كانت الساعة الرابعة وسبع عشرة دقيقة، في يوم السادس من شباط بمدينة أنطاكيا التاريخية القريبة من الحدود السورية، عندما انشقت الأرض فبدأت أسرة الناس تهتز، وفي الطابق الثالث من بناء أقيم في حي إيكينجي، استيقظ أنور سعد الدين، اللواء السابق في "الجيش السوري"، على أصوات تكسر الزجاج، وقرقعة أبواب الخزائن، وانسكاب أوعية الطحينة والمكدوس على الأرضية. فقام من سريره، لكنه لم يتمكن خلال ثلاثين ثانية من أن يحفظ توازنه، فقد أخذ البناء يتأرجح، وعندما همد الزلزال، حاول أن يتصل بابنته رولا التي تسكن الشارع نفسه، إلا أن شبكة الخليوي كانت قد انقطعت.
بعد مرور ثلاثين ثانية على وقوع الزلزال الأول، بدأ البناء يهتز من جديد، إلا أن الحركة كانت لأعلى وأسفل هذه المرة، ولأنها كانت عنيفة انهار الجدار الخارجي للمبنى، وبدأ المطر ينهمر. أما الصوت فكان هائلاً، إذ أخذت الخرسانة تتشقق والحديد المسلح بدأ بالانثناء، وتهشمت الصفائح، وأخذ الجيران يصرخون. ومع توقف الاهتزاز بعد مرور دقيقة تقريباً، هبط سعد الدين الذي كان في أواخر الستينيات من عمره برفقة زوجته على السلالم وهما يرتديان ملابس النوم وبخفي البيت، وبعدها خرجا ليواجها البرد القارص.
يتذكر سعد الدين ما جرى فيقول: "أصبحت أنطاكيا كلها سوداء، إذ انقطعت عنها الكهرباء بالكامل"، وانهارت الآلاف من مباني المدينة، وانتشر الناجون في الشوارع، وتجمعوا في الأزقة التي امتلأت بالركام بحثاً عن مساحة مفتوحة، في الوقت الذي انهارت فيه المآذن وتشظت قطع الزجاج أسفل المباني البرجية. توجه اللواء وزوجه باتجاه المبنى الذي كانت ابنته رولا تعيش فيه برفقة زوجها مصطفى وأولادهما الأربعة.
ضرب زلزال ثالث الأرض أثناء توجه سعد الدين لبناء ابنته، ثم ومض برق فأضاء ما تحول إلى قبر مؤلف من أربعة عشر طابقاً، إذ مال هذا البناء التي استكمل قبل أقل من سنتين، ثم سقط نحو الأمام، فسحق الكثير من الناس تحته، عندئذ أحس سعد الدين بأن جسده خلا من أي إحساس، وكأنه ليس بجسده.
خيرة المحققين
لم يكن سعد الدين الشخص الوحيد الذي بحث عن رولا وأسرتها، إذ خلال العقد الماضي، عمل زوجها مصطفى بالسر كنائب لرئيس قسم التحقيقات المعنية بسوريا وذلك لدى اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة، تلك الجهة التي جمعت أكثر من مليون صفحة من الوثائق التي أُخذت من قوات النظام وفروع المخابرات. وعبر الاستعانة بهذه الملفات، أقام محامو اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة بعض الدعاوى الشاملة حول جرائم الحرب والتي تعتبر من أهم المحاكمات منذ محاكمات نورمبيرغ، والتي استهدفوا من خلالها ضباطاً رفيعين لدى نظام الأسد، بينهم بشار نفسه. وبعد الزلزال، وجهت اللجنة تركيزها نحو عمليات البحث والإنقاذ التي تشمل أعضاء الفريق السوري، بما أن أغلبهم نزحوا إلى الجنوب التركي بعد مرور أكثر من عقد على الحرب. وبنهاية اليوم الثالث، أحصي جميع القتلى تقريباً، إذ فقد محققان أولادهما، كما فقد أحدهما زوجته، في حين بقي مصطفى مفقوداً.
طوال الفترة التي عمل فيها مصطفى لدى اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة، أبقت المنظمة هويته سراً، حتى بعدما حصلت على وثيقة من المخابرات السورية تظهر بأن النظام على علم بعمله التحقيقي الذي يجريه وبأنه يسعى وراء القبض عليه، وعنه يقول المشرف عليه، وهو استرالي سنسميه هنا ميك: "كان أفضل المحققين لدي"، وذلك خلال زيارته الأخيرة للحدود السورية-التركية، فقد ساعدت الوثائق التي حصل مصطفى عليها وكذلك المقابلات التي أجراها مع الشهود على رفع دعاوى قضائية في الولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا وألمانيا، وأمام العديد من السلطات القضائية في أوروبا. وبحسب تقديرات اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة، فإن مصطفى إما حصل أو ساهم في الحصول على أكثر من مئة ألف صفحة من الوثائق الداخلية للنظام السوري، وهذا ما جعله من خلال حجم الوثائق والأدلة التي جمعها أهم محقق في جرائم الحرب عبر التاريخ.
