كاتب كردي سوري من فلسطين - 2

2019.07.24 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كأرضٍ تحاول النهوض من تحت ركام الحرب، رغم الحصار، والتكالب الإقليمي والدولي، وخذلان واستثمار الأشقاء الأقربين والأبعدين، وكفستان عروسٍ مزركش بكروم الزيتون والعنب، ولكن، وياللأسف، ملطّخٍ بالمستوطنات والحواجز الإسرائيليّة، هكذا بدت لي فلسطين، أجمل من القصائد التي قرأناها عنها، وأكثر حزناً وألماً من النصوص الأدبيّة والأشرطة السينمائيّة والتقارير الإخباريّة التي رصدت وترصد يوميّات هذا الشعب الجريح وهذه الأرض الذبيحة. أبعد من ذلك، وبخلاف ما كتب محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة"، بل كل ما على هذه الأرض وما تحتها، ومَن عليها، مِن بشرٍ وشجرٍ وحجر ونهر ودابّةٍ وطير...، كل ذلك يستحق الحياة بجدارة وقوّة واستحقاق، طالما أن كل هذه التفاصيل تقاوم منذ عقود. تقاوم الموت والإرهاب والإفقار والحصار والدمار والصفقات والمساومات والشقاق والفساد والاستبداد، حبّاً في الحياة الحرّة الكريمة.

 

قال تطبيع قال!؟

سألني الصحافي الفلسطيني يوسف الشايب، أثناء دردشة جانبيّة عفوية دون ترتيب مسبق؛ لماذا تعتبر نفسك كاتباً كرديّاً سوريّاً من فلسطين؟ فأجبته: وما المانع في ذلك؟! أنا كاتب كردي سوري من مصر، أتفاعل مع المواطن المصري وأدافع عن قضاياه وهمومه ضد الاستبداد. أنا كاتب كردي سوري من الجزائر، حين انتفض الشعب الجزائري على نظام بوتفليقة. أنا كاتب كردي سوري من السودان، حين ثار الشعب السوداني على جلاّديه وطغمة عمر البشير. لذا فلسطين ليست غريبة عنّي. ولا أجد أجمل من عبارة الروائيّة العراقيّة إنعام كجه جي، كتعبيرٍ عن حالتي وحالات الكثيرين، حين قالت: "زرنا فلسطين ليس لكسر الحصار عليها وحسب، بل لتكسر هي حصار الغربة علينا وتعيدنا إلى أنفسنا، وتساعدنا على استعادة أنفسنا". وعليه، كل ما يُقال حيال زيارة فلسطين من ترّهات التطبيع والتلميع، هذه محضُ سخافات تدين أصحابها ممن يزعمون المقاومة والممانعة، وتؤكّد استمرار تورّطهم وضلوهم في تشديد الحصار على فلسطين، وتطبيعهم مع الإسرائيلي، بطريقة أو بأخرى، عبر التمنّع من زيارة فلسطين، والتهجّم على من يزورها والطعن والتشكيك فيهم. "فمن يزور السجين، لا يعني ذلك أنه يطبّع الأوضاع مع السجّان"، كما كان يكرره الفلسطينيون.

أنا كاتب كردي سوري من السودان، حين ثار الشعب السوداني على جلاّديه وطغمة عمر البشير. لذا فلسطين ليست غريبة عنّي

ولا يسعني هنا إلاَّ شكر التاريخ والقدر ووزارة الثقافة الفلسطينيّة على منحها لي شرف أن أكون ضمن أولئك الذين كسروا الحصار على جزء من فلسطين، في وقت كان على الجميع فعل ذلك، وعدم الاختباء وراء أصابعهم، وخرافاتهم وشعاراتهم المهترئة والصدّئة، والهروب إلى الأمام. ذلك أن فلسطين حين تصل إلى الاستقلال التام والسيادة الكاملة، لن تكون بحاجة إليّ وإلى زيارتي، بقدر ما هي الآن تحت الحصار، بأمس الحاجة إلى زيارة كل من له ولها آصرة بالإبداع والفعل الإبداعي.

 

كردستان - فلسطين

في العديد من المقالات السابقة، وفي سياق الردّ على بعض الببغاوات ممن يكررون مقولة "إسرائيل ثانية" أثناء رفضهم قيام دولة كرديّة، كثيراً ما قلت: كردستان حاليّاً هي فلسطين ثانية، وحين تصبح دولة، لا ولن تكون "إسرائيل ثانية".

