لم يكن للحرب الروسية على أوكرانيا آثار مدمرة على الأرض فحسب، بل إنها أدخلت الأوروبيين في مواجهة أكبر مع الكرملين لم يسبق لهم أن دخلوها من قبل، ولهذا يتعين على الدول الأوروبية أن تقوم بالتقييم والاستعداد على عجل لأي عواقب محتملة لذلك على المستوى العالمي، وذلك لأن التعاون الدولي بالنسبة للقضايا المهمة التي تدخل فيها أطراف عديدة لا بد أن ينهار بشكل كبير مع تدهور العلاقات القائمة بين الغرب وروسيا. وذلك لأن التعاون بين الطرفين لم يكن يعبر عن حالة مثالية للنجاح خلال السنوات الماضية، إلا أن انهيار العلاقات بشكل كامل لا بد أن يهدد بعض المصالح الأوروبية الحيوية في الجوار، لا سيما في أماكن مثل البوسنة أو سوريا.
يجب على الأوروبيين أن يدرسوا فكرة تقسيم أشكال التعاون المهمة مع روسيا، مع إعداد خطط طوارئ للالتفاف على أي عرقلة يمكن لها أن تمارسها.
وفي الوقت الذي وقف فيه الأوروبيون بصورة مباشرة ضد الحرب الروسية في أوكرانيا، ينبغي عليهم أن يحافظوا على انفتاحهم تجاه أي تعاون براغماتي نفعي مع موسكو في أي مكان أو مجال آخر إن كان ذلك يخدم مصالحهم ويحفظ لهم ما تبقى من مكاسب ضمن جوانب متعددة. ومع ذلك، يجب على الأوروبيين أن يستعدوا لما هو أسوأ في الوقت ذاته، إذ كما تبين خلال المفاوضات الأخيرة حول الاتفاق النووي الإيراني، من المرجح لروسيا أن تستعين بمنابر عديدة ذات أطراف كثيرة في محاولة منها لتخفيف الضغوط التي تتعرض لها.
كما ينبغي على التخطيط الأوروبي لحالات الطوارئ أن ينصب على منطقتين أساسيتين على وجه الخصوص وهما البوسنة وسوريا.
ملف البوسنة
إذ في البوسنة، استخدمت روسيا حق النقض في مجلس الأمن الدولي بالنسبة لتمديد عملية ألثيا التابعة لقوة الاتحاد الأوروبي لسنة أخرى، وهي بعثة عسكرية أوروبية مسؤولة عن حفظ السلام والأمن، وتهدف لمنع أي محاولة لفصل جمهورية صربسكا (أو صرب البوسنة) على يد وكلاء روسيا. وقبل الغزو الشامل الذي شنته روسيا على أوكرانيا، لم تكن روسيا مهتمة بإنهاء هذه البعثة، بل إنها لجأت إلى التهديد باستخدام حق النقض لانتزاع تنازلات بخصوص إغلاق مكتب الممثل السامي، وهو عبارة عن أداة سياسية غربية بوسعها تقديم المساعدة بالنسبة للإصلاحات الدستورية التي تحتاج إليها البوسنة لتتقدم وتقترب من أن تصبح دولة عضواً في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وبما أن هذه البعثة قد تم تعزيزها عبر إرسال 500 جندي إضافي عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، بما أن الغرب مصمم على إبقاء مكتب الممثل السامي، لذا قد تميل روسيا الآن لاستخدام حق النقض بشكل أكبر بالنسبة لتجديد التفويض لهذه البعثة.
ومع توقع فيتو في مجلس الأمن والاستعداد له بالنسبة لهذه البعثة في شهر تشرين الثاني المقبل، ينبغي على الأوروبيين والأميركيين أن يخرجوا بخطة للالتفاف حول الفيتو الروسي المحتمل، ويجب أن تشتمل تلك الخطة على تأويل أوسع للتفويض القانوني الذي يتمتع به حلف شمال الأطلسي وتلك البعثة بما أنه يستند إلى الملحق رقم 1أ من اتفاقية دايتون للسلام. إذ تلك هي الطريقة الوحيدة لإبقاء الوجود العسكري الأوروبي وتعزيزه في البوسنة، ولردع أي محاولة لفصل جمهورية صربسكا التي هدد بها العميل الروسي ميلوراد دوديك.