بعد مرور اثنتي عشرة سنة على الحرب السورية، نزح نصف سكان سوريا تقريباً، وبعضهم نزح عدة مرات، تحت وطأة ظروف مختلفة عبرت عنها مأساتهم بشكل فردي. ولا أحد يعرف عدد الموتى بالضبط بعدما تجاوز المئة ألف بكثير، ومع ذلك ماتزال جرائم النظام السوري مستمرة، إذ يقول بيل ويلي مؤسس اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة ومديرها التنفيذي: "السجون ملآى وماتزال جميع الجرائم التي بدأت ترتكب على نطاق واسع منذ عام 2011 تمارس حتى اليوم. كما مايزال الاعتقال خارج الأطر القانونية، والانتهاكات الجسدية التي ترقى لمستوى التعذيب والإعدامات الميدانية، والانتهاكات الجنسية، كلها ترتكب حتى الآن، وكذلك الأمر بالنسبة لجرائم الحرب في ساحة المعركة، خاصة ضمن إطار العمليات الجوية، وهنالك أيضاً هجمات كيماوية ماتزال مستمرة، وكل ذلك مايزال يمارس، ولكن طالما بقيت المحاكمات الغربية تتم بالتدريج بموجب الولاية القضائية الشاملة، لذا من الصعب تخيل التطبيع مع النظام".
قبل الثورة السورية، كان مصطفى يعمل محامياً، وكان يعيش ويعمل في مدينة الرستن التابعة لحمص، وأنجب من زوجته رولا ثلاثة أبناء، ثم حملت رولا بالرابع، وفي مطلع عام 2011، عندما خرج السوريون إلى الشوارع ضد النظام الذي حكمهم لنصف قرن، أعلن الأسد بأن كل من لا يشارك بوأد الفتنة يعتبر جزءاً منها. وفجأة، صار وضع مصطفى حساساً، بما أن أغلب أقارب رولا ضباط في الجيش، فقد انضم والدها وأعمامها للقوات المسلحة السورية أيام شبابهم، وخدموا لدى الأسد الأب لسنين طويلة قبل أن يخدموا الأسد الابن، وفي أواسط التسعينات، توفي نجل الأسد الأكبر بحادث سيارة، فاستدعي بشار من لندن وطلب منه قطع دراسته والالتحاق بالأكاديمية العسكرية في حمص، ثم التحق بدورة الضباط، إذ يخبرنا أنور سعد الدين الذين كان وقتئذ عقيداً في الجيش ومهندساً عسكرياً بأن بشار أمضى سنة ونصف في تلك الدورة.
أصبح الأسد رئيساً لسوريا في عام 2000 بعد وفاة أبيه، وخلال العقد التالي مارس سعد الدين مهامه دون تذمر، وفي عام 2003، رقي سعد الدين لرتبة لواء، ومع انطلاق الثورة السورية، كان ابنه الأصغر ملازماً في الجيش وأمامه عامان حتى يسرح منه.
ولد الابن الرابع لمصطفى ورولا في 5 نيسان 2011، وبعد مرور ثلاثة أيام على ذلك، قتلت قوات الأمن عدداً من المتظاهرين بحي بابا عمرو في حمص، بينهم رجل معاق لم يتمكن من الهرب، فسحبه الناس من موقع الحدث وأعادوا جثته المشوهة لأهله في مساء اليوم التالي، ومنذ ذلك الحين تحولت حمص إلى مسرح لأكبر المظاهرات المناهضة للنظام ومورس فيها أعنف أنواع القمع.
في 19 نيسان، تجمهر الآلاف من الناس في اعتصام برج الساعة، وعند منتصف الليل تقريباً، حذر الضباط الناس وأخبروهم بأن من لن يغادر منهم طوعاً سيجعلونه يغادر بالقوة، وبعد ساعتين على ذلك، بقي الناس صامدين في أماكنهم، ولكن عند الفجر، استيقظ أهالي حمص على وقع مجزرة، إذ ذكر أحد الشهود بأن رجال الدين الذين بقيوا في المكان لمعالجة الجرحى والاعتناء بجثث القتلى أعدموا ميدانياً. ويتذكر آخرون كيف أزيلت الجثث بواسطة شاحنات قلابة، وكيف غسلت الدماء التي ملأت الشوارع بواسطة خراطيم المياه.
بعد يوم على وقوع المجزرة، وبحسب الوثائق التي تم الحصول عليها من أعلى لجنة أمنية لدى الأسد، قرر النظام الشروع بمرحلة جديدة من القمع، وذلك لإظهار مدى قوة الدولة واقتدارها، وبعد مرور تسعة أيام على ذلك، قتلت قوات الأسد ما لا يقل عن 19 متظاهراً في الرستن، حيث كان مصطفى ورولا يعيشان. إلا أن مصطفى لم يتدخل بالسياسة ولا بالعمل الحقوقي، باستثناء المناقشات التي كانت تدور حول ضرورة قيام إصلاحات ديمقراطية أساسية، إلا أن الأسلوب الإجرامي الواضح الذي انتهجته قوات الأمن والميليشيات التابعة لها خلال حملتها هاله كثيراً، وأرعبه أكثر أن الأمور كانت تتم دون معاقبة أي أحد عليها. ولهذا شكل أهالي حمص وحدات لحماية الأحياء، وبعدها بمدة قصيرة حملوا السلاح ضد النظام.
