ماذا لو كان "حزب الله" لبنانياً؟

2024.09.09 | 05:54 دمشق

عناصر من حزب الله يحملون رايته
+A
حجم الخط
-A

ليس السؤال المطروح عنواناً لهذه المقالة مُزاحاً أو تلاعباً بالألفاظ، بل هو استحقاق راهنٌ يحتاج إلى إجابة موضوعية بعيداً عن انقسامات الشارعين العربي والإسلامي النابعة أساساً من اصطفاف الفرقاء المختلفين وراء أيديولوجيات متعددة بعضها عقدي مذهبي وبعضها الآخر قومي وغيرها سياسي، والإجابة عنه تفترض مجموعة من الأسس التي لا بدّ من فحصها من أجل الانطلاق نحو النهاية المفترضة، أي الوصول إلى الجواب.

ولعل غرابة العنوان تقتضي منّا توضيح هذه الأسس التي سيبنى عليها بلا شك تفاصيل كثيرة، فالأساس أنّ الأحزاب تكون وطنية، أي إنها تتشكّل من أفرادٍ ينتمون إلى مجموعات سياسية منتشرة على مستوى وطني في دولة ما، يتبنون قيم هذا الحزب أو ذاك ومبادئه ويسعون لتحقيق أهدافه.

ويكون الحزب عادة ممِثلاً لمصالح هذه الفئات وأفرادها اقتصادياً واجتماعياً، فيتبناها ويجعلها ناظماً أو محوراً لسياسته، وقد وجُدت عبر التاريخ نماذج لأحزاب قومية أو دينية عابرة للوطنية، أي إنها تمثل فئات متشابهة من شعوب مختلفة تتبنى قيمها ومبادئها وتسعى لتحقيق أهدافها.

في أوروبا نجد الأحزاب الأوروبية التي تمتد عبر دول الاتحاد المختلفة، وعلى صعيد عالمنا العربي كانت جماعة الإخوان المسلمين والحركة الناصرية وحزب البعث أمثلة واضحة بهذا الشأن.

من الأسس المهمة التي تقوم عليها الأحزاب مسألة التمويل، ففي الدول الديمقراطية، حيث تكون الأحزاب فاعلة حقاً، يأتي التمويل من الحكومة ضمن معايير معينة..

ومع سيطرة الخميني على مقاليد السلطة في طهران بات لدينا نموذج آخر مشابه لما سلف تبيانه في العالم العربي، ما أنتجه نظام الملالي أعقد قليلًا ربّما، لأنّه تمثل في دولة تسعى للتوسع الإمبراطوري تحت شعار تصدير الثورة، وهذا أمر منصوص عليه في دستور إيران ذاته، فقد ورد في المادة 154 منه ما يلي: (تعتبر جمهورية إيران الإسلامية أن النعيم الإنساني هو المثل الأعلى لكل المجتمع البشري، وتعترف بالاستقلال والحرية وسيادة القانون والعدالة كحقوق لجميع شعوب العالم. لذلك، بينما تمتنع تماماً عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، فإن إيران تؤيد النضال اليميني للمضطهدين ضد المتكبرين في كل مكان في العالم)، أي إنها تدعم الجماعات التي تعتبر ذاتها مضطهدة ومظلومة، وهذا باب واسع للتدخل كنا رأينا خلال العقدين الماضيين.

من الأسس المهمة التي تقوم عليها الأحزاب مسألة التمويل، ففي الدول الديمقراطية، حيث تكون الأحزاب فاعلة حقاً، يأتي التمويل من الحكومة ضمن معايير معينة، كأن يتخطّى الحزب عتبة معينة في الانتخابات فيحظى بتمويل يتناسب واحتياجاته أو عدد أفراده أو غير ذلك.

ويأتي التمويل أيضاً من الاشتراكات التي يدفعها أعضاء الحزب، ومن التبرعات والمنح التي تقدّم له منهم أو من غيرهم أيضاً، لكن لا يوجد دولة تقبل أن تتلقى أية أحزاب فيها تمويلات خارجية، فهذا شأن سيادي يختلف عن تمويل منظمات المجتمع المدني التي تتساهل فيها التشريعات الوطنية عادة.

الفرق بين المسألتين واضح، فالأحزاب تسعى للسلطة، وهذه يجب أن يكون منشؤها داخلياً، أي يجب أن تستمد شرعيتها من الفئات الوطنية التي تمثلها، هدفها النهائي أيضاً داخلي أي تحقيق مصالح هذه الفئات، أما منظمات المجتمع المدني فهي تقوم بأداء بعض المهام ذات الطابع الاجتماعي أو الثقافي أو الفني، وهي تؤثر بشكل غير مباشر بالسياسة لأنها تعمل في المجتمع، لكنها لا تسعى للوصول إلى السلطة.