الملف السوري
في الوقت ذاته، ينبغي ألا يكون التركيز المباشر في سوريا على العملية السياسية المتعثرة بل على تجديد قرار مجلس الأمن رقم 2585 في شهر تموز المقبل وذلك لضمان تمرير المساعدات الأممية عبر الحدود إلى إدلب التي تؤوي نحو ثلاثة ملايين مدني. إذ عملت روسيا بشكل ممنهج على تضييق هامش المساعدات الدولية التي تلتف حول نظام الأسد، من خلال سياسة شكلت خطراً كبيراً على كل من تركيا وأوروبا في إدلب، وذلك بسبب احتمال تعمّق الأزمة الإنسانية وظهور موجة لجوء كبيرة في حال عدم كفاية المساعدات على تلبية احتياجات الناس هناك.
خلال العام المنصرم، بقي المجال الإنساني من بين المجالات القليلة للتعاون المستمر بين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا، إلا أن الحرب في أوكرانيا قد تغلق قناة التعاون تلك، إذ ثمة خطر يتمثل بتحول تلك المساعدات التي تمر عبر الحدود إلى شكل من أشكال الأضرار الجانبية الكبرى وكذلك الأمر بالنسبة للدعم الذي يأتي بالتوازي معها فيما يتعلق بالمساعدات المخصصة للإنعاش المبكر في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
ولذلك يجب أن تبقى الجهود الأوروبية الأولية منصبّة على فتح المجال للتمديد التقني بالنسبة للقرار المتعلق بتمرير المساعدات عبر الحدود، فقد ترغب روسيا بالاحتفاظ بموقفها الحالي لتفادي ضرورة الرد عند ظهور أزمة جديدة في إدلب وإلا فسيهدد ذلك بتصعيد التوتر مع تركيا، فموسكو تريد أن تضمن زيادة المساعدات الدولية التي تصل إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام في سوريا، وهذا الأمر لن يتم في حال تمّت عرقلة القرار المتعلق بإدلب. ولكن ينبغي على الدول الأوروبية أن تستعد للالتفاف على مجلس الأمن الدولي في حال عدم قدرتها على تحقيق هذا التمديد، لا سيما مع عدم تسهيل روسيا لتمرير ما يكفي من المساعدات إلى إدلب عبر دمشق خلال السنة الماضية. كما يجب على تلك الدول أن تستعد لإقامة آلية أحادية لتمرير المساعدات عبر الحدود وذلك منعاً لظهور أزمة إنسانية أشد.
التعاون الدولي في خطر كبير
لا يمكن تجاهل ثمن أي عمل أحادي الجانب، لأنه لا بد أن يعيق وبصورة أكبر حالة التعاون بالنسبة لهذه القضايا وغيرها في مجلس الأمن الدولي، مما يفتح المجال أمام موسكو وبكين لتبرير أي عمل أحادي الجانب من قبلهما. ولهذا يبنغي على الأوروبيين أن يتحلّوا بالحذر بالنسبة لتقويض ما تبقى من النظام القائم على أطراف متعددة، ومن هنا ينبغي أن ينصبّ تركيز أوروبا بصورة أساسية على خلق مساحة لتقسيم التعاون المستمر مع روسيا بخصوص قضايا معينة يتسم معها هذا النوع من التعاون بقيمة كبيرة. ولكن أي عمل أحادي الجانب قد يقوم به الأوروبيون بالنسبة للبوسنة لن تترتب عليه أي تبعات سلبية على الأرض أشدّ من خطاب قاسٍ من قبل روسيا، إلا أن موسكو قد تتسبب بحدوث مشكلات جديدة في إدلب، وذلك عبر إعطاء الضوء الأخضر للنظام حتى يشن هجماته على تلك المنطقة، وهذا بدوره سيدفع مزيداً من السوريين للهرب إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا. كما أن الالتزام بنهج أحادي الجانب بالنسبة للمساعدات المخصصة لإدلب قد يتحول إلى خطر يتمثل بضعف فعالية هذا النهج مقارنة بالنهج المتبع حالياً، وذلك بناء على الأهمية التي تولى لآليات الأمم المتحدة ومنها تلك التي يدعمها برنامج الغذاء العالمي.
غير أن الأوروبيين (وكذلك الأميركيين) يجب أن يكونوا واقعيين حيال الخيارات المطروحة أمامهم، إذ بسبب الانهيار الكبير الذي اعترى نظام مجلس الأمن الدولي وخوفهم من عرقلة روسيا لقراراته، يجب عليهم أن يستعدوا لما هو أسوأ، وهذا يتطلب استعداداً أكبر لديهم يدفعهم للتعامل مع الأمور بمفردهم.