بدأت "هيئة تحرير الشام" منذ بداية شهر كانون الأول بالترويج لفيلم تسجيلي يحكي قصص مجموعة كبيرة من "العملاء والمخبرين" بمناطق سيطرتها في إدلب، كانت قد اعتقلتهم خلال فترات متقاربة خلال العامين الماضيين، وذلك بعد أن ثبت تورطهم بالتعاون والتنسيق المباشر مع الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري.
وتضمنت حملة الدعاية للفيلم الذي عرض في النصف الثاني من الشهر ذاته تعليق لافتات كبيرة في الساحات العامة وعلى جدران المساجد وفي الأسواق.
الاحتفاء بالإنجاز "الفريد"
واحتفى قادة تحرير الشام وجهازها الأمني بما اعتبروه "منجزاً فريداً" والذي عرض وفق تصريحاتهم "نتاج جهد أمني واسع وسهر طويل للمسؤولين في الجهاز على أمن وراحة ملايين السوريين في المنطقة، حيث وضعوا نصب أعينهم هدفاً كبيراً، وهو فك شيفرة الشبكات العملية المسؤولة عن العمليات الإجرامية التي تستهدف عادة التجمعات المدنية والمواقع الحيوية".
وما إن عرض الفيلم في المنصات والمواقع التابعة لتحرير الشام في مواقع التواصل الاجتماعي حتى راحت مجموعات تتبع للجهاز الأمني توزع مناشير ورقية تحذر من خطر العمالة والوقوع فيما سموه "فخ الخيانة" والعمل لصالح جهات معادية، وزاد عدد المنشورات التي وزعها عناصر الجهاز على أبواب المساجد والساحات وفي الأسواق العامة وتلك التي لصقوها على الجدران على 60 ألف منشور ورقي.
يقول الجهادي التونسي في صفوف تحرير الشام عبد الرحمن الإدريسي في تليغرام: "وصل عدد مشاهدات إصدار العملاء المصير الخاسر على فيس بوك فقط إلى أكثر من 130 ألف مشاهدة خلال48 ساعة، كما أن تفاعل الناس مع الإصدار ومع العمل الجبار الذي يقوم به أبطال الجهاز يدعو للفخر والاعتزاز".
محتوى جديد وموجه
لا يختلف فيلم العملاء والمصير الخاسر عن الإصدارات المرئية التقليدية التي سبق لتحرير الشام أن نشرتها خلال الأعوام الماضية وذلك من الناحية التقنية وطريقة العرض التي تعتمد على عناصر الجذب وشد المشاهد، لكن المحتوى بدا مختلفاً هذه المرة ومن نواحِ أخرى، أهمها طريقة تناول الحدث والجريمة المفترضة للشخصيات التي عرضها الفيلم.
وكذلك بدا الاختلاف من ناحية اختيار ضيوف الفيلم من المسؤولين في الجهاز الأمني، والذين رافقوا مراحل العرض كمعلقين لتبيان التفاصيل حول كل شخصية ودوافعها من منظور جنائي ونفسي واجتماعي مبتعدين كل البعد عن الخط التقليدي للتيار الجهادي الذي يفسر عادة الحيثيات والدوافع من منظور ديني. والضيوف المعلقين، ضياء العمر، المتحدث الرسمي باسم جهاز الأمن العام، وجمال مصطفى، مرشد نفسي يعمل في الجهاز، وحذيفة عبد الرحمن قيادي آخر في الجهاز.
وارتدى المتهمون الذين عرضهم الفيلم ثياباً موحدة، باللون والشكل، تشبه إلى حد كبير ثياب ممثلي المسلسل التلفزيوني السوري "المحكوم" والذي عرض أواخر القرن الماضي، تنقلت الكاميرا باستمرار بين الشخصيات التي لم تبدُ عليها آثار تعذيب وغطيت وجوه السيدات اللواتي من المفترض أنهن متورطات بالعمالة، وكل شخصية قدمت عرضاَ سريعاً حول عملية تجنيدها لصالح أمن النظام والمهام التي وكلت بتنفيذها.
وتنوعت أشكال العمالة والمهام، بين زرع عبوات ناسفة، وسيارات ملغمة وتفجيرها ورصد تحركات عسكر تحرير الشام والأرتال ونقاط التمركز العسكرية التركية، وتصوير مواقعها وتحديدها، ورصد عسكري استفاد منه النظام أثناء الحملات العسكرية، بالإضافة إلى متابعة ورصد عدد كبير من الأفراد العاملين في المنظمات والمؤسسات والوجاهات المحلية في عدد من المناطق.
"سلوك العملاء النفسي"
خصصت مساحة كبيرة في الفيلم لصالح المرشد النفسي الذي فند الدوافع لكل شخصية، إذ تحدث المرشد النفسي جمال مصطفى "عن نظريات تفسير السلوك الانحرافي لدى العملاء وبأنه يرجع لصراع القيم الحتمي، فأفكار حزب البعث المتجذرة عند العملاء تخالف تماما القيم التي نشأت في المناطق المعارضة".
أما المسؤولان الآخران في الجهاز واللذان استضافهم الفيلم فقد ركزا على شرح جريمة العمالة من الناحية الجنائية، والنظرة الأمنية إلى هذا النوع من الجرائم، والأثر السلبي الذي يخلفه العملاء على المجتمع، وعلى مختلف القطاعات الحيوية.