مهمة خطيرة وضرورية
بعد مرور بضعة أشهر، تسلل مصطفى هارباً من سوريا ليحضر جلسة تدريبية في تركيا ترأسها بيل ويلي، وهو محقق كندي معني بجرائم الحرب عمل في السابق لدى العديد من المحاكم ولدى المحكمة الجنائية الدولية، وقد لاحظ ويلي وغيره في هذا المجال وجود فجوة في النظام القضائي فيما يتصل بالمحاسبة في سوريا، ولهذا شرعوا بالبحث عن محامين سوريين بوسعهم القيام بهذه المهمة الخطرة والضرورية في آن معاً. وعلى الرغم من عدم تشكيل محكمة خاصة بسوريا، وذلك لأن روسيا والصين عرقلتا المساعي الداعية لإحالة ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، فكر ويلي وزملاؤه بأن عملية جمع الأدلة لن تكلف أكثر من عناء تحمل المخاطر والأمور اللوجستية، وذلك لأن عمل المحققين الجنائيين يختلف عن عمل المنظمات الحقوقية غير الحكومية، مثل منظمة العفو الدولية أو منظمة هيومان رايتس ووتش لكونهما تنشران وتوزعان تقارير حول الانتهاكات والتجاوزات المريعة، إلا أن ويلي درب مصطفى وغيره من السوريين حضورياً على جمع أنواع معينة من الأدلة التي يمكن أن تسمح للنيابة بإيقاع المسؤولية الجنائية الفردية على ضباط رفيعين في الجيش والمخابرات. فمقطع الفيديو الذي يظهر الدبابات وهي تطلق نيرانها على المتظاهرين العزل قد يؤثر في الرأي العام، ولكن جمع عدد كبير من الاتصالات العسكرية التي تثبت من هو المسؤول عن تلك العملية من قادة الجيش قد يتسبب بسجن أحد الجناة في يوم من الأيام.
وعن ذلك يعلق ويلي بالقول: "كانت المهمة الأولى تحري مادة من مصدر أولي، أي الوثائق الصادرة عن النظام على وجه الخصوص، إذ كنا نبحث عن أدلة ظاهرة لا مصنعة من قبل المخابرات أو تلك المعلومات التي تنشر لتصل للعامة".
على الفور، أدرك مصطفى مدى أهمية هذا المشروع، وهكذا أخذ في النهار يزاول عمله في مجال القانون، أما في السر، فقد بدأ بجمع المصادر ضمن المعارضة المسلحة، إذ كلما سيطرت المعارضة المسلحة على منطقة جديدة، كان يذهب إلى المقرات الأمنية والمخابراتية فيها، فيفتح صناديق الوثائق، وينقلها إلى أماكن سرية، مثل المزارع الريفية أو الكهوف، بعيداً عن خطوط المواجهة.
يتذكر ويلي أمر مصطفى فيقول: "بحلول عام 2012، أصبح لدينا تسلسل هرمي لنظام معين"، كما حصل على تمويل من الدول الغربية، ثم استقرت المجموعة على اسم وهو اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة، ويتابع ويلي بالقول: "أصبح لدينا شباب في الرقة وإدلب وحلب وغيرها، أي شخص واحد على الأقل في كل منطقة مهمة". وهكذا أخذت اللجنة تشكل فرقاً تابعة لها، وكل فرقة مؤلفة من شخصين إلى أربعة أشخاص يعملون تحت قيادة خلية في كل منطقة، ويتابع: "كان مصطفى أهم رجل لدينا في حمص".
من موقع سلطة إلى موضع شك
سرعان ما ألفى أنور سعد الدين نفسه وهو يستغل سلطات منصبه حتى ينقذ أقربائه من النزاع، فقد اعتقل عناصر الجيش ابنه الأصغر الذي كان ملازماً على أطراف دمشق بعدما أبلغ عنه ضابط في قطعته بأنه يشاهد قناتي العربية والجزيرة، وبحسب الاتصالات الداخلية للجيش التي تمكنت اللجنة الدولية للمحاسبة والمساءلة من الحصول عليها لاحقاً، فإن الأسد اعتبر نقل المحطات الأجنبية للأخبار من سوريا بمثابة حرب نفسية هدفها خلق بلبلة داخل الدولة.
يتذكر سعد الدين كيف اعتقل ابنه، فيقول: "تدخلت فقط لأخفف فترة الاعتقال إلى ثلاثين يوماً"، وبعد ذلك علم بأن مصطفى أصبح مستهدفاً من المخابرات العسكرية في حمص التي يترأس فرعها المعروف بالفرع 261 أحد أصدقاء سعد الدين، واسمه محمد زمريني.
