إذا كانت تعريفات السياسة بشكل عام، تذهب للقول إنها رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، أو تعني توزيع النفوذ والقوة ضمن حدود مجتمع ما، أو تحديد صيغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو تقسيم الموارد الموجودة في المجتمع، أو دراسة الواقع وتغيّيره موضوعياً إلخ، فإنها لم تذهب – كما أعلم - للقول بأنها منتجة للقيم في المجتمع، لا بل غالباً ما تتهم السياسة بأنها تتفارق مع القيم.
هذا التفارق الذي ترسخ في الفهم السائد للسياسة، وفي ممارسات السّاسة عموماً، هو خراب للسياسة والمجتمع، وخصوصاً إذا كانت السياسة تسعى إلى تعريفها القائل بأنها رعاية شؤون الدولة الداخلية، ويصبح الأمر أكثر خطورة إذا كانت الدولة منهارة أو في طريقها للانهيار، عندها تصبح القيم مصدر القوة الأساسي للسياسة، وللتوضيح فإن القيم التي أقصدها هي تلك التي تضبط علاقة "الأنا" بالآخر وبالمجتمع، والتي تتكثف بأنه في حال وقوع تناقض بين المصلحة الخاصة والعامة، فإن القيم تضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة، مهما يكن الثمن.
كيف يمكن اليوم للسوريين أن يخرجوا من ورطة الفساد وانعدام القيم في مجمل السياسة؟
يحدثنا التاريخ كثيراً عن دور القيم في نهضة الشعوب والدول، لكنه في الوقت نفسه يحدثنا كثيراً أيضاً عن أن انهيار القيم داخل أي مجتمع هو نتاج خلل أصيل ضرب عميقاً في تنظيم المجتمع، هذا الخلل غالباً ما يكون في عصرنا الراهن نتاج الاستبداد – بأي وجه من وجوهه – لأن الاستبداد لا يقوم ويستقر إلا عبر نسف القيم والاستعاضة عنها بمنظومة من السلوكيات الفردية اللاأخلاقية، تعلي مصلحة الفرد فوق أي مصلحة أخرى، ولا تهتم بما هو آخر سواء أكان فرداً أو مجتمعاً.
في الحالة السورية الراهنة، والمتمثلة بانهيار الدولة وتسيّد فاقدي القيم – في جهتي الصراع - وبعد استبداد طويل، وبعد انهيار المجتمع، وتشظيه، ونمو عصبياته المتخلفة، وبعد .. وبعد، فإن السياسة تغدو فعلاً في غاية الصعوبة، ويصبح اتهامها والنيل منها هو السائد، ويصبح السّاسة متهمين بلا استثناء بأنهم مرتزقة، يعتاشون من فساد الأنظمة المجتمعية (النظام السياسي، والاقتصادي، والتربوي، والقضائي، والإعلامي، والثقافي والإداري).
كيف يُمكن إذاً استعادة السياسة والمجتمع كمقدمة لاستعادة الدولة من مختطفيها، وكيف يمكن اليوم للسوريين أن يخرجوا من ورطة الفساد وانعدام القيم في مجمل السياسة، وأن يتفوقوا على خاطفي السياسة والدولة، لا سيما وأن من تنطّحوا لدحر الاستبداد ولاستعادة الدولة مارسوا هم أيضاً ذات الوسائل التي مارسها من قاموا ضده؟
لا يمكن للشعب السوري استعادة الدولة السورية إلا من خلال تضافر ثلاثة عوامل رئيسية، أولها هو الأخلاق والقيم كما تم تعريفها سابقاً، بأنها إعلاء كامل للمصلحة العامة فوق المصلحة الفردية أو الفئوية مهما يكن الثمن باهظاً، وثانيها هو الاعتراف بمصالح الآخرين وحقوقهم مهما قلّ عددهم أو ضعفت قوتهم، وثالثها الابتعاد عن ربط المصلحة الضيقة (فردية أو فئوية) بطرف خارجي، والاستقواء به لسلب حقوق أفراد أو فئات أخرى وللانتصار عليهم.
