تعمل حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام على استنساخ مؤسسات الدولة السورية في مناطق نفوذها بإدلب ومحيطها شمال غربي سوريا، وتتوزع جهود التوسع في بناء وتأسيس الإدارات والمؤسسات والهيئات على مختلف القطاعات المدنية والعسكرية، وفي بعض القطاعات وصلت مساعي الاستنساخ المفترضة إلى مراحل متقدمة، وربما أكثر زخماً، كالقطاع الديني ممثلاً بوزارة الأوقاف والدعوة، وهو القطاع الذي بات لديه جناحان رسمي ورديف يعبران بالضرورة عن توجهات وأدبيات مشروع تحرير الشام وفلسفتها في إدارة المنطقة.
استنساخ المؤسسات الاقتصادية
ومن القطاعات التي قطعت فيها "الإنقاذ" شوطاً طويلاً في نواحي التوسع الأفقي والعمودي بغية الوصول للحالة المثالية لمؤسسات الدولة، القطاعات الاقتصادية الرئيسة (الزراعة والصناعة والتجارة) وما يدور في فلكها من مديريات ومؤسسات وهيئات فرعية كأذرع تنفيذية، كالرقابة والتموين وإدارات المخابز وتجارة وتصنيع الحبوب ولجنة حماية الملكية التجارية والصناعية ومؤسسة النقد وغيرها.
وفي الإعلام والعسكرة والتعليم والنقل تتواصل عمليات التوسع وبناء الهياكل الإدارية التي قد تتصاعد إلى أن تصبح هذه المؤسسات صورة طبق الأصل عن مؤسسات الدولة مع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق البنيوية والتنظيمية وآليات العمل المتوقعة.
ولم تقتصر عمليات الاستنساخ على مؤسسات الدولة بل راحت "الإنقاذ" ذراع تحرير الشام إلى أبعد من ذلك عندما بدأت بتبني الاتحادات والنقابات التقليدية التي نشأت في فترات سابقة، كنقابتي المهندسين والمحامين الأحرار اللتين أسستا في فترات سابقة، وبدأت أيضاَ التأسيس لنقابات واتحادات جديدة تزعم أنها تمثل قاعدة جماهيرية واسعة وتعبر عن آمالها في التغيير والتحرر، وهذه الجماهير وفق منظري تحرير الشام أصبحت تتبنى بالضرورة عمليات التحول والانتقال من حالة التشتت واللا دولة إلى حالة الدولة والسلطة التي تستند إلى عمل مؤسساتي منظم، وإعادة إحياء فكرة الدولة في المجتمع الثوري.
أصدرت "الإنقاذ" منتصف شهر نيسان قرارا يقضي بإحداث الاتحاد العام للفلاحين، بالتنسيق مع وزارة الزراعة والري التابعة لها، ومن المفترض أن يعمل الاتحاد على تحقيق أهدافه المحددة بنظامه الداخلي، وبما لا يتعارض مع القوانين والأنظمة النافذة، بحسب القرار رقم 203 الذي نشرته الإنقاذ، والذي ينص أيضاَ على أن يتمتع اتحاد الفلاحين بالشخصية الاعتبارية وحق التقاضي والتمثيل أمام المحاكم وبموازنة مستقلة. وجاء هذا القرار بعد عدة قرارات اتخذتها في الإطار ذاته، أهمها إحداث المديرية العامة للمشتقات النفطية.
وقال الباحث في الشأن السوري محمد السكري أن "هناك تركيزا واضحا على تعزيز دور النقابات في مناطق المعارضة السورية، ليس فقط لدى حكومة الإنقاذ وإنما كذلك لدى الحكومة السورية المؤقتة، وهذا يرجع لسبب جوهري هو بروز مبادرة مجموعة من هذه النوعية أي النقابات من قبل شرائح المجتمع الساعي للتغير الطويل".
أضاف السكري خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا" أن " هذا الاستنساخ لمثل هذا النوع من النقابات والاتحادات تتمتع عادة بكونها بعيدة عن السلطة، أي تغيب عنها معايير السيطرة والتوجيه والأدلجة من قبل مؤسسات سلطات أمر الواقع. لذلك، تسارع تلك السلطات بالدفع لإنشاء تلك النقابات أو التغلغل فيها وهيكلتها لكي تكون تحت مراقبتها، ومثال على ذلك؛ في الحكومة المؤقتة عندما تم إنشاء اتحاد طلبة سوريا في تركيا وامتد لمناطق المؤقتة والإنقاذ كنقابة واحدة في العام 2020 قامت كل من المؤقتة والإنقاذ بالعمل وبشكل منفرد على تأسيس كيانين موازيين تحت المسمى ذاته بهدف السيطرة".
يضيف السكري "الهدف من الاستنساخ هو أن يتم تصديره كأنه في إطار مأسسة العمل التنفيذي ولكن واقع الأمر هو جبهة تقدمية جديدة بأدوات ومنهج حداثي بعض الشيء وفي الغالب تعمل على تلك النماذج حكومة الإنقاذ، وعلى أيّ حال، نجاح هذه التجارب منوط بقدرة سلطات أمر الواقع في الاستمرار وهذا حقيقة غير وارد وسط الاستياء الشعبي والسخط الذي قد يوّلد موجة من الاحتجاجات الكبيرة في أيّ لحظة في ظل غياب أبسط مقومات الحياة وانعدام الاستقرار".
