تتّبع السلطة القائمة في إدلب سنن من قبلها من الحاكمين بأمرهم؛ حذو الزنزانة بالزنزانة والإنكار بالإنكار والتزييف بالتزييف. وتحاول تغطية الشمس بغربال بات يشف يوماً إثر يوم.
فمنذ قضية العملاء الكبرى، التي أدت إلى اعتقال «هيئة تحرير الشام» مئات من كوادرها ثم الإفراج عن معظمهم فجأة؛ تتصاعد الأصوات المستنكرة للتعذيب الذي شاعت الأخبار عن اعتماده في السجون الأمنية، وتزداد المطالبة بشفافية الإجراءات وعدم اقتصارها على قائد متحكم فرد، هو أبو محمد الجولاني، وبضعة أشخاص من المحيطين به المعتمدين لديه نتيجة ولائهم الثابت، وعلى رأسهم نائبه الصوري ورئيس جهاز أمنه العتيد أبو أحمد حدود.
فعلت «قيادة المحرر» ما يليق بأي قوة مستبدة. فوضعت في صدارة إعلامها أخبار التغيير الدوري في إدارتها المدنية الشكلية «حكومة الإنقاذ»
وفي حين يرتفع عدد المؤثرين في إدلب ممن صاروا ينادون بالإصلاحات؛ تكاثرت المظاهرات التي خرجت ضد قيادة «الهيئة» ورفعت سقف مطالبها فوصلت إلى إقالة الجولاني، وحل جهاز الأمن العام ومحاسبة قيادته، وتبييض السجون إلا بتهم واضحة معلنة مع ضمان محاكمات عادلة، وتخفيف الضرائب التي أدت إلى ارتفاع الأسعار عن المناطق المجاورة.
من جهتها فعلت «قيادة المحرر» ما يليق بأي قوة مستبدة. فوضعت في صدارة إعلامها أخبار التغيير الدوري في إدارتها المدنية الشكلية «حكومة الإنقاذ» وحصولها على «الثقة» بعد أن استكمل رئيسها «المشاورات» على أحد عشر وزيراً مفترضاً، بينهم واحد للداخلية لم يشر، في استعراض خطة عمله أمام «مجلس الشورى العام»، إلى قضية العملاء بأي كلمة، على الرغم من احتلاله منصبه نفسه في «الحكومة» السابقة، عندما حدثت القضية متجاوزة نطاق صلاحياته. فأمنيو الجماعة فوق موظفيها.
أما عملياً فأوكلت «الهيئة» لقنواتها الخاصة وإعلامها الرديف مهمة التبرير وإطلاق الوعود. ومن هذا السياق الموارب جاء رد عبد الرحيم عطون، رئيس مجلسها الشرعي، على زميله القديم في مجلس شورى الجماعة، أبو مالك التلي (الشامي مؤخراً) الذي نشر رسالة مناصحة لقيادة تنظيمه السابق يوصيهم فيها بالإفراج عن سجناء الرأي دون استثناء، وفسح المجال أمام «أهل الحل والعقد» لإعادة تشكيل «مجلس شورى حقيقي»، وأخيراً تنازل أبي محمد الجولاني عن قيادة «الهيئة» وتعيين شخص موثوق به من ضمنها مؤقتاً ريثما يتم تشكيل لجنة تعمل على تنظيم أمور المناطق المحررة كاملة بالتنسيق بين الفصائل. محذراً من وقوع «فتنة عظيمة» في حال عدم الاستجابة للنصيحة، فهناك «بركان يغلي يوشك أن يظهر للعلن».
يلتقط شرعيّ «الهيئة» مفردة «الفتنة» لينطلق منها في رده الطويل. دون أن يدري، ربما، مدى شبهه بفقهاء البلاط، ولا درجة ابتعاد حججه عن معايير العمل العام الذي يزعم الاضطلاع به من خلال «المشروع» الذي تقدّمه «الهيئة» للمناطق المحررة وتأمل في تعميمه على سوريا كلها في المستقبل.