في المقال السابق، أتيت على ذكر المشادّة التي حدثت بين الصديق الروائي الكردي السوري جان دوست وأحد الموجودين في ندوة طولكرم. وكيف أنني في الندوة الأخرى، حاولت قدر المستطاع، تهدئة الأوضاع وتبديد أجواء التوتّر، والحديث عن المشتركات الإنسانيّة والسياسية والنضاليّة بين الشعبين الكردي والفلسطيني، واختتمت كلامي بأنني "كاتب كردي سوري من فلسطين". مع ذلك، وربما كان الأمر طبيعيّاً أيضاً، أعادت إحدى الحاضرات طرح أسئلة ذات بُعد سياسي، منها: هل هناك شيء في التاريخ اسمه كردستان؟ هل هناك لغة وثقافة كردية، حتى يحق للكرد المطالبة بدولة؟ وأسئلة من هذا القبيل؟ فما كان منّي إلاّ الردّ عليه، بما معناه:

- يبدو لي أنكِ لستِ مطلعة على كتب التاريخ العربي. ولو كنت قرأت أو اطلعت على "معجم البلدان" لياقوت الحموي، أو "البداية والنهاية" لابن كثير الدمشقي، أو كتب المسعوي، لرأيتِ أن هؤلاء من اطلقوا اسم "كردستان" على الجغرافيا التي يقطنها الكرد، وليس الكرد، بل العرب. ذلك أن اسم أو وصف "بلاد الكرد"، "بلاد الأكراد"، "أرض الأكراد" وردت في العديد من المصادر التاريخيّة العربيّة. وهذه التسميات هي المعادل العربي لاسم كردستان التي تعني أرض الكرد أو بلاد الكرد. يعني، أنتِ تقبلين وتقرأين بأريحية عبارة "بلاد الأكراد" أو "أرض الأكراد" لكنك تستغربين وتتساءلين عن وجود أو ورود كلمة كردستان عبر التاريخ!

وأضفت: الكرد لم يهبطوا من المريخ. وهم موجودون على هذه الأرض منذ آلاف السنوات. ولا يوجد شعب في العالم بدون لغة أو ثقافة أو فن. وبالتالي من الغرابة أننا في 2019 ويتم طرح هكذا أسئلة؟ وأين؟ في فلسطين التي حكمها الكرد ذات يوم، في سياق حكمهم لمصر وعموم الشام.

 

ناجي العلي أيضاً وأيضاً

أثناء زيارتنا متحف الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ذكرتُ في حضور مدير المتحف؛ زياد أبو عمرو، ووزير الثقافة الروائي والشاعر الفلسطيني عاطف أبو سف، وبقية المشاركين في الملتقى: "آمل في الزيارة القادمة لفلسطين أن أزور متحف ناجي العلي. من المؤسف أنه حتى الآن لا يوجد متحف لناجي العلي وغسان كنفاني وكمال عدوان وكل الرموز الإبداعي الإنساني الفلسطيني". وتعمّدت إثارة هذه الفكرة في متحف محمود درويش، لأسباب عدّة، يطول سردها. وطرحت سؤالاً، كان يؤرّقني، حتّى قبل زيارتي فلسطين، مفاده: "هل رثى محمود درويش ناجي العلي؟"، طرحت السؤال على أحد أمناء جائزة محمود درويش، للأسف نسيت اسمه. تفاجأ الرجل بالسؤال، وبعد برهة من الغمغمة ومحاولة عصف الذهن، أجاب: "لا، لم يرثِ درويش ناجي العلي". فعقّبت على إجابته بالقول؛ كان يساورني شيء من القناعة أنه لم يرثهِ، لكنني أردت التأكّد منك. أنا أعرف؛ لماذا لم يرثهِ. محمود درويش، لم يكن يشأ إغضاب منظّمة التحرير وزعيمها. محمود دروش كان شاعر قضيّة، وناجي كان فنان القضيّة وشهيدها والدافع عنها ضد إسرائيل والنظام العربي الرسمي وضد الاستبداد والفساد في الوسطين العربي والفلسطيني. ولم يكن العلي فنان سلطة، في حين أن درويش كان شاعر سلطة، شأنه شأن المتنبّي وأبو فراس وآخرين.

غسان كنفاني قدّم لفلسطين وللقضيّة أضعاف أضعاف مما قدّمه درويش. قدّم زهرة شبابه وروحه، وغادر باكراً جدّاً

في النقاشات الجانبية التي جرت بيني وبين بعض الأصدقاء الفلسطينيين، ذكرت لهم: غسان كنفاني قدّم لفلسطين وللقضيّة أضعاف أضعاف مما قدّمه درويش. قدّم زهرة شبابه وروحه، وغادر باكراً جدّاً. بينما بقي درويش، وقدّمت له القضيّة الفلسطينيّة، أضعاف ما قدّمَ لها، في حياته ومماته. ومن الغريب أن يكون هناك متحف لدرويش الذي "مات ميتة عادية" بينما لا يوجد متحف لكنفاني الذي استشهد في أصعب الظروف وأكثر حلكة. بالنسبة لي، في ميزان النضال والفداء والتضحيّة، لا يرقى درويش مقام كنفاني أبداً. ولكن في ميزان السلطة، مقام درويش، في حياته ومماته، أعلى وأرفع من مقام كنفاني، بدليل الوقائع والمعطيات الحاليّة!

