تحدث الدكتور عزمي بشارة مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في حوار أجراه مع تلفزيون العربي، أمس السبت، عمّا يجري الآن في فلسطين مِن عدوان إسرائيلي على القدس وقطاع غزّة، والذي قوبل بحراكٍ شعبي واسع في الداخل الفلسطيني.
ورأى "بشارة" - في حديثه الذي تزامن مع الذكرى الـ73 للنكبة (15 أيار 1948) - أنّ راهنية النكبة تتجّلى في الأحداث الفلسطينية الحالية، مشيراً في الوقتِ عينه إلى أنّ "مواجهة الاستعمار تكون بالنضال لا بالمحاكم".
وعن تجلّي راهنية النكبة في الأحداث الفلسطينية الحالية، ذكّر "بشارة" بأنّ أهالي قطاع غزة لاجئون بنسبة 95% منهم، وأنّ ما يجري اليوم يُعيد التمييز بين مقاربتي التعاطي مع القضية الفلسطينية انطلاقاً من الأراضي المحتلة عام 1967 (22% من أراضي فلسطين) وتغييب الانطلاق مِن الأراضي المحتلة في 1948 (100% من أراضي فلسطين).
وأوضح أنّ مَن يريد التحدّث عن حلول سياسية في قضية فلسطين، يبدأ وكأن القضية الفلسطينية بدأت عام 1967 (النكسة) ويتحدّث عن 22% مِن أرض فلسطين، بدل الحديث عن 100% مِن الأرض المحتلة، عام 1948، لافتاً إلى أنّ مَن يتنازل عن أراضٍ محتلة عام 48، سيقدّم تنازلات في 67.
وبحسب "بشارة" فإنّ ما فجّر الأحداث متصل عضوياً بالنكبة، أي تهجير الناس مِن منازلها ومصادرتها مثلما حصل في حي الشيخ جراح، وكان هو العامل المُفجّر للأحداث التي امتدت إلى عموم الجغرافيا الفلسطينية.
أهمية حي الشيخ جراح
قال "بشارة" إنّ أهمية حي الشيخ جراح (خط الدفاع عن المسجد الأقصى) تكمن في أنه يكشف كيف أن "الاستعمار الاستيطاني هو إحلالي، أي أنّه يقوم على طرد السكّان ومصادرة أرضهم لإحلال آخرين مكانهم وبناء مستوطنات مكانها".
من هنا، نبّه "بشارة" إلى أن القوانين مصنوعة في إسرائيل لمصادرة الأرض، وبالتالي لا يمكن مواجهتهم وإسقاط هذا النهج في القانون والمحاكم، إنّما بالنضال، لأن السرقة عرف في النهج الإسرائيلي، بكل الوسائل، ولأن بنية الدولة تقوم على سرقة الأرض والاستيطان.
كذلك أعاد المفكّر العربي عزمي بشارة التذكير بأن ممثلي المستوطنين اليوم هم مِن صنف القتلة الفاعلين جداً داخل الكنيست ويقرّرون في شأن تشكيل الحكومات الإسرائيلية، وهم نسخة أشد سوءاً ممن اقتحموا الكونغرس عقب الانتخابات الأميركية، إلّا أنّ الفارق أنهم داخل الكنيست وممثلون بشكل حقيقي فيه.
وعمّا تريده سلطات الاحتلال الإسرائيلي مِن وراء الاستفزاز الدائم في المسجد الأقصى، رجّح "بشارة" أن يكون الهدف أبعد مِن مجرد فرض سيادة إسرائيلية على الأقصى، بل أصبح جزءاً مِن الهوس الديني المتمدّد داخل بنية إسرائيل وحكوماتها.
وأشار إلى دليل يخص ذلك، أنّه في السنوات الماضية نشطت جمعيات برعاية حكومية لشرعنة تقاسم الصلاة في المسجد الأقصى، فهم يريدون أن يعوّدونا على فكرة أن الأقصى لنا ولهم، مردفاً "هناك مجانين اليوم في حكومة إسرائيل، من صنف الأصولية الدينية السلفية القائمة على الهوس الديني".
مواجهة الاستعمار بالنضال لا بالمحاكم
شدّد الدكتور عزمي بشارة على أنّ "مواجهة الاستعمار الاستيطاني تتم بالنضال لا بالمحاكم، وأنّ الفلسطينيين إن ناضلوا فسيكون العالم معهم".