لم يدع مصطفى لأي ثورة مسلحة، ولم يكن النظام ولا والد زوجته وقتئذ يعرفان عن علاقته بويلي واللجنة الدولية للعدالة والمساءلة. إلا أن الفصائل الثورية كانت نشطة في الرستن، وكان المعروف عن مصطفى أنه كان يطلب منهم ألا يتعرضوا للمنشآت العامة بأي تدمير، وكان ذلك بنظر المتشددين لدى النظام يرقى لحالة تعاون مع تلك الفصائل، ويعلق سعد الدين على ذلك بقوله: "توجهت أنا ومصطفى إلى الفرع"، فوافق زمريني على حبسه كإجراء شكلي، لمدة عشرين ساعة تقريباً، مع استجوابه بشكل طفيف دون تعذيبه أو توجيه أي إساءة له، وبذلك بوسعه شطب اسم مصطفى من القائمة الموجودة لديه.
خلال الأشهر القليلة التالية، تدهور الوضع الأمني بسرعة، فطوق "الجيش" الأحياء الثائرة القريبة من حمص وأخذ يدكها بالقصف. ثم اعتقل ابن سعد الدين الذي كان يخدم بالقرب من دمشق للمرة الثانية، ومن أجل إطلاق سراحه، توسل سعد الدين لمكتب آصف شوكت، صهر الأسد، ونائب وزير الدفاع وقتئذ. أما في حمص، فقد أخذ سعد الدين يوصل مصطفى بسيارته من وإلى عمله، إذ بما أنه لواء في الجيش، لذا بوسعه نقل ركاب معه ليمروا عبر الحواجز الأمنية دون أي تفتيش أو اعتقال.
بيد أن سعد الدين ألفى نفسه في وضع لا يحسد عليه، إذ أحس بأن سياسة النظام القائمة على العنف لابد أن تؤدي إلى تدمير البلد، فصار في ربيع ذلك العام يكشف عن مخاوفه وإحباطه أمام زملائه وأصدقائه المقربين، وبينهم قائد قطعة ابنه، لكن تلك اللعبة كانت خطرة، لأن أعلى لجنة أمنية لدى الأسد أبلغت رؤساء فروع الأمن في كل المناطق بأن عليهم ملاحقة عملاء الأمن المترددين أو غير المتحمسين لتنفيذ مهامهم. وبحسب تحقيق أممي، تم اعتقال بعض الضباط وتعذيبهم لمحاولتهم عدم استهداف المدنيين عندما وجهت إليهم أوامر بإطلاق النار عليهم.
في ربيع ذلك العام، وعلى غير العادة، أوقف حاجز أمني سيارة سعد الدين، فكانت تلك أول مرة لم يمثل فيها منصبه حالة حماية من التحقيق والاستجواب، بل تحول إلى سبب للتشكيك بولائه، إذ كان النظام يخسر المناطق بسرعة، وبخروج النزاع عن سيطرته، اكتشف الكثير من الضباط الكبار بأن مدى استعدادهم للمواصلة قد بلغ حده، ولهذا وصل سعد الدين هو وأشقاؤه إلى المرحلة التي يتعين عليهم معها إما أن يقفوا مع النظام ويشاركوا في الجرائم التي يرتكبها أو أن ينشقوا عنه.
فرصة جديدة
في تموز من ذلك العام، جمع سعد الدين أشقاءه وأبناءه وأبناء أشقائه والعديد من ضباط الجيش أمام كاميرا صغيرة، في منطقة قريبة من الحدود السورية-التركية، ثم أعلن وهو يرتدي بزته الرسمية بأن الجيش الذي أعلن الولاء له قبل أربعة عقود قد انحرف عن المسار المرسوم له، وانقلب ضد الشعب. وتكريماً لصمود الشعب السوري أمام الاعتداءات الهمجية التي تنفذها عصابات الأسد الدموية، قرروا جميعاً الانشقاق عن الجيش. كان ذلك الانشقاق أحد أكبر الانشقاقات الجماعية لضباط سوريين، وقد خطط سعد الدين للعب دور قيادي في الثورة، أي في القتال من أجل الحرية حتى تحقيق النصر أو الشهادة على حد تعبيره. إلا أن زملاءه السابقين أرسلوا جنوداً ليدمروا بيوت المنشقين وأهلهم، كما انتزعوا منهم ملكية أراضيهم وقتلوا العديد من أقاربهم.
في تلك الأثناء، سيطرت العديد من الفصائل الثائرة على المناطق القريبة من الحدود السورية مع تركيا، فقطع سعد الدين الحدود مع أهله وانتقل للعيش في مخيم للاجئين أقامته الحكومة التركية لضباط الجيش والمخابرات المنشقين. ثم عاد أدراجه إلى سوريا ليقوم بتوحيد الفصائل الثائرة وتنظيمها في القتال ضد زملائه السابقين.
إلا أن مصطفى وأهله ظلوا في الرستن التي أصبحت تحت سيطرة الثوار حينئذ. غير أن فقدان النظام السيطرة على الحدود مع تركيا يعني بأنه صار بوسع اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة أن تنقل الوثائق التي أصبحت بحوزتها خارج سوريا.
