خلال الأزمات تكثرُ الأسئلة، وتطرح القضايا نفسها على الناس بإلحاح يتناسب طرداً وأهميتها لماضيهم، أو مسّها بحاضرهم، أو تأثيرها على مستقبلهم. وخلال الأزمات يكثر الخلط بين مفاهيم مختلفة عند طرحها في التداول العام، فيصبح من اللازم تحديدُ هذا المفهوم من ذاك، وتبيان أوجه الترابط والانفصال بين مفاهيم يُعتقد أنّها شيء واحد أو كلٌّ لا يتجزأ.
ولعلّ الديمقراطية من أكثر المفاهيم استعمالاً في عصرنا الراهن، خاصّة أنها ارتبطت في منطقتنا بثورات الربيع العربي، تلك الثورات التي بدأت حالمة بالانتقال من حكم أنظمة استبدادية جثمت عقوداً طوالاً على صدور الشعوب، لكنها انتهت إلى مآسٍ رهيبة من جرّاء أسباب كثيرةٍ لا مجال لطرحها هنا.
وكان للديمقراطية ارتباطٌ وثيق مع حقوق الإنسان ضمن هذا السياق، فأغلب الثورات رفعت شعارات الحرية والكرامة والعدالة التي هي جوهر حقوق الإنسان المهدورة في تلك البلدان. يبرّر ذلك أيضاً الحجم الهائل للانتهاكات المرتكبة من قبل أنظمة الحكم وأجهزتها القمعية، ردّاً على مطالبات المواطنين بحرياتهم وكراماتهم وحقوقهم.
كان مصطلح الشعب في المدن اليونانية القديمة يعني فقط الأحرار من الرجال والمالكين في الوقت نفسه، أي أولئك القادرين على التحرر من قيود العمل الجسدي
الديمقراطية من أكثر المفاهيم تعقيداً، وفي الوقت نفسه مرونة وقدرة على حمل مضامين مختلفة، ولا يهم الآن كثيراً أنّ أصل التسمية قد جاء من الفلسفة اليونانية القديمة، وأنه كان يعني حكم الشعب أو سلطته، لأنّه لم يعد هناك اتفاق على تعريف واحد للشعب كما كان الأمر عند اليونانيين، ولم يعد هناك أيضاً تحديد دقيق موحّد لمفهوم الحكم أو السلطة.
كان مصطلح الشعب في المدن اليونانية القديمة يعني فقط الأحرار من الرجال والمالكين في الوقت نفسه، أي أولئك القادرين على التحرر من قيود العمل الجسدي، وبالتالي التفرّغ لممارسة السياسة بحرية وفاعلية. بينما خرجت النساء عموماً من هذا المفهوم، باعتبارهنّ من ضمن ملكية الرجل في المنزل وكذلك الأطفال، وخرج منه العبيد أيضاً، باعتبارهم قوة الإنتاج الجسدية المملوكة للرجال الأحرار.
ها هو جان جاك روسو يحتجّ على مفاهيم الديمقراطية والحرية والشعب في الحضارة الإغريقية القديمة بقوله:
"في اليونان، كان الشعب يفعل كلَّ ما عليه فعله، لقد كان باستمرارٍ مجتمِعاً في الساحة، وكان يعيش مناخاً لطيفاً، ولم يكن قطُّ جشعاً، وكان العبيدُ يقومون بأشغاله، أمّا قضيته الكبرى فكانت حريته... ماذا؟ ألا تبقى الحرية إلا بمساعدة العبودية؟ ممكن. إنّ الحدّين الأبعدين يلتقيان، وكلّ ما ليس قطّ من الطبيعة له مساوئه، والمجتمع المدني أكثر من أي شيء آخر".[1]
لذلك نراه يفاضل بين الحرية والعبودية قائلاً "إنني أفضّل الحريّة مع الخطر على السلم مع العبودية".[2]
وفي العصر الراهن يجري التمييز بين نوعين من المساواة بين المواطنين، المساواة القانونية التي يُفترض وجودها في الدساتير والقوانين، أي تلك التي تضع الجميع على درجة واحدة من حيث التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات، والمساواة الفعلية المفقودة في الحياة الواقعية، لأنّها تعبّر بشكل أو بآخر عن حرية الأغنياء في أن يصبحوا حكاماً، وحرية الفقراء في أن يصبحوا محكومين. لا يكفي إذن أن تكون النصوص ضامنة حقوق جميع المواطنين وحرياتهم، بل يجب أن يكونوا قادرين فعلاً على ممارسة هذه الحقوق والوصول إلى مستويات صنع القرار. ينزاح البشر دوماً نحو حبّ الذات، ورغم أنّ الأفراد لا يستطيعون العيش بمفردهم بعيداً عن بعضهم وخارج الجماعة، فإنّ الأنانية تدفعهم على الدوام إلى محاولة تخطي الحدود، لذلك كان لا بدّ من ضوابط تحدّ من هذه الأنانية. أهم هذه المحددات على الحرية الفردية هي المساواة، فعند تساوي المواطنين يكون من الصعب على أحدهم الافتئات على الآخرين.
