تعد مسألة الهُوية من المشكلات الكبرى التي سالت دماء كثيرة من أجلها في عالمنا العربي والإسلامي. وقد أخذت طابعا قوميا حينا ودينيا حينا آخر وطائفيا حينا ثالثا. وتعد سوريا من البلدان التي لعبت وستلعب الانتماءات الدينية والقومية والمذهبية دورا لا يستهان به في مستقبلها.
وعلى الرغم من أن كل الأقوام طرحت على نفسها تسأولات حول هويتها، وخاضت حروباً طويلةً بدافع من التعصب الهوياتي، إلا أن العالم العربي اليوم يختلف عن بقية العالم في أمرين: الأول في أنه لم يحسم قضية الهوية حتى اليوم وما زالت الصراعات حول الانتماء الهوياتي العلنية والخفية، تطفو وتخمد من حين لآخر. أما الأمر الثاني فيعود إلى أن مفهوم الهوية عندنا مازال جامدا، وبعيدا عن المرونة التي أخذت تسير الهويات المعاصرة في طريقها.
تبيّن الدراسات الاجتماعية والسياسية المعاصرة أن العالم العربي اليوم نادرا ما وصل, في تاريخه, إلى هذا المستوى من الانغلاق الهوياتي الذي وصل إليه اليوم. وأن العرب لم يكن لديهم مثل هذا التحمس الكبير للانتماءات القومية والدينية والطائفية. فمشكلات الهوية حديثة حتى إن ألبرت حوراني في كتابه الشهير عن الفكر العربي يجد أن مشكلة الهوية طرأت على العالم العربي بعد تعرضه لموجة استعمارية غربية بعد الحرب العالمية الأولى ناهيك عن فشل مشاريع النهضة العربية.
مثلما تبيّن العلوم الاجتماعية المعاصرة أن الاعتزاز المفرط بالهوية والتكوّر حولها، ليس علامة من علامات القوة أو التمسك بدين أو قومية معينة كما يعتقد كثيرون بقدر ما هو علامة من علامات القلق والخوف على الذات. وهذا يعني أن ارتفاع مستوى التفكير في الهويات في مجتمع ما علامة من علامات قلقه على مستقبله،
أي هو ظاهرة ناتجة عن مشكلات لم تحل وليس علامة على سلامة المجتمع أو أصالته أو منعته كما يحلو للبعض تفسير ذلك.
في المجتمعات التي ترتفع فيها مستويات تضخم الهويات تزداد إمكانية الانزلاق للحروب والصراعات الدموية حتى إن "إمارتيا صن" المفكر الهندي الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد يؤكد لنا أن الهوية كانت "أكبر قاتل في التاريخ"، وأن التعصب الهوياتي يرتفع في البلدان الفاشلة والاستبدادية، وأنه رد فعل على القمع والفقر والتهميش ليس إلا.
وإذا كانت حاجة الانتماء إلى هوية تشكل إحدى الحاجات النفسية والاجتماعية العزيزة على نفس الإنسان إلا أن الدول التسلطية استغلت هذه الحاجة لدفع مكونات المجتمع الواحد للتصارع فيما بينها الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف مكونات ذلك المجتمع وتسهيل السيطرة عليه. هكذا يفسر إدغار موران وهو واحد من أهم علماء الاجتماع في العالم اليوم استمرار التعصب الهوياتي على الرغم من أننا نعيش في القرن الواحد والعشرين. لا بل إنه يضيف إلى ذلك أنه ليس فقط الدول التسلطية تشترك في جريمة التحريض الهوياتي بل هناك أيضا الجماعات القومية والدينية في الشرق والأحزاب اليمينية المتطرفة في الغرب.
الحلول التي اقترحها الفلاسفة وعلماء الإنسانيات للتعصب الهوياتي هي طرح مفهوم جديد للهويات يقوم على ما بات يعرف بـ "الهوية المركبة" أو "الهوية الإنسانية" أو "الهوية الكوكبية". وهي مصطلحات تنظر للهوية على أنها تساعد على الانفتاح على الآخر وليس الانغلاق في وجهه بحيث يكون الموقف من الآخر أنه شريكنا وليس عدونا جارنا وليس لصا مرتزقا، وأن المصالح تجمعنا ولا تفرقنا. الأمر الآخر الذي يؤكد عليه الفلاسفة اليوم أن جرعة العداء تجاه الآخر في الهوية التقليدية هي جرعة "متخيلة" ونفسية وليس جزءا أصيلا من مفهوم الهوية.
