أحمد موفق زيدان ليس عضواً معلناً في «هيئة تحرير الشام»، ولا مسؤولاً في ذراعها المدني «حكومة الإنقاذ السورية»، ولا يشغل منصباً في «جامعة إدلب». ورغم ذلك فقد ظهر، في حفل افتتاح مقر «كلية العلوم السياسية والإعلام» قبل أسبوع، صاحباً للبيت أكثر من عميد الكلية، ومن رئيس الجامعة، ومن وزير التعليم العالي في هذه الحكومة. لم يتجلّ هذا فقط في طول الكلمة التي ألقاها بالمقارنة مع كلماتهم المقتضبة، بل أساساً في مضمون ما قاله وهو يحدد معالم الطريق.
بدأ زيدان خطابه بشكر «قيادة المحرر»، وهو الوصف الكودي للجولاني، ولياً غير فقيه في إدلب، وأردف بإبداء الامتنان نحو «إدارة الشؤون السياسية» التي كانت «معنا على مدار الساعة» على حد تعبيره. ثم انتقل إلى رسم خطة الكلية التي قيل إنه كان وراءها كلياً، وخلف جمعِها بين الإعلام والعلوم السياسية تبعاً لتصوره عن نفسه كإعلامي صار كاتباً سياسياً، وإن تجنب تولي عمادتها لأسباب تتعلق برغبته في الحفاظ على استقلاله الشكلي وعدم التورط بدعم «الإرهاب».
كان زيدان قد أوضح، في حديث سابق، أن المهمة المنوطة بهذه الكليّة هي «تجهيز الكوادر التي تحكم سوريا» المستقبل. لأن أمثال هذه الكليات هي «مصنع الجناح السياسي» ومشاريع قادة ومسؤولي السياسة والإعلام
كلمة زيدان سامة. لا تخفي انطلاقها من مواقع طائفية، فيتكرر فيها وصف «الكيان السنّي في إدلب» دون حرج. وهو يبيّن بوضوح أن هذا «الصرح» العلمي الجديد يهدف إلى تقديم «تربية سياسية إسلامية قرآنية مدادها الدماء» لطلابه الذين استمعوا إلى هذا الصحافي، الذي بنى سيرته المهنية في أفغانستان، متلبّساً بدور المخضرم وهو يقول إنه، ومن واقع خبرته، يرى أنه «لا توجد قوانين صحافة ولا توجد قوانين في الأرض. القانون هو السيف» مثنّياً أن «القوانين أضحوكة»، قبل أن يختم كلامه متمنياً انتقال هذه الكليّة إلى «عاصمة بني أمية». وكان زيدان قد أوضح، في حديث سابق، أن المهمة المنوطة بهذه الكليّة هي «تجهيز الكوادر التي تحكم سوريا» المستقبل. لأن أمثال هذه الكليات هي «مصنع الجناح السياسي» ومشاريع قادة ومسؤولي السياسة والإعلام.
تضمّن الحفل نوعين آخرين من الكلمات؛ بُث عدد منها عبر الزووم لضيوف خارجيين أقنعهم زيدان أنهم يدعمون بذلك الثورة السورية وناسها، وألقى مسؤولون محليون بعضها. وقد مال الأخيرون، على عادة الملتحقين بالجولاني، إلى مصادرة إنجاز من سبقهم بالزعم أن هذه الكلية هي الأولى من نوعها في المناطق المحررة، بل في سوريا كلها، متناسين أنهم هيمنوا على «كلية العلوم السياسية» التي افتتحتها «جامعة الشمال الخاصة» وأغلقوها. لكن الأهداف التي عددوها كانت أكثر تواضعاً مما يطمح إليه زيدان، فقال رئيس الجامعة إن الكلية ترمي إلى رفد المؤسسات القائمة بالخبرات، وذكر وزير التعليم العالي أنها تهدف إلى تخريج محللين وباحثين وتطوير «مهارات التفكير النقدي» في الشأن السياسي، متجاهلاً القبضة الأمنية التي تحكم إدلب وتنكّل بمن يجرؤ على النقد.
الكلمة الأهم، أو التي كان يُفترض نظرياً أن تكون كذلك، هي لعميد الكلية، الدكتور عادل حميدي الحدّيدي. وهو أحد الأيادي الموثوقة لدى قيادة الهيئة وجناحها السياسي، يتنقل بين مناصبها المدنية بذات اليسر والتهذيب والطاعة، سواء حين كان «وزيراً» للتربية والتعليم في الحكومة عام 2020، أو مديراً لدار «الثقافة والمعارف» لاحقاً، أو حين أضيفت إلى مهمته عمادة الكليّة الجديدة.
