انتهت الانتخابات الأميركية بفوز دونالد ترمب، كما توقعنا في مقال سابق كتبناه قبل الانتخابات ولم يحظَ بالنشر قبل إعلان النتائج.
ماذا قال الأميركيون في انتخاباتهم، وماذا نقول نحن والعالم؟ هذا بعضٌ مما يشغل الناس الآن على امتداد أفق التواصل البشري. لكن ثمّة أناس في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها لم يشغلهم هذا الصراع المحموم على من سيسكن البيت الأبيض، فالنظام الانتخابي الأميركي، خلافًا لكل أنظمة العالم، لا يعتبر المواطن ناخبًا بمجرّد بلوغه سن الرشد القانونية، بل يتطلّب منه أن يسجّل نفسه ناخبًا. والنظام نفسه يفرض أن تكون الانتخابات يوم ثلاثاء، وليس يوم أحد وهو عطلة رسمية في كل الولايات، مما يعني أن عدد المسجلين في القوائم الانتخابية أقل بمئة مليون ممن بلغوا السن القانونية. هكذا بُني النظام الانتخابي الأميركي ليستبعد الشرائح الفقيرة من الشعب التي تعمل بالأجر اليومي أو بالحدود الدنيا من الأجر، والتي لا يمكنها التوقف عن العمل يومًا في الأسبوع لممارسة "رفاهية" اختيار أحدٍ من النخبة المتحكّمة بالبلاد منذ تأسيسها، والتي لا يراها أصلًا، ولن تقوم بأي تغييرات من شأنها تحسين وضعه البائس. كذلك هناك مقابل هؤلاء عشرات ملايين البشر في العالم لم يسمعوا ربّما بأميركا كلها وبانتخاباتها، ولا يهمهم الأمر لا من قريب ولا من بعيد. لكن الدول كلها والمنظمات الدولية والإقليمية تفاعلت مع هذا الحدث، وسيؤثر بالتأكيد على كثير من مناطق العالم.
قال الأميركيون، أو غالبيتهم الانتخابية على وجه الدقة، كفى عبثًا أيها الديمقراطيون؛ أولوياتنا ليست محصورة فيما تراه نخبتكم التي تنعمُ برغَدَ العيش. فلا ألوان قوس قزح ولا نقاوة هواء الكون أهمّ لدينا من أوضاعنا المعيشية. ما يهمنا الآن بأكثريتنا هو ألا نضيع عمرنا في وظيفتين أو عملين لنتمكّن من تسديد احتياجاتنا ومتطلباتنا. ما نريده الآن ليس السلام بين الفقمات وحيتان الأوركا في القطبين المتجمدين، بل سلامتنا النفسية وحماية مستقبل أولادنا من قسوة الحياة وتسارعها الطاحن، نريد لهم أن يتمتعوا بخدمات حقيقية مقابل ما يدفعونه من ضرائب. وصحيح أنّ الجمهوريين لن يحققوا ذلك، لأنّهم أتوا أيضًا من المعين ذاته للنخبة الحاكمة، لكنّ هذا الاحتجاج سيؤسس لتغييرات في طرائق التفكير قد تأتي أُكلها بعد حينٍ من الزمن، مثل تأثير قطرة الماء فوق الصخرة، وربّما أسرع.
قال الأميركيون للجمهوريين أيضًا: هذا تفويض مكعّب لكم لنرى أين ستصلون، فقد أعطوهم الرئاسة والأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب، بعد أن كانت أغلبية أعضاء المحكمة العليا معهم من قبل. جاءت هذه الانتخابات امتحانًا للجمهوريين وصفعةً للديمقراطيين.
لن يكون ترمب متساهلًا مع جموح الإسرائيليين المتطرّف إلا إذا كان في ذلك مصلحة بيّنة له، وهذا بالذات ما سيحاول نتنياهو اللعب عليه فيما يخصّ حربه على إيران وأذرعها في المنطقة.