يتذكر ويلي كيف تم ذلك فيقول: "كانت العملية معقدة، بسبب عدم وجود حدود فاصلة بين خطوط المواجهة، ولوجود العديد من الجهات التي كانت تعادي اللجنة بشكل صريح" أي أن الأمر لم يقتصر على النظام فحسب، بل أيضاً على عدد من الفصائل المتطرفة التي تشك بأمر كل من يتعامل مع منظمة غربية غير حكومية. وخلال عملية إخراج أول دفعة من الوثائق، استهدف الشخص الذي ينقلها وأصيب بجراح، وأثناء العملية التالية، اختفى الشخص الذي يقوم بنقلها والذي كانت بحوزته حقيبة مليئة بالوثائق، ويعلق ويلي على ذلك بقوله: "لعله اعتقد بأنه بوسعه بيعها"، ولهذا جند مصطفى أحد أبناء عمومته لينقل بعض الملفات إلى تركيا، ولكن بعد التسليم، وهو في طريق عودته إلى الرستن، استقل ابن عمه حافلة صغيرة، لكنها تعرضت لكمين نصبته قوات النظام، وعنه يقول محقق سوري آخر لدى اللجنة وسنسميه هنا عمر: "أطلقوا عليه النار ولم يتضح إن كان قد أصيب أو توفي عندما أخذوه". خلال الأسابيع التالية، أخذ عملاء النظام يبتزون مصطفى، إذ أخبروه بأنهم بوسعهم أن يفرجوا عن ابن عمه إن دفع 200 ألف دولار، ولكن عندما سألهم مصطفى عن دليل يثبت بأنه مايزال حياً، رفضوا تقديمه له، ما يشير إلى أنه فارق الحياة في السجن.
خطة محكمة
في تلك الأثناء، أصدر ويلي أوامر جديدة بخصوص عملية إخراج الملفات، وعنها يقول: "أخبرتهم بضرورة وجود خطة، ويجب أن أكون على علم بتفاصيلها، إذ يجب أن أعرف كيف يصل أ إلى ب، وما هي المخاطر القائمة بينهما، وكيف سيذللون تلك العقبات، بدلاً من أن يكتفوا برمي المواد في السيارة ثم المغادرة والاكتفاء بالتسليم بقضاء الله".
أمضى سعد الدين سنة ونصف خلال تلك الفترة وهو يحاول تنظيم جماعات الثوار المتفرقة ضمن قيادة موحدة، ولهذا سافر إلى الشمال السوري حيث استولى الثوار على مناطق جديدة، والتقى بكل أنواع الثوار، بدءاً من المنشقين العلمانيين وصولاً للقادة الميدانيين المتشددين، وبحلول صيف عام 2013، خرجت معظم المناطق في الشمال السوري عن سيطرة النظام، بدون أن تظهر حالة تماسك قوية بين فصائل الثوار، ثم ظهر تنظيم الدولة والقاعدة وحاولا استغلال الفراغ في السلطة ضمن مناطق الثوار. يتذكر سعد الدين أنه وبخ أحد قيادات تنظيم الدولة، وكان تونسي الجنسية، وذلك لإثارته النعرات المذهبية والعرقية، ولفرض حالة من التطرف على الأهالي، وعن تلك الحادثة يقول: "رد علي بوصفي بالكافر، وأشار عليهم بقتلي".
وفي الرستن، اخترقت قذيفة للنظام بيت مصطفى لكنها لم تنفجر، فانتقلت رولا وأولادها إلى قرية الريحانية التركية القريبة من الحدود، حيث يمكنك تناول الكباب وأنت تراقب الأغنام وهي ترعى في سوريا. كما أنها تبعد مسافة مسيرة قصيرة بالسيارة عن مخيم الضباط المنشقين، حيث كانت والدة رولا والعديد من قريباتها وأقربائها يعيشون، لكن مصطفى بقي في سوريا لينفذ عمليات التحقيق لصالح اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة.
يتذكر عمر ما جرى فيقول: "عند تحرير مناطق جديدة، يتم اقتحام أفرع الأمن، فيستولي كثيرون على الملفات"، دون أن يستوعب البعض منهم مدى أهميتها، إذ قام أحد الجنود بإحراق الملفات طلباً للدفء، ويضيف عمر: "لكن أغلب الناس يدركون أنها ستكون ذات نفع في يوم من الأيام، لكنهم لا يدرون ما يفعلون بها في الوقت الحالي، ولهذا يحتفظون بها، أما التحدي فيكمن في تحديد الأشخاص الذين سيحتفظون بنوع معين من الملفات في مكان معين".
ولكن قبل أن يمضي وقت طويل كان مصطفى قد أسس شبكة واسعة من المعارف في المناطق الثائرة، فانتشر خبر جمعه للوثائق، وهكذا أصبح الناس يشيرون على آخرين بأن يحيلوا تلك الملفات له عند حيازتهم لها. وفي بعض الأحيان، كان البعض يرفض تسليمه النسخ الأصلية، إلى أن يسرد لهم الخطوط العريضة للأهداف التي حددتها اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة ومسارات المحاسبة، وهذا ما يجعلهم يلينون، ويدركون بأنه سيستخدمها لصالح الناس.