هكذا نجد أن المكفر الآسيوي درايوش شايغان يجادل بأنه يمكن للمرء أن ينتمي إلى "أربعين هوية" بالوقت نفسه
هكذا نجد أن المفكر الآسيوي درايوش شايغان يجادل بأنه يمكن للمرء أن ينتمي إلى "أربعين هوية" بالوقت نفسه. فهو يمكن أن يكون قوميا ومتديناً، أواشتراكيا وليبراليا، أومناطقيا ووطنيا، وعشائريا ومتديناً، أو متدينا وعلمانيا بالوقت نفسه. الأفق العام للهُوية المركبة أفق إنساني ينطلق من أن مصير البشر في النهاية واحد، ومستقبلهم يتوقف على تعاونهم وتفاهمهم وما جائحة كورونا، والأزمات الاقتصادية الكبرى, والحروب العالمية سوى مثال على ذلك.
وهذا يعني أن الانتماءات المذهبية والطائفية والمناطقية والقومية يمكن أن تبقى’ لأنها جزء أصيل في حياة السوري وتفكيره عن نفسه ولكن لا بد من نزع فتيل العدوانية والتخرص الهوياتي من قلبها. فالسوري يمكن أن يكون, بكل بساطة, وبالوقت نفسه: سنيّا ووطنيا, أوعلويا ووطنيا, أو سنيّا وعلمانيا, أوسنيّا ومدنيا ووطنيا, أو عشائريا وسنيّا ووطنيا, أو علويا ومتينا ووطنيا, أو مناطقيا ووطنيا, أو درزيا ومتدينا ووطنيا, أو مسيحيا ومتدينا ووطنيا, أو كرديا ومتدينا ووطنيا, مثلما يمكن أن يكون يساريا ووطنيا ومتدينا, والقائمة تطول, لو تعامل مع انتمائه المذهبي أو القومي أو المناطقي على أسس مرنة تحوّل الانتماء إلى عامل إيجابي ينظر إلى الآخر نظرة تشاركية. فالسوري اليوم يندمج في مجتمعات أوروبية مختلفة عنه في الثقافة والدين والنظام السياسي فكيف لا يستطيع أن يندمج السوريون مع بعضهم, ويلقوا خلفهم سنوات الظلم والتهميش, واستخدامهم كأعداء لبعضهم البعض من قبل آل الأسد لنحو نصف قرن من الزمان.
مازال قسم كبير من السوريين يخشى من العلمانية على الرغم من أن نحو نصف مسلمي العالم علمانيون، وما زال البعض يخشى من الديمقراطية على الرغم من أنها قبلة جميع شعوب الأرض، وما زال قسم كبير منهم يضع الانتماءات القبليّة والمذهبية والقومية في مواجهة الوطن والدولة على الرغم من أن تلك الجماعات هي التي أنشأت الدولة تاريخيا.
هناك عشرات الحروب التي تم نزع فتيلها بسياسات الهوية المنفتحة هذه، وهناك عشرات الصراعات الدولية وحركات الانفصال (الهند, كندا, دول البلقان..) توصلت لحلول وسطية بمجرد أن طرح مفهوم "الهوية المركبة" كاداة لحلول الخلافات التي طال آمدها. الهوية المركبة مفهوم مختلف عن الهوية يقوم على الاعتراف المتبادل بين الآنا والآخر، لأن الاعتراف أمر يحتاجه كل صاحب هوية, فهو أفضل علاج لأوهام الهوية وتخيلاتها السلبية.
الانغلاق الهوياتي لم يكن يوما حاجة للشعوب بل كان حاجة للمتحكمين بالشعوب، أو وسيلة للتمويه على فشلهم، أو طريقة سهلة لتخويف تلك الشعوب. فالتخويف على الهوية يعد وصفة سحرية للطغاة من جميع الأيديولوجيات كما يقول إدغار موران بحق.