تحرير الشام توجه رسائل للداخل
مساعي تحرير الشام في إطار استنساخ مؤسسات الدولة السورية في إدلب، وتحديداً بعد تأسيسها الاتحاد العام للفلاحين، أثارت الجدل في الأوساط الجهادية التي تراقب عن كثب مجموعة التحولات الطارئة، فقد سبق الإعلان عن تأسيس اتحاد الفلاحين عدة إجراءات مكنت الإنقاذ عبر وزارة الزراعة والري من الهيمنة على القطاع الزراعي وباتت إلى حد ما قادرة على فرض سياسات وخطط زراعية معينة.
وعملت "الإنقاذ" على الاستحواذ ومصادرة كامل أملاك الغائبين والنازحين الموالين للنظام التي كانت في أيدي قادة ونافذين محليين، وتحاول أن تستثمر كل شبر في المنطقة وصولا إلى خطوط الاشتباك مع قوات النظام في محيط إدلب، وهنا الهدف الكبير لا يتجلى بالضرورة في تحقيق أكبر منفعة اقتصادية بقدر ما تحمله هذه السياسة من رسائل للداخل تلمح لحالة الاستقرار والتنمية وتطور مؤسسات السلطة.
قال الجهادي المناهض لتحرير الشام أبو يحيى الشام على تليغرام "تحرير الشام أجرت الأراضي الزراعية القريبة من الجبهات، واستثمارها وصل حتى خط التماس مع العدو، وبعض الأراضي لم يدخلها أحد منذ 2012 الآن تفلح وتزرع، وتؤجر لرعاة الأغنام ومثالها منطقة المرتفعات الجبلية في ريف اللاذقية الشمالي، إنها تطمينات سياسية وعسكرية وبالمعية منفعة اقتصادية".
تبرز أسماء كثيرة بين قادة ومنظري تحرير الشام الداعين لإعادة إحياء فكر الدولة بإدلب، بينهم أسامة العدني وعبد الرحمن الإدريسي وغيرهم، ويتحدث هؤلاء عن الثلاثية الأهم للسلطة في إدلب كمرحلة أولى والتي يجب أن تتسارع الخطا فيها للوصول إلى الحالة المثالية لمؤسسات الدولة، الأولى الجيش كقوة عسكرية قادرة على "الكفاح والتحرير والدفاع عن أهداف الجماعة ومبادئها وشعبها".
ويأتي الجهاز الأمني ثانياً كقوة قادرة على حماية القاعدة الجماهيرية والشعب كإقليم تنبثق منه سيادة الجماعة، والاقتصاد ثالثا كحالة مادية وقدرة تمويلية، تستطيع تأمين الاستقلال النبيل وعدم التبعية والذي سيكون له دور في الانفراد بالقرار الداخلي والخارجي وتمويل أنشطة الحرب والسلم ومواكبة التطور والبناء والتنمية في بقعة الأرض التي تحكمها الجماعة. وتصنف تحرير الشام باقي القطاعات على أنها أدوات القوة الناعمة، والتي تشمل الإعلام، والثقافة والتعليم والعمل السياسي، ولا بد من تطويرها والعمل عليها في إطار المرحلة الثانية من مسار تعزيز السلطة والهيمنة.
مخاوف من استنساخ آلية عمل النظام في المؤسسات
الباحث السوري يحيى السيد عمر يرى أن "حكومة الإنقاذ تستنسخ مؤسسات الدولة السورية، وهذه المؤسسات ليست من ابتداع الدولة السورية بل هي استنساخ عن تجارب دولية، وتحديداً تجارب الاتحاد السوفييتي سابقاً، لذلك فهذه المؤسسات ليست حكراً على أحد ويمكن لأي حكومة تطبيقها، ولكن يخشى أن يكون الاستنساخ بآلية العمل، فهذه المؤسسة وغيرها لدى حكومة النظام لم تكن ذات فعالية واضحة، وفي مرحلة من المراحل تحولت لعبء على الدولة السورية، فهذه المؤسسات في جوهرها إيجابية لكن العبرة في التطبيق على أرض الواقع".
أضاف عمر خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا" أن "مساعي تحرير الشام في استنساخ مؤسسات الدولة لن تنجح بتحقيق أهدافها دون وجود بيئة حوكمة وشفافية، وهو ما تفتقده حكومة الإنقاذ التابعة لها، لذلك فمن المتوقع أن لا تحدث هذه المؤسسات أثراً حقيقياً ما لم يتم اتباع أساليب إدارية حديثة وقادرة على قيادة هذه المؤسسات".
من جهته يرى الباحث في مركز الحوار السوري أحمد قربي خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا" أن "هدف تحرير الشام استنساخ تجربة النظام في التعامل مع المجتمع المدني، فحافظ الأسد ربط المجتمع بالدولة، وجعل المؤسسات والنقابات والاتحادات كخادم مطيع لسياسات السلطة، وربط أيضا المنظمات والأنشطة الخيرية والتطوعية بالسلطة وبأهدافها، وتحرير الشام تسير في الاتجاه ذاته على ما يبدو".