حاول أحد الأصدقاء إلقاء اللوم على الجبهة الشعبيّة. ولكنني عقّبت: "كنفاني، كقيمة نضاليّة إبداعيّة لا تخصّ تنظيماً بعينه، بل هو قيمة نضاليّة وإبداعيّة فلسطينيّة وإنسانيّة أيضاً". 

 

صدام حسين

تحدّث العديد من الأصدقاء حول شعبيّة الرئيس العراقي السابق صدّام حسين بين الفلسطينيين. لكن هذه الشعبيّة تجاوزت العامّة إلى حيّز من يشتغلون في الحقل العام أيضاً، سواء في السلطة - الإدارة أو في شؤون الكتابة. وتحدّث البعض عن تأثير تلك الصواريخ التافهة التي حاول فيها صدّام قصف اسرائيل بها، فمنح الأخيرة المزيد من التعاطف الدولي وأنها مهددة...الخ. ولمسنا ذلك التعاطف مع صدّام وبل الافتتان به من خلال التجوال والنقاشات. حتى أن أحدهم صار يسرد ما قدّمه صدّام للفلسطينيين على الصعيد الاقتصادي والمعيشي والتعليم...الخ، وأن كل من يحاول يشوّه صدّام، يخدم اسرائيل!

لكن، كانت الروائيّة العراقيّة إنعام كجه جي، في منتهى الدقّة والذكّاء حين انتبهت إلى ملحوظة قالتها لي، أثناء الجولة في متحف الرئيس الفلسطيني الراحل عرفات: "هل انتبهت إلى غياب صور صدّام أو مشاهد الفيديو التي جمعت عرفات مع صدّام ضمن ما هو معروض في المتحف؟!". أدهشتني تلك الملاحظة، ودفعتني إلى التركيز والتدقيق في الصور ومشاهد الفيديو الوثائقيّة، فلم أجد له أيّة صورة، رغم العلاقة الجيّدة بين عرفات وصدّام حسين. تلك العلاقة التي كلّفت الفلسطينيين والقضيّة الفلسطينيّة الكثير، بخاصّة بعد غزو صدّام الكويت.

بقيت معي تلك الملحوظة، وحاولت تتبّعها، أثناء زيارة متحف محمود درويش، فلم أجد صوراً له تجمعه بصدّام، رغم زيارة درويش العراق، ومشاركته في المهرجانات التي كانت يقيمها نظام صدّام حسين. كذلك لم أجد له صوراً مع بشّار الاسد في المتحف. وعليه، تغييب صور صدّام عن متحفيّ عرفات ودرويش، يعني لي الكثير، أقلّه؛ محاولة طيّ السلطة الفلسطينيّة تلك الصفحة.

تحدّث العديد من الأصدقاء حول شعبيّة الرئيس العراقي السابق صدّام حسين بين الفلسطينيين. لكن هذه الشعبيّة تجاوزت العامّة إلى حيّز من يشتغلون في الحقل العام أيضاً،

في سياق الحديث عن صدّام، عقب الندوة التي شاركتُ فيها بـ طولكرم، أقترب منّي رجل مسنّ، وبدأ يعاتب غياب اليسار الكردي الذي شارك الفلسطينيين نضالهم التحرري. وعرّج أيضاً على الحديث عن صدّام. فأجبته:

يمكنك اعتباري واعتبار الأصدقاء الكرد المشاركين في هذا الملتقى، يسار كردي. لكن، اليسار المفتون بطغاة مثل صدام حسين وحافظ الأسد وبشار الأسد، هذا يسار "...." مع احترامي لك. دعك من الكرد والعرب؛ هل تعرف نيلسون مانديلا؟ أجاب: "طبعاً". هل تثق به مناضلاً وإنساناً؟ أجاب: "نعم، كيف لا!". فقلت: منحت تركيا جائزة أتاتورك إلى مانديلا بعد الإفراج عنه، فرفضها. هل تعرف؛ لماذا؟ أجاب؛ "لا". قال مانديلا في تعليل رفضه: "من أراد منكم معرفة حقيقة تركيا، فعليه أن يصبح كرديّاً ولو لنصف ساعة". أنتم أيضاً، إذا اردتم ان تعرفوا حقيقة صدّام حسين، حاولوا أن تكونوا عراقيين ولو لنصف ساعة. صدّام كان يدعم الفلسطينيين و"الختيار: ياسر عرفات" نكاية في حافظ الأسد، وليس حبّاً فيكم. من يقمع ويضطهد شعبه، يستحيل عليه ان يحب شعباً آخر. حماس أيضاً الآن مفتونة بأردوغان، وتبرر كل ممارسات وسياسات النظام التركي، كما برر ويبرر بعض الفلسطينيين ممارسات وسياسات صدام حسين وحافظ الاسد وبشار الأسد. الطغاة والدكتاتوريون لا يمكن أن كونوا أصدقاء شعوب مظلومة أخرى.