إمارة أمنية معاصرة
خلت تعليقات مسؤولي جهاز الأمن العام داخل الفيلم التسجيلي من أي مصطلح أو تعبير جهادي/إسلامي، وهو ما أثار جدلاً في الأوساط الجهادية المناهضة لتحرير الشام في إدلب الذي رأت فيه تغيراً جديداً في مسار ونهج تحرير الشام وتحولها ربما إلى نموذج مستجد من الدولة أو الإمارة الأمنية المعاصرة التي تحاكي نموذج دولة يطمح لتأسيسه زعيمها أبو محمد الجولاني، نموذج يعتمد الفصل بين العمل المدني والأمني عن الدين والنظرة الجهادية التي تدلي عادة بدلوها في كل مناسبة.
كما شكك المناهضون لتحرير الشام بمصير العملاء الذين اعتقلتهم تحرير الشام، وبأنهم لن ينالوا محاكمة عادلة في حين تتسم تحرير الشام بالصرامة في قضايا معتقلي التنظيمات الجهادية المناهضة لها، وتشدد عليهم.
وقال المنشق السابق عن تحرير الشام أبو يحيى الشامي في تليغرام: "ألن يكون هناك محاكمات شرعية عادلة بعد هذا الجهد الأمني، لتثبت الحقائق بالأدلة، وينال كل مدان عقابه الذي يستحقه والذي يردع غيره، السجون ذاتها التي يحتجز فيها عملاء النظام لسنوات، تأكل من أجساد وكرامة وحقوق مجاهدين مشهود لهم وأصحاب كلمة حرة أزعجت ذات الجهة التي تصدر الإصدارات الإعلامية"
وأضاف الشامي: "من حقنا أن نذكر مآثر جهاز الأمن وأن نذكِّر بمظالمه وجرائمه، وإن إحدى التجاوزات الخطيرة إبقاء عملاء النظام لسنوات طويلة بلا نتيجة للعمل الأمني الذي أدى إلى كشفهم معززين مكرمين، ربما يقولون إن هذا الأمر من السياسة العامة التي لولي الأمر أن يتصرف فيها، فربما يدعهم ليبادل عليهم، هنا نذكره بالخيبات التي رأيناها في أثناء عمليات التبادل، منها مبادلة العملاء على مال أو أناس يخصون بعض المتنفذين أو أناس لا علاقة لهم بالثورة وربما سجنوا منذ شهر أو أسبوع، صفقة كفريا الفوعة كانت مذهلة فتذكروها".
أما عبد الله الأنيس فقال في تليغرام: "هل لاحظت في الفيلم الأخير اختفاء المصطلحات الإسلامية والشرعية واستبدالها بكلام مثل عدو للمجتمع وقيم الخير، ما شاء الله شغالين شغلهم في الانسلاخ عن الثوب الجهادي".
رد الهيئة
بدوره، رد أسامة العدني العضو في تحرير الشام على المنتقدين للفيلم، بالقول: "لم تكن مشاهد المصير الخاسر مؤلمةً على النظام وعملائه بفقد أذرعهم في المحرر، فقد رأينا من هم محسوبون على الثورة ويتباهون بها قد انبروا للطعن فيما ذُكر في الفيلم بما أوتوا من نفاقٍ ممزوج بحقد أمن منه النظام ولم تأمن منه الأعين الساهرة على أمن المحرر".
وأضاف العدني في تليغرام: " إن الجهود والمخاطر التي بذلها الجهاز حتى تمكن من الوصول إلى هؤلاء العملاء وخلّص المحرر منهم هي جهودٌ لا تستطيع عقول هؤلاء الصغار تصديقها أو حتى الاعتراف بها، وإننا نبشرهم بأن مشاريع العمالة والثورة المضادة تتلاشى واحداً تلو الآخر وما هو قادم سيغضبهم".
النظام يتحمل مسؤولية الفوضى في إدلب
يكشف الإصدار الجديد لتحرير الشام عن تحمل نظام الأسد مسؤولية الجزء الأكبر من الفوضى الأمنية التي عاشتها إدلب خلال الفترة الماضية، وبدا أن كثيرا من العمليات (التفجيرات والاغتيالات وحوادث الاستهداف المباشر) كانت تُلقى المسؤولية في تنفيذها على تنظيمات جهادية، وتنظيم الدولة "داعش" هو من دعمها عبر شبكة واسعة من العملاء، ومن قبض عليهم فعلياً لا يشكلون سوى جزء من مجموعة أكبر لم يصل إليها الجهاز بعد.
رسائل الفيلم
من جانب آخر، حمل إصدار الجهاز رسائل عديدة غير النموذج المعاصر المفترض للإمارة التي يريد الجولاني الترويج لها، رسائل للداخل وهي موجهة لكسب المزيد من الولاء من الحاضنة الشعبية وإلهائها ربما بمنجزات مزعومة عن واقعها المعاشي المتأزم بفعل سياسات حكومتها "الإنقاذ" الاحتكارية الجشعة.
كما أنه تزامن مصادفة مع حملة دعائية يشنها إعلام النظام في هذه الأثناء ضد تحرير الشام باعتبارها التنظيم المسؤول عن عمليات نفذتها جماعة "سرايا قاسيون" في دمشق خلال العامين الماضيين، وبدا أن تحرير الشام ترد بذات الطريقة على النظام الذي لم تعد تعتبره عدواً بقدر ما تعتبره منافساً، وتسعى جدياً لأن تمتلك شرعية القيادة بدلاً عنه.