كذلك تقوم الأحزاب عادة على رعاية مصالح أعضائها، أي إنها تسعى للوصول إلى السلطة لتسنّ القوانين التي تحمي الفئات التي تمثلها والأفراد الذين ينتمون لها.

من هنا يجب أن يكون للأحزاب برامج سياسية تعرض من خلالها لمطالب جمهورها، بل تسعى الأحزاب عادة لنيل ثقة الفئات الأخرى من غير أتباعها، وهذه مسألة جوهرية فيها لأن كل حزب يسعى لأن يكون الأكبر حجماً والأكثر عدداً والأوسع تمثيلاً، فإذا كانت الأحزاب عابرة للحدود تغيّرت أولوياتها وتغيرت أهدافها، لأنها ببساطة ستركّز على القضايا العامة الشعاراتية التي تجمع أوسع طيفٍ من جمهورها العابر للدول.

هذا ما كان يحصل مع الأحزاب الناصرية والبعثية وجماعة الإخوان المسلمين والأحزاب الشيعية المستندة إلى فكر الثورة الإيرانية، ليس من المنطقي أن تتضمن برامج هذه الأحزاب والجماعات قضايا محلية مثل الخدمات الاجتماعية كالتعليم والتأمين الصحي وسلّم الرواتب والأجور...إلخ، لذلك تراها تذهب إلى العموميات التي تتمثل بقضايا كبرى مثل الوحدة بين دول أو بين ساحات المقاومة أو محاور الممانعة، أو حول قضايا التحرر من الاستعمار أو بناء الاشتراكية أو غيرها من المسائل المجرّدة غير المحسوسة في الحياة اليومية.

إنّ امتلاك الأحزاب للسلاح والقوات العسكرية يعني اقتسامها الدولة أو استيلاءها على وظائفها، يعني هذا تحولًا في بنية الحزب من كيانٍ سياسي إلى كيانٍ آخر ذي طبيعة مختلفة لأنّ السلاح يعني فائض قوّة يفرض من خلالها طرفٌ إرادته على بقية الأطراف السياسية..

هناك أيضاً معيار العمل السياسي والالتزام بقوانين الدولة، وهذا يفترض أيضاً بالضرورة ألا يكون للحزب قوة عسكرية لأنه بذلك يصبح ميليشيا ويبتعد عن كونه حزباً سياسياً، القوات المسلحة تكون عادة تابعة للدولة، وهي حيادية تجاه السياسة والأحزاب والفئات الاجتماعية، فالدولة هي التي تحتكر العنف من خلال الجيش والشرطة وأجهزة الأمن.

إنّ امتلاك الأحزاب للسلاح والقوات العسكرية يعني اقتسامها الدولة أو استيلاءها على وظائفها، يعني هذا تحولًا في بنية الحزب من كيانٍ سياسي إلى كيانٍ آخر ذي طبيعة مختلفة لأنّ السلاح يعني فائض قوّة يفرض من خلالها طرفٌ إرادته على بقية الأطراف السياسية كما حصل في لبنان عام 2005 عند اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري وعام 2008 إثر أيام أزمة شبكة اتصالات حزب الله واجتياحه بيروت.

كذلك تنطلق الأحزاب الحديثة من مبادئ سياسية قابلة للقياس والنقاش وليس من مبادئ إلهية تدّعي العصمة كما يستند حزب الله في خطابه.

ما يميّز الأحزاب حتى وإن كانت ذات خلفية فكرية دينية أنها تعمل وفق قواعد أرضية لا سماوية، فهي تحتكم للناس وتسعى لنيل ثقتهم من خلال الاستماع لآرائهم وتحقيق مصالحهم، والقول بغير ذلك يعني أنّ الحزب الإلهي خارج النقد، مما يعني عدم قدرة غيره على منافسته في ساحة العمل السياسي.

بالعودة إلى "حزب الله" اللبناني، وبالقياس على هذه المعايير الأساسية السالف ذكرها، نجد أنّ الحزب لا يتوفّر على أي منها، بل على النقيض من ذلك نراه يستند إلى أضدادها بالمطلق، "حزب الله" مموّلٌ من إيران كليّة وهو لا ينكر ذلك ولا ينفيه، بل يتفاخر به ويصرّ عليه، وهو يتّبع أساليب إجرامية في تمويل ذاته، فمزارع الحشيش المخدّر وتصنيع المخدرات وتهريبها مصدر أساسي آخر من مصادر دخله.