على الضفة المقابلة للأطلسي، بدأ الأوروبيون يستشعرون الخطر، وبات همّهم الآن ألا ينسحب الأميركيون من حلف الناتو، وألا يعقدوا صفقة مع الروس تؤدي لهزيمةٍ أوكرانيةٍ مجلجلة. فبدؤوا، منذ لحظة إعلان النتائج، التحضير لفتح جيوبهم وزيادة الإنفاق على الدفاع. أما الروس، فهم حذرون حتى اللحظة، لكنهم أبدوا بعض التفاؤل فيما يمكن أن تأتي به الأيام. هم، بكل الأحوال، ممتعضون من نظرة الأميركيين لهم وتصنيفهم على أنهم دولة إقليمية كبيرة بأنياب نووية حادة، وأنّهم ليسوا منافسين ولا أندادًا لهم.
في منطقتنا، يترقب كثيرون نتائج تغيّر الإدارة الديمقراطية. فبالنسبة لإسرائيل، ثمة قلقٌ قابع خلف الترحيب الكبير والاحتفاء بقدوم ترمب؛ فهذا الأخير ليس رجلًا عقائديًا كما كان بايدن، الذي صرّح في شبابه أنّه صهيوني حتى النخاع. ومعروف عن ترمب أنه رجل صفقات، همه الأول والأخير أن يحقق شيئًا لذاته المتضخمة، وهو بالتأكيد سيعمل على ذلك من خلال تحقيق مصالح أميركا العليا. لن يكون ترمب متساهلًا مع جموح الإسرائيليين المتطرّف إلا إذا كان في ذلك مصلحة بيّنة له، وهذا بالذات ما سيحاول نتنياهو اللعب عليه فيما يخصّ حربه على إيران وأذرعها في المنطقة.
على المستوى العربي، سيكون الخليج أكثر ارتياحًا بعودة ترمب، وخاصّة المملكة العربية السعودية، فالجمهوريون المحافظون كانوا خلال العقود الأخيرة أكثر احترامًا للخصوصية المحلية. لا ننسى أيضًا أنّ مشروع السلام الإبراهيمي كان برعاية ترمب ذاته. خلال السنة الماضية عرف السعوديون والعرب جميعًا بوضوحٍ، ما بعده وضوح، أنّ الحليف الأول بالرعاية هو إسرائيل، وأنّه مهما بلغ علّو كعبهم عند أميركا، فلن يصلوا إلى ما وصلت إليه الأخيرة، فإسرائيل مشروع استراتيجي زُرع في المنطقة لحلّ مشكلات غربية أساسها التخلص من عبء المسألة اليهودية، ولخلق مشكلات تُبقي منطقتنا في حروب وصراعات مستمرة. هذا يعني أنّ إسرائيل ستبقى مدعومة من الغرب عمومًا ما دام وجودها مفيدًا.
عاد ترمب بقوّة كما تعطي أفلام الغرب الأميركي انطباعًا حاسمًا عن رعاة البقر، مدججًا بخطاباتٍ لا نعرف خيرها من شرها بعد.
يظن البعض أنّ قدوم ترمب والجمهوريين بهذه القوّة سيكون عاملًا حاسمًا في تغيير الشرق الأوسط وإنهاء المشروع التوسعي الإيراني، لكنّ هذا ليس مؤكدًا إلا بالقدر الذي يحقق المصالح الأميركية أولًا والإسرائيلية ثانيًا. لا أميركا ولا أي دولة تعمل في خدمة المشاريع الإنسانية أو تسعى لتحقيق أحلام الآخرين بالحرية والعدل والكرامة؛ فهذه قضايا تناضل من أجلها الشعوب، لكنّ الدول تستخدمها شعارات فقط لتستفيد من هذا النضال لا أكثر. قد يسهم تقاطع المصالح مثلًا بخدمة قضية السوريين في الخلاص من تغوّل الميليشيات الإيرانية في بلادهم، لكن لن تأتيهم الديمقراطية على أيدي الأميركيين أو غيرهم؛ فمن يصنع التغيير يصنعه لنفسه ولمصلحته لا ليهديه للآخرين.
عاد ترمب محملًا بفائض قوّة داخليًا وبسمعة مرعبة خارجيًا ليحقق الحلم الأميركي لا أحلام الآخرين. عاد ترمب بقوّة كما تعطي أفلام الغرب الأميركي انطباعًا حاسمًا عن رعاة البقر، مدججًا بخطاباتٍ لا نعرف خيرها من شرها بعد، لكن منطقتنا لن تكون أكثر أمنًا ولا أقل حروبًا أو دمارًا إلا إذا نحن أردنا ذلك وعملنا عليه، لا كما يريد الكاوبوي الجديد.