يقول جورج بيردو: "إذا كانت الديمقراطية لا تقوم من دون الحرية، فهي لا تقوم كذلك من دون مساواة".[3]
كذلك لم يعد لمفهوم السلطة أو الحكم تعريف واحد متفق عليه، فهو يأخذ مضمونه من خلال البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ينبع منها ويعبر عنها. ففي الأنظمة الليبرالية الغربية، حيث تعتبر الحريّة الفردية جوهر الديمقراطية، يقوم الحكم على قاعدة وجوب تحقيق هذه الحرية للأفراد، وبالتالي يكون تعريف الحكم بأنّه إظهار إرادة الأفراد الحرّة للعلن من خلال ممارسة السياسة. لكنّ الحريّة الفردية المعبّر عنها بالممارسة السياسية الديمقراطية لا تعمل في فراغ، بل هي جزء من منظومة اجتماعية متكاملة، وفي هذا الإطار، يقول عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر آلان تورين:
"فقد دافعت عن الفكرة القائلة إن الديمقراطية سعي للتوفيق ما بين الحرية الخاصة والاندماج الاجتماعي أو بين الذات والعقل في المجتمعات الحديثة".[4]
في خضّم النقاشات النظرية حول الديمقراطية والحرية والسلطة، تخوض الشعوب العربية كفاحًا مستمرًا للوصول إلى بعض معانيها الإنسانية
"الديمقراطية اليوم هي الوسيلة السياسية للحفاظ على التنوع وجعل الأفراد والجماعات، المختلف بعضهم أكثر فأكثر من بعضهم الآخر، يعيشون أيضاً داخل مجتمع ينبغي أن يعمل أيضاً كأنه وحدة".[5]
في خضّم النقاشات النظرية حول الديمقراطية والحرية والسلطة، تخوض الشعوب العربية كفاحًا مستمرًا للوصول إلى بعض معانيها الإنسانية، وما تجدُّدُ الثورةِ في سوريا انطلاقًا من سويداءِ جنوبها مرّة ثانية، وما أزمةُ الحرب السودانيةِ واستعصاءُ الحوار الوطني في مصر أو انهيارُ التجربة التونسية إلّا بعض مظاهر هذا النضال، ويبقى أنّ من سار على الدرب وصل ولو بعد حين.
[1] زهير فريد مبارك – بين الفكر والعقل – ص 370- مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات – العدد 26- كانون الثاني 2012
[2] المرجع السابق – الصفحة 370
[3] إمام عبد الفتاح إمام – الطاغية، دراسة فلسفية لصور من الاستيراد السياسي – ص 211 – سلسلة الكتب الثقافية – عدد 183 – دار عالم المعرفة - الكويت
[4] سهيلة ربيع – مفهوم الديمقراطية عند آلان تورين – رسالة ماجستير في الفلسفة – ص 30 - جامعة محمد بوضياف – المسيلة – كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية – قسم الفلسفة – 2016 -2017
[5] المرجع السابق – ص 32