسي الذي ساد إثر حادثة العاقبية في جنوب لبنان والتي استهدفت قوة اليونيفيل، هو ما إذا كان ثمة رسائل سياسية وسط الدماء التي سقطت، في أول حادثة من نوعها منذ زمن طويل. والمقصود هنا رسائل سياسية ليس فقط حزب الله، بل أيضاً من قوات الطوارئ الدولية أو جهة خارجية تقف خلفها.
وللمفارقة فإن مجلس الأمن منذ أسبوعين وفي الدورة العادية والتي ناقشت بشكل مستفيض التقارير المرفوعة أمامه حول مهام وعمل قوات الطوارئ في جنوب لبنان، وجاءت النتيجة جيدة لدرجة أنه جرى تصنيف عمل قوات اليونيفل كأفضل أداء بالمقارنة مع عمل قوات الأمم المتحدة في مختلف أرجاء العالم.
الاتهامات تتوجه اليوم إلى حزب الله بكونه الطرف المسؤول عن تعطيل جلسات انتخاب رئيس الجمهورية
ومن الطبيعي التكهن والاعتقاد بأن هذه الحادثة، التي أدت إلى سقوط أرواح جنود يعملون تحت مظلة الأمم المتحدة، ستلقي بظلالها على النقاشات بين أعضاء دول مجلس الأمن، إلى جانب البحث في ملف رئاسة الجمهورية والذي سيتحرك بشكل جدي مطلع الشهر المقبل بين عواصم فاعلة في الملف، لكن الاتهامات تتوجه اليوم إلى حزب الله بكونه الطرف المسؤول عن تعطيل جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، ولا شك بأن الحزب سيتضرر سياسياً بعض الشيء، خصوصا أن الظروف السياسية الدولية ملائمة لأي توظيف سياسي مع تصاعد موجة الهجوم الإسرائيلي أولاً والأحداث الجارية في ايران بشكل تصاعدي.
لكن في زاوية رؤية أخرى تتصاعد مساعي دول إقليمية فاعلة في الملف اللبناني انطلاقاً من قدرتها على خرق الجدار والاستعصاء الحاصل لبنانياً، أولاً عبر إيجاد مساحة حوار إقليمي مشترك حول لبنان وتحديداً بين إيران والسعودية وهذا ما هدفت له المساعي الفرنسية والقطرية عبر قمة بغداد 2 والتي عقدت في الأردن، عبر فتح قنوات اتصال غير مباشرة بين السعودية وإيران حول الملف اللبناني.
وهذه المساعي من ضمن ملفات أخرى، بدأت قبل أيام من المؤتمر، ويبدو واضحاً أن باريس والدوحة تعملان على تليين موقفي الرياض وطهران في ما يتعلق بالملف اللبناني، ما اقتضى البدء بالكلام بطبيعة الحال حول انتخابات رئاسة الجمهورية ومعها رئاسة الحكومة والتي ستؤول إلى شخصية أكثر التصاقاً بالأزمة ومعالجاتها.
وكان واضحاً في المرحلة السابقة أن الإدارة السعودية تميل أكثر لتعزيز مبدأ الانكفاء الكلي عن الملف اللبناني ورفض إعطاء إشارات جدية عن احتمال تدخلها في الشأن اللبناني لناحية الإنقاذ والعودة للعب دور فاعل في الاستحقاقات الداهمة. من هنا، كان لافتاً إصرار الجانب الفرنسي على تسريب معلومات حول الحوار المرتقب بين السعودية وإيران ما يعكس للمرة الأولى منذ ما قبل انتهاء عهد العماد ميشال عون عودة الكلام عن دور سعودي جدي ويطرح احتمالات الخروج باتفاق حول رئاسة الجمهورية.
ولا يمكن فصل سياق الحضور القطري في المنطقة ورؤية الدوحة الإقليمية القائمة على الوساطات وحل النزاعات عن هذا الملف، انطلاقاً من كونها على علاقة متقدمة من طرفي الصراع، لذا فإن الدوحة عرضت على طهران والرياض استضافة مسؤولين إيرانيين وسعوديين على أراضيها ورعاية أي اتفاق محتمل يشمل اليمن ولبنان وملفات أخرى، وهذا العرض مرده شعور الدوحة أن الرياض غير راغبة في استكمال وساطة العراق بعد مغادرة الكاظمي والانقلاب الإيراني-الأميركي هناك.
وعليه فإن حزب الله المنكب على إعداد وثيقة سياسية جديدة لإعلانها قريباً، يراقب تطورات الحوارات واللقاءات الجارية وليس آخرها على سبيل المثال تلك المتعلقة بمصالحة النظام السوري مع تركيا والتي لا يعرف حتى اللحظة مآلاتها وانعكاساتها على لبنان وحزب الله، وانطلاقاً من هذا الأمر فإن الحزب بات يرسل إشارات "التسوية الرئاسية" بعد أن أتعبته مغامرات جبران باسيل ورفضه انتخاب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية.
الضمانات التي قد تقدم للحزب سيجعله أكثر قبولاً بمعادلة رئيس وسطي، بدلاً من حليف قريب يتماهى معه تماماً في الاستراتيجية والتكتيك
وثمة مَن يعتقد أنّ حظوظ قائد الجيش جوزف عون تصبح هي الوحيدة الجدّية، لأنّ الرجل يمكن أن يحظى بدعم داخلي وخارجي، ومن اتجاهات متعاكسة، وإذا كان الحزب يفضّل هذا الخيار، فمن السهل عليه أن يستفيد من الخلاف المتزايد بين فرنجية وباسيل، والذي يعطل الانتخابات الرئاسية،، ليطرح "ترئيس" قائد الجيش حلاً وسطاً. ما يعني أن الضمانات التي قد تقدم للحزب سيجعله أكثر قبولاً بمعادلة رئيس وسطي، بدلاً من حليف قريب يتماهى معه تماماً في الاستراتيجية والتكتيك.
والظاهر أن حزب الله ليس رافضاً لخيار قائد الجيش الحالي. وقد عبّر مسؤولوه عن تقديرهم للرجل والعلاقة معه وترجمت بزيارة وفيق صفا الشهيرة له. وعليه إذا ما فرضت الظروف على الحزب أن يوافق على قائد الجيش، مقابل ضمانات وثيقة وطويلة الأمد، فإنه سيوافق. ولكن، بالتأكيد، خياره المفضّل هو أحد الحليفين: باسيل أو فرنجية، أي أن الدائرة تدور في الملف الرئاسي لتعود إلى النقطة نفسها وهو ما قد يسبب طلاقاً مع أحدهم.