مخابرات الأسد تكتشف السر
ومع ذيوع صيته في مناطق الثوار، احتفظ مصطفى بسريته بشكل كبير، إلا أنه كان يطلب من والد زوجته بين الفينة والأخرى أن يعرفه على ضباط منشقين عن الجيش والمخابرات. يتذكر سعد الدين تلك المرحلة فيقول: "كنت أعرف طبيعة عمله، لكني لم أناقشه بالأمر"، إذ أدرك الجميع ضرورة تقسيم المعلومات الحساسة، وذلك لحماية العائلة. يتابع سعد الدين بالقول: "كانت زوجتي لا تعرف ماذا أفعل في بعض الأحيان، ولكني أدركت في مرحلة من المراحل، من خلال المقابلات التي أجراها، بأن مصطفى أصبح يعرف هؤلاء الضباط المنشقين أكثر مما أعرفهم".
في عام 2014، أعاد ويلي رسم هيكلية عمل الفريق السوري لدى اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة، وبما أن مصطفى أصبح نائب رئيس التحقيقات، لذا فقد بات يقود الخلايا التابعة للمنظمة في مختلف المناطق، وعنه يقول ويلي: "كان متميزاً في العثور على الوثائق، كما كان يعرف بالقانون والأدلة، وكان نظراؤه يحترمونه، لتمتعه بتعاطف صادق، ترجمه عبر إجراءه مقابلات لطيفة مع الضحايا والجناة على حد سواء".
وبحسب ما ذكره عمر، فإن مصطفى خفف من ظهوره في التجمعات الاجتماعية، إذ صار يتحجج بالأسرة أو بالعمل، وعن ذلك يعلق ويلي بالقول: "كنت أعرف بأن ذلك شيء مكرر وممجوج، لكنه كان رب أسرة بحق، ولكن المجال الذي تميز فيه هو المجال التنفيذي، لأننا في نهاية الأمر لسنا بحاجة لرب أسرة طيب".
في صيف ذلك العام، علمت مديرية المخابرات العامة لدى الأسد بأمر نشاطات اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة، وذلك قبل أن يظهر اسمها في الإعلام والصحافة بفترة طويلة. إذ في وثيقة أرسلت لما لا يقل عن عشرة فروع للمخابرات، ثم حصلت عليها اللجنة فيما بعد، عرفت المديرية عن مصطفى بأنه "نائب رئيس اللجنة"، وأوردت أسماء أهم المحققين في كل خلية من خلايا اللجنة الموزعة على المحافظات السورية. وفي ختام الوثيقة، كتب رئيس المديرية بخط يده أوامر تقضي باعتقالهم جميعاً هم وكل المتعاونين معهم.
في تلك الأثناء، لم تستسغ الحكومات الغربية التي تعهدت بدعم جماعات المعارضة السورية العلمانية، الوضع في شمالي سوريا، إذ لم يكن هنالك من سبيل يضمن عدم وصول السلاح المقدم لأي فصيل مسلح علماني إلى يد الجهاديين، كما بدأ سعد الدين يفقد الأمل في الثورة، وزاد إحساسه بذلك عندما قتلت قوات الأسد أكثر من ألف مدني بغاز السارين، ثم تراجعت إدارة أوباما عن التزامها بالخط الأحمر الذي حذرت من خلاله بالانتقام وبرد على استخدام الكيماوي، وعن ذلك يقول: "فقدت كل إيماني وثقتي بالمجتمع الدولي في تلك المرحلة، إذ شعرت بأنهم لا يريدون لسوريا أن تتحرر، بل أن تبقى كما هي"، ولذلك انتقل سعد الدين إلى مخيم الضباط المنشقين في الجنوب التركي، وبقي هناك وهو يحس بأن التعفن قد أكله بسبب إحساسه بالعجز والإحباط، واستمر وضعه كذلك طوال العقد الذي تلا تلك المرحلة.
تواصل الصحفي كاتب هذه السطور للمرة الأولى مع اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة في أواخر صيف عام 2015، وخلال تلك المرحلة، كانت اللجنة قد هربت من سوريا أكثر من ستة آلاف وثيقة، وأعدت مذكرة قانونية أناطت من خلالها المسؤولية الجنائية الفردية بالنسبة لعمليات التعذيب والقتل التي تعرض لها الآلاف في المعتقلات إلى ضباط رفيعين في أجهزة الأمن والمخابرات السورية، بينهم الأسد نفسه. وخلال السنين التي أعقبت ذلك، وسعت اللجنة عملياتها في العراق وماينمار وليبيا وأوكرانيا، إلا أن سوريا بقيت الأساس.