 

محمود عبّاس

إحدى أجمل الأشياء في ملتقى فلسطين، هو حضور وزير الثقافة الفلسطيني د. عاطف أبو سيف، أغلب ندوات الملتقى، إمّا على مقاعد الجمهور، أو على المنصّة مشاركاً، بصفته شاعراً وروائيّاً، وليس وزيراً. وهذه إحدى الأشياء الجميلة التي ميّزت ملتقى فلسطين عن ملتقى القاهرة الذي شاركت فيه أيضاً. وكان الوزير بعفويّته وتلقائيّته وخروجه عن الصورة النمطيّة للوزراء، وتغليبه كفّة المثقف المبدع على كفّة الوزير والرسميّة الزائدة عن الحدّ، كان ذلك من العلامات المميّز والفارقة لملتقى فلسطين للرواية.

كذلك مقترح أبو سيف بزيارة الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، كان في غاية الذكاء والحسّ الإنساني والإبداعي. لأن أبو سيف رافقنا في زيارة مخيّم الدهيشة، والاحتكاك مع الناس والنازحين وقاطني المخيّم، ورافقنا في زيارة منزل "خنساء فلسطين" في مخيّم الأمعري. وعليه، حاول ملتقى الرواية في فلسطين، وضع أكبر كميّة ممكنة من تفاصيل الحيوات الفلسطينيّة، من قاعها إلى قمّتها، أمام الزائر، مروراً بتفاصيل أخرى، غاية في الأهميّة.

مناسبة هذا الكلام، هو أن التقرير الذي عرضته قناة "روداو" الكرديّة عن مشاركة أدباء كرد في ملتقى فلسطين وترجيح كاتب على آخر، واللقاء مع الرئيس الفلسطيني، ذلك التقرير جانب الصواب، وبل شابه التحوير والتدليس أيضاً. إذ نقل التقرير عن الرئيس الفلسطيني ما لم يقله الرجل على أنه مع استقلال كردستان "نصّاً"! في حين أن عبّاس قال انه مع حقوق الكرد. وأن مظلوميّة الكرد كمظلوميّة الفلسطينيين. وأتى على ذكر علاقته مع الكرد أثناء تواجده في دمشق، وتحديداً في حي ركن الدين. وكيف أنه كان أول رئيس عربي يزور كردستان، من بغداد...الخ، بالنتيجة، قال عبّاس كلاماً طيّباً في منتهى الايجابيّة والتقدير للشعب الكردي، مؤكداً عدالة حقوقه وقضيّته، لكنه لم يقل، لا في تلك الجلسة، ولا بشكل منفرد (أصلاً هو لم ينفرد بأحد منّا) أنه مع استقلال كردستان. فمن أين أتت قناة "رواداو" ومذيعها بهكذا كلام، ونقلته على لسان رئيس السلطة الفلسطينيّة!؟

لم أتكلّم في تلك الجلسة، واكتفيت بما قاله الصديقان مروان علي وجان دوست وبقية الأصدقاء الآخرين. حيث ذكر مروان ما دار بينه وبين جندي على حاجز إسرائيلي، في زيارة سابقة له للقدس. في حين ذكر جان دوست تجربة تأليف اول قاموس كردي لصاحبه يوسف ضياء الدين باشا الخالدي المقدسي (1848~ 1906) في عام 1892، أثناء فترة وظفيته قائمقاماً لمدينة "موتكي" التابعة لمحافظة "بدليس" في كردستان تركيا، وأن ذلك المعجم كان أوّل وأهمّ خدمة قدّمها الفلسطينيون للكرد. هذا ما جرى، لا أكثر، ولا أقل.

أقول قولي هذا، رفضاً للتحوير واللعب بمشاعر الناس، قبل اللعب بعقولهم، وإيصال صوّرة محوّرة للمُشاهد الكردي. كان بإمكاني تجاهل الأمر، لأن المشاهد العربي غير معني بما تقدّمه قناة "روداو" كون المعروض باللغة الكرديّة. لكن لا يمكنني تجاوز سلوك إعلامي أصفر، يسعى إلى تحوير أحداث وتجييرها لصالح جهة أو شخص، كائن من كان.