فعلى الرغم من أن الرسالتين منشورتان، وفي مسألة تهم «الساحة» كما يعبّر الجهاديون؛ يعامل عطون نص التلي وكأنه نصيحة شخصية يتمنى لو أنه أرسلها سراً «فهذا أتقى في النصح»، أو لو أنه «طلب لقاء» يستمع فيه لتفاصيل وكواليس ما حصل وتفاصيل ما يزمعون اتخاذه من إجراءات للمعالجة، أو، يخاطب التلي: «أن تتناسى خلافاتك مع إخوانك، وتصطف معهم في هذه الأزمة ريثما تنجلي».
هكذا إذاً!.. لا تتعلق المسألة بحقوق أو حريات أو تغول أمني أو مؤسسات مزعومة أو مشروع يراد تسويقه. بل، فقط، باصطفاف المرء مع إخوانه في هذه «الأزمة» بالتعبير الشهير للنظام. فإن وصفتها بمصطلح «الفتنة» الإسلامي سيكون عليك اعتزالها كلياً وعدم «التكلم بأي كلمة» تزيدها، لا أن تتزامن الدعوة إلى الإصلاح مع توقيت تحريض بعض «أهل المآرب»، مما يخالف مقتضى «الأخوّة»!
كما أنه ليس من اتّباع أوامر الله ولا اقتفاء منهج السلف الصالح، بحسب شرعيّ «الهيئة»، أن نطالب القيادة بالتنازل «لمجرد أن ظلماً غير مقصود وقع وقامت هي برفعه!!». ولو تحوّل هذا الأمر إلى سياسة عمل في تاريخ المسلمين لما استقر لأهل الإسلام قرار أبداً، على حد تعبيره. زد على ذلك أن المنطقة ما تزال تعيش «حالة حرب»، ولا يناسبها «هذا النوع من التغييرات» طالما أنها «مستقرة» على نحو ما ضمن ترتيب السلطة الحالي. فللتغيير «سلبيات مجهولة» قد تزيد على ما تتوجسه من مفاسد، وربما نتج عنه ما ليس في حسبانك وحسباننا، فلا داعي لمقترحٍ غير مأمون العواقب ولا مضمون النتائج. أما استشهاد التلي بتنازل الحسن بن علي (رضي الله عنه) فلا يصح لأن «العلة غير العلة والمناط غير المناط».
وفي التفاصيل يحاجج الشرعي بأن تنظيمه لا يعتقل سجناء رأي. أما «حزب التحرير» الإسلامي، مثلاً، فكان يجهر ليل نهار بتخوين الفصائل، ويتهمها بالبيع وبالعمالة وبالتآمر، ويمارس التخذيل «في أرض الحرب». مما أخرج أعضاءه عن الرأي وأدخلهم في نطاق المحاسبة قضاءً. كما أن الزعم بأن السجناء الذين لم تثبت في حقهم إدانة كثيرين لدى «الهيئة» هو «تخمين لا يمت للحقيقة بصلة» طالما أن قائله لا يملك جرداً كاملاً بعددهم ولم يطّلع على قضاياهم. وكأن من يحجب هذه المعلومات ليس «الهيئة» التي يدافع عنها.
لا يرى مبرراً لرفض العمل مع تنظيمه إلا الخوف وإيثار السلامة، محتفظاً لجماعته بميزة «الاستمرار على طريق الجهاد» حتى إسقاط الطاغية
يلوم عطون زميله السابق على دعوته إلى تقديم «الأخيار»، وكأن القائمين على الأمر الآن من «الفجّار». مؤكداً على حرص قيادة «المشروع» على استقطاب «أهل العلم المعروفين». فمنهم من استجاب ومنهم من اختار النأي بالنفس «حتى لا يُحسَب على قوم مصنّفين» بالإرهاب، أو حتى لا يلاحَق في محكمة العدل الدولية بلاهاي. وهكذا لا يرى مبرراً لرفض العمل مع تنظيمه إلا الخوف وإيثار السلامة، محتفظاً لجماعته بميزة «الاستمرار على طريق الجهاد» حتى إسقاط الطاغية. ويقصد هنا بشار الأسد. أما مقترح تنازل «الشيخ الجولاني حفظه الله» عن الزعامة فيقول إنه لن يعلّق عليه كثيراً، داعياً صاحبه إلى الابتعاد عن حظوظ النفس في النصيحة، وألا يتكلم بكلام عنوانه الإصلاح وجوهره ليس كذلك..