وهنا تساءل ماذا لدى القيادات الفلسطينية لتخسره؟ ألا يمكن إلغاء التنسيق الأمني؟ مشيراً إلى إمكانية أن تفرض السلطة نفسها كـ"مؤسسة تدير شؤون الناس بدون تنسيق أمني"، لأنّ تحقيق الإنجازات في المفاوضات يحتاج إلى نضال على الأرض، مستشهداً بنضال "حماس" وصواريخها التي أجبرت الرئيس الأميركي جو بايدن على أن يتصل بالرئيس الفلسطيني محمود عباس.
وعن الخيارات المتوافرة لدى السلطة الفلسطينية اليوم - في ظل الأحداث الجارية - قال الدكتور عزمي بشارة "لو أنّ منظمة التحرير تعود لتكون هيئة عامة للفلسطينيين لا مكتباً في خدمة السلطة، لاختلف الأمر".
ضمانة الفلسطينيين الحقيقية هي نضالهم الأهلي الذي كان ظاهرا في القدس
وأكّد "د.بشارة" - تعليقاً على الأوضاع الحالية في القدس وعموم الضفة الغربية وقطاع غزّة والداخل الفلسطيني المحتل عام 48 - أنّ ضمانة الفلسطينيين الحقيقية هي نضالهم الأهلي الذي كان ظاهراً في القدس.
انتفاضة جديدة تشمل الجغرافيا الفلسطينية
تطرّق الدكتور عزمي بشارة إلى التغيير الحاصل هذه المرّة في فلسطين، والذي قد يؤدّي إلى ما يُشبه الانتفاضة الممتدة على كامل الجغرافيا الفلسطينية، مُقدّماً مجموعة مِن الأسباب المحتملة، أولها: تراكم الاحتقان، لأنّ مسألة البيوت (التي بدأت منها الأحداث في القدس) قضية رمزية وحسّاسة، فضلاً عن قضية الأقصى مع غضب متراكم منذ زمن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب - الذي اعترف بالقدس عاصمة موحدّة للاحتلال الإسرائيلي - وفترة التطبيع العربي وصفقة القرن.
واختصر "بشارة" القصّة بأنّ هناك "شعورا بالمهانة يتراكم، وأكثر ما يُحرّك الشعوب على الانتفاض هو الشعور بالإذلال"، وهو واقع شبيه بما حدث في هبّات الشعوب العربية.
يُضاف إلى ذلك الاحتقان الكبير في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، واعتقاد سلطات الاحتلال بأنّها أنجزت مهمتها في "أسرلتهم"، لافتاً في الوقتِ عينه إلى أنّ "تهديد الأسرلة ما يزال قائماً"، مردفاً "مع اعتبار أنّ النشوة بالهبة الأخيرة هي فعل سياسي، بما يرافقها من الشعور بالكبرياء، وبالقدرة على المقاومة وتدفيع إسرائيل الثمن، فإنّه لا بد مِن النظر إلى البنى القائمة والعميقة، التي لا تتغيّر في أسبوع".
وأشار "بشارة" إلى أنّ "الربط الذي قامت به المقاومة في غزة مع قضية الأقصى، هو جديد أيضاً، أي التهديد بالقصف في حال لم يتراجع الاحتلال في القدس"، مؤكّداً أنّ "الفلسطينيين دخلوا بالفعل مرحلة جديدة لها معالم واضحة، مِن ناحية قدراتهم على التحدّي والبناء في ظروف صعبة، واستعداد الجيل الفلسطيني الجديد على النضال، بعد 73 عاماً مِن النكبة".
استمرارية النضال الوطني
عن الأحداث التي تجري الآن في فلسطين، اعتبر "بشارة" أنّ "الكلام عن الانتصارات مبكر، والنضال عملية طويلة وتراكمية"، لافتاً إلى أنّه "كي لا تذهب دماء الضحايا هدراً" فإنّ "الاستمرارية هي الأهم اليوم، لأنّ الردّة غالباً ما تحصل بعد كل موجة مِن الهبات والانتفاضات عن طريق التشكيك في جدوى النضال والمواجهة".
لا بدّ مِن إعادة منظمة التحرير إلى الحياة أو بناء مؤسسة ديمقراطية جديدة تمثّل جميع الفلسطينيين في الداخل وفي الشتات
وتابع "الأهم هو النفس الطويل وفهم النخب الفلسطينية أن الطريق الذي ساروا عليه منذ أوسلو فشل وأن خط مناشدة إسرائيل وتوسلها لا يجدي، لأن الفلسطينيين "إن ناضلوا يكُن العالم معهم على عكس وهم صفقة القرن"، مختصراً المعادلة بالقول: "لا بدّ مِن إعادة منظمة التحرير إلى الحياة أو بناء مؤسسة ديمقراطية جديدة تمثّل جميع الفلسطينيين في الداخل وفي الشتات".