لم يخرج الخطاب الإنشائي للحديدي عما خطّه العرّاب زيدان. أوضح أن تأسيس الكليّة يأتي ضمن عقلية «البندقية بيد والقلم باليد الأخرى»، وشكر «قيادة المحرر» التي تكرّمت فلم تغفل عن «بناء الإنسان» ودعمت التعليم «دعماً لا متناهياً»، وثمّن «الجهود الجبارة» التي بذلتها «إدارة الشؤون السياسية» في إنشاء الكليّة. موضحاً أن عمادتها ستعمل «ليل نهار» على تأمين احتياجات الطلاب بعد أن أسست لهم، في إطار الكليّة، «المركز السوري للدراسات الاستراتيجية» الذي «يهتم بالدراسات السياسية والإعلامية والاجتماعية والتاريخية وغيرها» في مزيج غير منسجم، وبعدما استقطبت لتعليمهم «كوادر وأكاديميين على مستوى عال من الكفاءة والمهنية والتاريخ الطويل في الخبرة.. درّسوا في جامعات مرموقة وعملوا في مجال السياسة والإعلام لسنوات طويلة».
والحق أن أسباباً عديدة تدفع إلى التشكيك في الكلام الأخير؛ ليس أولها التدليس الذي عُرفت به دعاية «الهيئة» وأذرعها المدنية، ولا صعوبة العثور على كفاءات بالمستوى المزعوم في المناطق المحررة، وحتى بين السوريين أصلاً. بل انطلاقاً من قائله نفسه، العميد الذي حصل على شهادة الدكتوراه قبل ما يزيد على العام من جامعة إدلب في اختصاصه الأصلي في «التربية». وثانياً لأن كليّة العلوم السياسية والإعلام، التي أسست في السنة الدراسية السابقة لكنها لم تحصل على مقرها المستقل إلا الآن بعد أن أوعزت قيادة الهيئة بتخصيص البناء وترميمه، تغيب كلياً عن موقع جامعة إدلب، فلا تتضح خطتها الدراسية، ولا مقرراتها، ولا تذكر أسماء أساتذتها.
اشتُرِط للانتساب إلى هذه الكليّة اجتياز امتحان بمرحلتين؛ كتابية تتعلق «بالمعلومات العامة للطالب؛ كالتاريخ والجغرافيا والثقافة العامة والثورية» كما جاء في الإعلان، ثم مقابلة شفوية أمام «لجنة مختصة» لم يُعرف أعضاؤها بشكل شفاف ولا المعايير المعتمدة لديها
وربما يبين السرّ وراء ذلك من كلام زيدان الوارد أعلاه. فحين تهدف «قيادة المحرر» إلى ترقية «الكيان السنّي» الذي تحكمه ليشمل «عاصمة الأمويين» لا بد أن تتحكم في «مصنع القادة» هذا ليكونوا من الموالين الموثوقين. وهو ما بان منذ العام الماضي حين اشتُرِط للانتساب إلى هذه الكليّة اجتياز امتحان بمرحلتين؛ كتابية تتعلق «بالمعلومات العامة للطالب؛ كالتاريخ والجغرافيا والثقافة العامة والثورية» كما جاء في الإعلان، ثم مقابلة شفوية أمام «لجنة مختصة» لم يُعرف أعضاؤها بشكل شفاف ولا المعايير المعتمدة لديها.
ولذلك ساد الاعتقاد بأن هذه الكليّة ستكون، على الطريقة البعثية، «مدرسة الإعداد الحزبي» الخاصة بالقيادة الشمولية للهيئة. ما يفسّر الغموض الذي يحيط بها وتكليف الحديدي بعمادتها والاهتمام الذي حظيت به من الجولاني، طالب الإعلام السابق والمغرم به، ومن مبعوثه الشخصي الذي يتحرك حالياً بالاسم المستعار زيد العطار، الذي بدأ مسيرته كفنّي مونتاج في مؤسسة «المنارة البيضاء» المختصة بنشر إصدارات «جبهة النصرة» وقتئذ، وصار الآن رئيساً لكيان غامض ذي نفوذ واسع وطلبات لا تُردّ في «هيئة تحرير الشام» يدعى «إدارة الشؤون السياسية».