"حزب الله" لا يركّز على البرامج الداخلية التي تلامس هموم أتباعه ومصالحهم، ولا يسعى لتحقيق هذه المصالح عبر القنوات الرسمية التي هي بالضرورة مؤسسات الدولة، بل يقدّم الخدمات عبر مؤسسات خاصة به ذات طابع طائفي صرف، وهو يُبقي مسافة بين جمهوره وبين الدولة، ويضع نفسه صلة وصل بينهما حتى يبقى له سلطة الوسيط الذي يقدّم الخدمة فيما لا يستطيع هو تقديمه.

ليس لـ"حزب الله" من برنامج واضح، مثل برنامج حماية التدخّل الإيراني في دول الجوار، مستخدماً لذلك خطابه الطائفي المغلّف بشعارات تحرير فلسطين والدفاع عن المقدسات، لكنّه يسفر عن وجهه الحقيقي عند المنعطفات الحادّة كما حصل في اصطفافه الفوري والمباشر مع نظام الأسد في وجه الشعب السوري..

ثمة مؤسسات لا يمكن تعويضها من قبل الحزب بمؤسساته المحدودة، مثل القضاء والجيش والتعليم وغيرها، هنا يلعب "حزب الله" دوراً مخرباً للبنية السياسية والمجتمعية اللبنانية على عكس الوظيفة الافتراضية للأحزاب، كما يسهم في إضعاف الهوية الوطنية اللبنانية ويشتتها.

ومن جهة ثانية ليس لـ"حزب الله" من برنامج واضح، مثل برنامج حماية التدخّل الإيراني في دول الجوار، مستخدماً لذلك خطابه الطائفي المغلّف بشعارات تحرير فلسطين والدفاع عن المقدسات، لكنّه يسفر عن وجهه الحقيقي عند المنعطفات الحادّة كما حصل في اصطفافه الفوري والمباشر مع نظام الأسد في وجه الشعب السوري، هنا "حزب الله" لا يمثل اللبنانيين بل يمثل وينوب عن نظام الملالي الحاكم في إيران.

"حزب الله" لم يكن يسعى للوصول إلى السلطة السياسية بالطرق المعتادة، أي من خلال المشاركة في البرلمان وفي الحكومة، ولم يفعل ذلك إلا بعد حرب تموز 2006، "حزب الله" هو الآن الحاكم الفعلي في لبنان، باعتبار أنّه الكيان الوحيد الذي احتفظ بسلاحه بعد اتفاق الطائف، وهذا يجعل منه سلطة فوق سلطة الدولة ودولة داخلها.

من يمتلك قرار الحرب والسلم في لبنان هو "حزب الله" وليس الرئيس اللبناني أو الحكومة أو البرلمان، ومن يمتلك سلطة إقرار العلاقات مع المحيط الدولي هو "حزب الله" وليس الدولة اللبنانية، فقد أرسل قواته إلى سوريا والعراق واليمن، وهو الذي تفاوض على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل ووضع الدولة اللبنانية دريئة وفي الواجهة، الحزب هو الحاكم بأمر إيران في لبنان.

"حزب الله" وإن وُصِف باللبناني هو ليس كذلك، هو إيراني بحكم التمويل والتبعية والأهداف، وهو ميليشيا عسكرية بحكم الوظيفة..

نعود الآن إلى سؤال المقالة، ماذا لو كان "حزب الله" لبنانياً؟ ونجيب: عليه أن يكون ذا جدول أعمال وطني لبناني، وألا يتموّل من إيران ولا من صناعة المخدرات وتهريبها، وعليه أن يتبنى برامج تهمّ اللبنانيين وتسهم في ترميم هويتهم الوطنية، وأن يتخلى عن سلاحه للدولة اللبنانية وأن يمتنع عن التدخل في شؤون الدول والشعوب المجاورة، فهل يمكنه ذلك؟

إنّ "حزب الله" وإن وُصِف باللبناني هو ليس كذلك، هو إيراني بحكم التمويل والتبعية والأهداف، وهو ميليشيا عسكرية بحكم الوظيفة، وهو أداة لزيادة تفتيت الهُويّة الوطني اللبنانية بحكم الأثر.

نصل الآن إلى الإجابة النهائية المبنيّة على مقتضى السؤال، وهي الإجابة الوحيدة الممكنة استناداً لما تمّ تبيانه، وهي أنّ "حزب الله" ليس حزباً وليس لبنانياً، ولو كان كذلك لما وجب أن يستند لأي من أسسه التي وصفناها وكان عليه أن يغيّر اسمه ليصبح حزب لبنان لا "حزب الله"، فالله جل وعلا لكل خلقه وليس لحزب ولا هو بحاجة إلى حزب أصلًا.