آلية العمل
يتذكر ويلي الوضع فيقول: "بالنسبة لاجتياح المعارضة لمناطق النظام، فقد توقفت تلك العمليات فعلياً في أيلول 2015، عند تدخل الروس"، وخلال السنوات التالية، أخذت الطائرات الحربية الروسية تقصف المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار، في حين دعمت جماعات المرتزقة الروسية والميليشيات الإيرانية وحزب الله قوات الأسد على الأرض. وفي تلك الأثناء، هدأ القتال على الجبهات، وانقسمت سوريا إلى مناطق خاضعة لسيطرة النظام، وأخرى تحت سيطرة المعارضة، ومناطق خاضعة للسيطرة التركية، وأخرى للسيطرة الكردية. إلا أن مصطفى وغيره من المحققين واصلوا البحث عن كنوز من الوثائق التي توزعت على مواقع سرية مختلفة، وعن ذلك يقول ويلي: "كنا نحصل على الوثائق من مناطق مختلفة، ثم نضعها في مكان واحد"، أما عمر فيخبرنا بأن أفضل المواقع كانت تلك القريبة من الحدود، وذلك للحد منه خطر تعرضها للإتلاف في حال استعاد النظام المنطقة، ويضيف: "كان مصطفى يمضي في بعض الأحيان أسبوعاً ونيف وهو يعد لعمليات إخراج الوثائق، فكان ينام في الخيام" داخل المخيمات المليئة بالنازحين من المدنيين، وهو يتحين اللحظة المناسبة لينقل الملفات إلى أقرب نقطة من الحدود.
في مقر اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة، في مكان ما بأوروبا الغربية، أقامت اللجنة دعاوى قضائية ضد ضباط رفيعين في المخابرات، وعلى رأسهم العميل المزدوج خالد الحلبي، كما قدمت أدلة للنيابة الأوروبية التي كانت تحقق بأمر أهداف أقل أهمية في مختلف أنحاء القارة الأوروبية. وخلال السنوات القليلة الماضية، أرسلت النيابة في الدول الغربية وكذلك أجهزة الشرطة فيها مئات الطلبات للمساعدة في التحقيق إلى مقر اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة، وفي حال عدم الوصول إلى إجابة شافية على تلك التساؤلات في الملفات الموجودة، يحيل المحللون تلك الاستفسارات عبر ميك، وهو أسترالي يقيم في الجنوب التركي، إلى السوريين على الأرض، وعن ذلك يقول ويلي: "لا نخبرهم من السائل، أو من هم المشتبه بهم، بل نعلمهم بأننا مهتمون بالشهود بناء على قاعدة جرمية معينة، مثل وجود مقر أمني- مخابراتي، حالة قتل ثابتة، عملية إعدام، أو أي شيء من هذا القبيل، وبعد ذلك يحددون الشهود، ثم نجري مقابلة بغرض الفرز". ويخبرنا ميك بأن أول عضو في الفريق يتوجه له عادة هو مصطفى، وذلك بسبب شبكة علاقاته الواسعة والمتينة.
الإنجاز
خلال ذروة أيام جائحة كورونا، جمع مصطفى إفادات لشهود ضد ثلاثة من المقاتلين السوريين في تنظيم الدولة والذين نشطوا في قرية قصية في البادية السورية ومنها انتقلوا لدول عدة في أوروبا الغربية، وقد ألقي القبض على هؤلاء الثلاثة بعد وفاته.
لعل أهم مساهمة قدمها مصطفى في مجال القضايا الجنائية التي رفعتها اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة تتمثل في أشمل مذكرات التحقيق وأشدها سرية والتي اطلعت عليها نيويوركر في مقر اللجنة خلال هذا الربيع، إذ تتلخص في وثيقة مؤلفة من ثلاثمئة صفحة، وتشتمل على ألف وثلاثمئة حاشية، وفيها تم تحديد المسؤولية الجنائية الفردية عن جرائم الحرب المرتكبة خلال فترة حصار النظام لبابا عمرو في عام 2012، ذلك الحي الذي يقع في جنوبي مدينة حمص التي تعود أصول مصطفى إليها، أما الحالات الأخرى التي وردت فيها فركزت على التعذيب في السجون، وتعتبر هذه المذكرة أول مذكرة سورية حول جرائم الحرب تركز على أسلوب الأعمال العدائية، وتحدد بتفاصيل وتسلسل زمني مدهش ترتيب الجرائم التي تتراوح ما بين القصف العشوائي وصولاً إلى الإعدامات الجماعية بحق المدنيين الذين جرى اعتقالهم وقتلهم في مستودعات ومعامل أثناء اجتياح قوات النظام لتلك المنطقة. وهذه المذكرة التي باتت تعرف باسم مذكرة حمص والتي جمع مصطفى معظم الأدلة الواردة فيها تحدد أيضاً المسؤولية الجنائية على القادة الأفراد من فرقة الدبابات الثامنة عشرة التابعة للجيش السوري، بما أنها الفرقة التي نفذت الاقتحام.
يعلق ويلي على ذلك بقوله: "كان يعتقد بأنه يسهم في جعل سوريا مكاناً أفضل، لكنه لم يكن يدري كيف ومتى سيتم ذلك، بيد أنه كان مؤمناً بما يفعله، إذ كان بوسعه أن يهرب وبإمكاننا أن نأتي به إلى كندا، فقد ناقشنا ذلك، بما أن ابنته كانت تعاني من مشكلة قلبية خلقية" لكنه بقي في مكانه.