وأشار إلى أنّ "الهبة وحّدت الفلسطينيين الذين يعيشون تحت طروف مختلفة، لكن لديهم قضية واحدة، مبيناً أنّه يجب أن يكون هناك نوع من تقسيم العمل في النضال نظراً لاختلاف الظروف، مع الإبقاء على القضية المشتركة، وفي سبيل تحقيق ذلك، يوضّح أنّه يجب أن يكون هناك مؤسسة فلسطينية تضع استراتيجية واسعة للصراع ضد الاستعمار الاستيطاني، تشمل كل الفلسطينيين.
"غزة ليست إمارة مستقلة"
عن رسائل الجولة الحالية مِن المواجهة بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي، أشار الدكتور عزمي بشارة إلى أنّ الفصائل في قطاع غزة أوصلت رسالة مفادها أنها ليست إمارة مستقلة، أي أنّ غزة جزء أصيل من فلسطين ومن قضيتها.
وتوقّف "بشارة" عند مفارقة كيف أن حصار غزة حوّل القطاع إلى معسكر اعتقال بحصار غير مسبوق في التاريخ، وأنّ الفصائل هناك - رغم هذه الظروف - قادرة على بناء منظومة صاروخية متطورة، مردفاً "هذا أمر مثير للإعجاب".
وبحسب تقدير "بشارة" فإنّ بنك الأهداف بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة ربما نفد، واصفاً "الإنجاز" السياسي لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في حربه على غزة أنه عطّل احتمال تشكيل حكومة يمين مع أحزاب عربية، مرجّحاً حصول وقف إطلاق للنار أولاً، تليه مفاوضات عبر وسطاء، مع تشديده بأنّ "الضمانة الحقيقية هي النضال المدني الأهلي ودعمه".
أمّا عن الموقف الأميركي الداعم لجرائم الاحتلال الإسرائيلي تحت عنوان "حق الدفاع عن النفس"، فقد وصفه "بشارة" بأنّه قائم على هوية الفاعل لا الفعل في تصنيف الرئيس الأميركي جو بايدن للإرهابيين، معتبراً أنّ "هذا نفاق وعنصرية، وإلّا لكان بايدن اعتبر حكومة إسرائيل منظمة إرهابية لو كان الفعل الإرهابي هو ما يُفسّر التصنيف"، مشدّداً على أن "الرهان هو على قواعد الحزب الديمقراطي الأميركي وتعزيز العلاقات مع القوى الديمقراطية في الحزب، وهذا أمر واجب علينا كعرب".
أكاذيب في إطار نكبة الـ48
فند الدكتور عزمي بشارة في جزءٍ مِن الحوار عدداً مِن الأكاذيب التي تساق في إطار نكبة 48، مِن بينها أن "الفلسطينيين هربوا، وأنهم باعوا أراضيهم"، موضحاً أنّ هذا كذب لأنّهم هُجّروا ولم يهربوا.
ثم كذبة أن إسرائيل "تُمثّل القلة التي تغلب الكثرة"، لافتاً إلى أنّ عدد الجنود الإسرائيليين والعصابات وصل إلى 108 آلاف، في كانون الأول 1948، خاتماً مقاربته بملاحظة أن العقلية التي هجّرت الناس مِن بيوتها قبل 73 عاماً، ما تزال حاضرة اليوم في العقلية الصهيونية.
وتوقّف "بشارة" عند واقع أن "هناك مجتمعاً بكامله يعتقد أن طرد السكان من بيوتهم ومصادرتها، أمر شرعي"، لأنهم "لا يريدون تسوية تاريخية سواء بدولة فلسطينية على حدود الـ67، ولا يريدون التعاطي مع المواطنين العرب بشكل متساوي الحقوق في دولة واحدة ديمقراطية".
أخيراً، أشار الدكتور عزمي بشارة إلى إلغاء السلطة الفلسطينية للانتخابات بحجة منع الفلسطينيين في القدس مِن المشاركة قائلاً: "حجة القدس لتبرير تأجيل الانتخابات حجة واهية وفارغة"، مردفاً "سُرقت منا أقوى صورة كنا نتمنى أن نراها وهي صورة جندي إسرائيلي يُصادر صندوق انتخابات أو جندي يعتقل مقترعين بتهمة التصويت في انتخابات يجب أن تجري تحت الوحدة وليس من أجل إنجاز الوحدة"، لافتاً إلى أنّ "القيادات الفلسطينية يجب أن تتعظ، لأن هناك أجيالاً قادمة".p widget