هنا لا بدّ من القول إن تغييب السياسة عن المجتمع لفترات طويلة بفعل الاستبداد، أبعد السياسة عن حاملها الأهم وأقصد الفرد الحر، وحصرها في شرائح ضيّقة، من هنا تنبع الحاجة الملحّة لـ"تأميم السياسة"، أي لاستعادة السياسة من شرائحها التي استعملتها كأداة سلطة أو ارتزاق، وجعلها في متناول الفرد، أي إعادة الاعتبار للفرد بصفته مادة السياسة، وأداتها وحاملها ومجددها.
ولا بدّ من القول أيضاً إننا بحاجة ملحّة لتغيير جذري في رؤيتنا للقيم، والاقتناع بأن تنميتها وتعزيز حضورها في حياتنا العامة مهمة تفوق أهميّة أي مهمة أخرى، وأن أي فعل سياسي لا يوليها اهتمامه الأكبر، لن يكون ذا جدوى إذا ما أراد فعلاً قيام دولة مواطنة حقيقية، فليست السياسة استبدال لسلطة فاسدة بسلطة فاسدة أخرى، وليست استبدال استبداد باستبداد آخر، فمثلاً، وبعبارة أشد وضوحاً وصراحة: ماذا سيحقق للسوريين اليوم استبدال حكم عائلة الأسد بحكم سلطات الأمر الواقع القائمة في مناطق من سوريا؟!
الرهان على الفرد الحر، وعلى السياسة بوصفها فعلاً وطنياً له قيمه الأساسية، أوصل سوريا إلى الاستقلال.
وأخيراً لا بدّ من القول أن اهتراء السياسة والأفكار التي اجترّها ويجترّها السّاسة السوريين على اختلاف مواقفهم منذ عقود طويلة، هو من دفع السوريين للابتعاد عن السياسة، ونكرانهم لأهميتها، ويأسهم منها، وهو من دفعهم للتفكير بأننا "كسوريين" لا يمكننا فعل شيء، وأن الحكمة والمصلحة تتطلب الاستقواء بطرف خارجي يفرض قوته ويرغمنا على الخضوع له، وأن الاستبداد وحده من يستطيع إدارة الجغرافيا والدولة التي نعيش فيها.
عندما هُزمت الدولة العثمانية في عام 1918م، وبدأت الانسحاب من الجغرافيا السورية (لم تكن يومها الجغرافيا السورية كما هي عليه الآن)، لم يكن في سوريا أحزاباً سياسية حقيقية، وكان العثمانيون ينسحبون بشكل متدرج، وفي كل منطقة يرحلون عنها كانت تُشكّل حكومة خاصة بها لإدارة شؤونها، كانت الشخصيات التي تتنطّح لإدارة هذه الحكومات، غالباً ما تُصنف وفق تصنيفات غير سياسية ( ملاك أغنياء، أو وجهاء أو رجال دين ..الخ) ولم يكن لديها برامج سياسية أو تكتلات سياسية، لكن غياب الدولة والسلطة دفعها للبحث عن سبل إدارة المجتمع، وبدأت الحاجة لمفاهيم سياسية مناسبة، ولدستور وقضاء و..و.. تفرض نفسها عليهم، هذا أفضى إلى إنتاج دستور كان من أفضل الدساتير في منطقتنا حينه، رغم أنه وضع لسوريا ملكية، وأفضى إلى اهتمام حقيقي بقيام دولة قوية، وكانت القيم هي الإطار الأهم لنشاط تلك الشخصيات.
في تلك الفترة بدأت فكرة إعادة الاعتبار للفرد، ولعلاقته بالسياسة تتجسد شيئا فشيئا، وبدأت ملامح الدولة تتشكل من حوار شخصيات كثيرة، ورغم أن الظرف الدولي الذي خلقته نتائج الحرب العالمية الأولى، واتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور، وخديعة "مكماهون" للشريف حسين، أجهض كثيرا من أحلامهم ورؤاهم، إلا أن الرهان على الفرد الحر، وعلى السياسة بوصفها فعلاً وطنياً له قيمه الأساسية، أوصل سوريا إلى الاستقلال، ومن ثم أوصلها للبدء بترسيخ بنيان لائق لمجتمع ودولة تتشكّل حديثاً، والأهم أنه أنتج روحاً وطنية جمعت السوريين، فهل يمكننا اليوم استنهاض هذه الروح من بوابة القيم والمصالح المشتركة؟!