خلال العام الماضي، اشترى مصطفى شقة في الطابق الحادي عشر من بناء برجي جديد في أنطاكيا، انتقلت إليه عمة رولا هي أيضاً، كما غادر أهلها مخيم الضباط المنشقين وانتقلوا إلى مبنى طابقي آخر في الشارع نفسه الذي تقيم فيه. وبعد مرور بضعة أشهر على ذلك، يتذكر ميك ما جرى فيقول: "قال لي مصطفى: عندما أكون في البيت مع أسرتي لا أكترث بكل ما يجري في الخارج، إذ لا يهمني إن قامت الحرب أم لا، وذلك لأنني أحس بالسلام في بيتي".
زار ميك مصطفى في بيته خلال شهر كانون الأول الماضي، وعندما اهتزت الأرض من تحتهما، يتذكر ميك شعوره فيقول: "لقد أفزعني ذلك، إذ كانت تلك أول مرة أحس فيها بهزة"، إلا أن مصطفى ضحك وقال له بأن ذلك يحدث طوال الوقت، ثم خرج لتفقد وضع رولا والأولاد الذي أخبروه بأنهم لم يحسوا بها.
بعد مرور شهرين على ذلك، صحى ميك من نومه على خبر وقوع زلزال مروع، فحاول أن يتصل بالفريق السوري الذي يتعامل معه، إلا أن شبكة الخليوي انقطعت في أنطاكيا، كما من المستحيل السفر إلى هناك نظراً لخروج مطار المدينة عن الخدمة، فضلاً عن بعض الطرق الأخرى في تركيا.
خرجت شقيقة صلاح الدين حية من بين الأنقاض، وكذلك نجا زوجها من الزلزال، لكنه توفي في المشفى فيما بعد قبل أن يعرف أحد من أهله مكان وجوده. وخلال اليوم الرابع من عمليات البحث والإنقاذ، عثر على جواز سفر مصطفى بين الأنقاض، ثم حاسوبه المحمول، بعده خاتم زواجه، وعن تلك اللحظات يقول عمر: "عندما عثروا على الجثث، كان مصطفى قد احتضن ابنته، وزوجته احتضنت ابنه، وكان بقية الأطفال يحتضن كل منهم الآخر".
أمضى عمر ليال عدة وهو ينام في سيارته برفقة زوجته وأطفاله الستة، وحدثت خلال تلك الفترة الآلاف من الهزات الارتدادية في المنطقة، لذا عندما التقى به الصحفي في نيويوركر على بعد مئات الأمتار من الحدود السورية، كان يتضايق من أي صوت ويحسب أنه مؤشر لانهيار أحد المباني، أما نفسه فكان قصيراً، وعيناه مغرورقتان بالدموع، وذلك لأن مصطفى كان من أعز أصدقائه، وقد فقد 11 صديقاً آخر في الزلزال، وجميعهم كانوا نازحين من القرية نفسها الواقعة في الشمال السوري. ولكن عندما قدم أصغر أولاده إلى الغرفة، أشاح وجهه وهو يقول: "نحاول أن نخفي خوفنا وحزننا عن أطفالنا، حتى لا يشعروا بضعفنا".
مقعد شاغر
بعد مرور بضعة أسابيع على الزلزال، أصبح أحد المقاعد في دورة التحقيقات الجنائية الدولية المقامة بلاهاي خاوياً، إذ كان من المفترض أن يحضر مصطفى تلك الدورة، وعن ذلك يقول ويلي: "بوسعنا أن نخفف آثار الحرب، إلا أننا نقف عاجزين أمام الحظ العاثر، ولهذا لم نأخذ بالحسبان من الناحية المؤسساتية وقوع أي زلزال". عمل ميك على تنسيق المساعدات الإنسانية المخصصة للمحققين النازحين، ويعلق ويلي على ذلك بقوله: "عدنا للعمل بسرعة فائقة" فقد حل عمر اليوم محل مصطفى في ترؤس المهام، ويتابع ويلي بقوله: "علينا ألا ننسى مدى مرونة هذا الفريق المؤلف من لاجئين، وجميعهم خسروا بيوتهم وفقدوا كل العاملين لديهم".
مع وصولنا لمنتصف شهر نيسان، أي بعد الزلزال بشهرين اثنين، سويت أغلب المناطق في أنطاكيا بالأرض تماماً، أما ما بقي منها فمايزال متصدعاً ومعطلاً، ولهذا هجرها أصحابها تماماً، بما أنها أصبحت آيلة للسقوط. أخذ ميك يسير في طرقات المدينة القديمة التي تتميز بأزقتها الضيقة التي لا يمكن لمعدات الحفر أن تعبرها، بعد ذلك تسلق الصحفي برفقة ميك تلة من ركام، فشعرا وكأن المباني قد سقطت البارحة، إذ أخذت الحيوانات الأليفة في تلك الأبنية المنهارة التي تحولت إلى قبور تتعقبهما، وهي ماتزال ترتدي أطواقها التي قلدها أصحابها إياها، إلا أنها تحولت لكائنات ضالة حائرة لا تدري ما تفعله.
المصدر: New Yorker