icon
التغطية الحية

في الليبرالية (الحزبية) في سوريا

2024.06.16 | 18:58 دمشق

7867867
من الكتلة الوطنية في سوريا
+A
حجم الخط
-A

أشرت آنفًا إلى أنه بالإضافة إلى العناصر الأساسية المكونة لكل ديمقراطية (الانتخابات والتداول السلمي للسلطة، والفصل والتوازن بين السلطات، ...إلخ)، تتأسس الديمقراطية المعاصرة على عمودين أساسيين: الليبرالية (السياسية) أو الأفراد وحرياتهم من جهةٍ، والعدالة الاجتماعية من جهةٍ أخرى. وإلى حدٍّ كبيرٍ، كان الصراع السياسي في القرن العشرين بين الدول، وداخل كل دولةٍ، بالدرجة الأولى، بين تيارٍ (أو معسكرٍ) ليبراليٍّ يعطي الأولوية للأفراد وحرياتهم وتيارٍ (أو معسكرٍ) اشتراكيٍّ يعطي الأولوية للمسائل المتعلقة بالعدالة الاجتماعية. ينطبق هذا، جزئيًّا ونسبيًّا، على سوريا منذ تكونها كدولة في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين. وسأركز، في ما يلي، على الحديث عن الليبرالية (الحزبية) في سوريا، مع الإقرار بعدم إمكانية الإحاطة بها من دون رؤية الصورة الشاملة والعامة للتوجهات السياسية والحزبية الأخرى.

تشير دراسةٌ عن الدساتير السوري إلى وجود ثلاثة تياراتٍ عابرةٍ لبنية الأحزاب السورية التي شاركت في صياغة دستور عام 1920: التيار الليبرالي والوسط والمحافظ. وبقي الأمر على حاله في فترة الاحتلال الفرنسي، حيث كانت الكتلة الوطنية – مثلها في ذلك، مثل "الوفد" في مصر، و"الاستقلال" في الجزائر، و"الدستوري الجديد" في تونس – تجمعًا فضفاضًا، مع وجود اختلافاتٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ بين أعضائه، في خصوص الكثير من المسائل المفترض أنها حزبيةٌ أو سياسيةٌ. ووجود مثل تلك التجمعات أو المؤسسات الوطنية الفضفاضة كان أمرًا مألوفًا، في مثل تلك السياقات. وقد كانت الليبرالية هي السمة الأبرز لهذه الكتلة وللحزبين الرئيسين اللذين انبثقا عنها بعد الاستقلال: الحزب الوطني، وحزب الشعب. وقد هيمن هذان الحزبان على الانتخابات والحكومات المتعاقبة التي حكمت سوريا في ما يسمى بالفترة الذهبية للديمقراطية السورية التي تلت جلاء الانتداب/ الاستعمار الفرنسي عن سوريا عام 1946، والتي استمرت، مع بعض التقطعات والانقلابات العسكرية إلى أن تم القضاء على الحياة السياسية الحزبية الديمقراطية عام 1963، قضاءً مبرمًا، مع انقلاب/ ثورة الثامن من آذار عام 1963.

***

الديمقراطية، من دون حدٍّ أدنى من الحرية الإيجابية، غير ممكنةٍ، في أسوأ الأحوال، أو ناقصةٌ ومضطربةٌ ومهددةٌ، في أحسن الأحوال. وفي الأربعينيات والخمسينيات، كان قسمٌ كبيرٌ من السوريين لا يتمتعون، عمليًّا وفعليًّا، حتى بالحد الأدنى من الحرية السلبية، رغم أنهم، نظريًّا وشكليًّا، يتمتعون بها. وعلى الرغم من أن الديمقراطية الوليدة كانت، في الأربعينيات والخمسينيات، ليبرالية، أو سعت إلى أن تكون كذلك، جزئيًّا على الأقل، فإن تلك الديمقراطية، والليبرالية المتصلة بها، كانتا بحاجةٍ إلى جرعةٍ قويةٍ من البعد الاجتماعي المتمثل في العدالة الاجتماعية/ الاقتصادية، ليستقيم حالهما. وانطلاقًا من ذلك، ومن وصفنا للوضع الاقتصادي الاجتماعي السائد حتى ستينيات القرن العشرين، يمكننا فهم السبب الذي جعل مسألة الاشتراكية أو اليسارية المتمثلة في الانتباه إلى مسألة العدالة الاجتماعية من أهم المسائل الحاضرة في خطاب كل الأحزاب السورية، دون استثناءٍ. والمسائل المتعلقة بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية ظهرت، بوضوحٍ، في عشرينيات القرن العشرين، مع تأسيس النقابات والحزب الشيوعي في سوريا ولبنان، من جهةٍ، ولدى حزب الشعب، الذي تأسس عام 1925، وكان أول تجمع منظَّم للبرجوازية الدمشقية بعد الاحتلال الفرنسي، (وهو غير حزب الشعب الذي تأسس لاحقًا، عام 1947، على أنقاض الكتلة الوطنية)، من جهةٍ أخرى. فقد أشار زعيم الحزب عبد الرحمن الشهبندر إلى اعتقاد الجازم "بأنه لا يوجد تضارب بين عقيدة الشرقيين والاشتراكية المعقولة وبأن إفلاس الامبريالية سوف يتحقق اخيرًا من خلال العمال الذين عليهم ان يعملوا سويًّا لإنقاذ البشرية المعذبة" . فكما كانت كل الأحزاب عروبيةً، لدرجةٍ أو لأخرى، كانت كلها، أيضًا، يساريةً أو تولي اهتمامًا خاصًا بمسألة العدالة الاجتماعية، بطريقةٍ أو بأخرى. وينطبق ذلك، لكن بدرجةٍ أقل، على الحزبين الرئيسين للفئات العليا، الاقطاعية والبرجوازية ومالكي الثروة ووسائل إنتاجها أو الحصول عليها عمومًا: حزب الشعب والحزب الوطني.

من الصعب القول بوجود أحزابٍ سوريةٍ فعليةٍ في الوقت الراهن. ولهذا يصعب حتى على المنخرطين في عمل هذه الأحزاب الحديث عنها بوصفها أحزابًا فعليةً أو الحديث عن وجود عملٍ سياسيٍ حزبيٍّ حقيقي ومؤثرٍ في سوريا

والتحولات التي حصلت في الحياة الحزبية السورية، في تلك الفترة، من الجيل القديم من الأحزاب التقليدية إلى الجيل الجديد من الأحزاب العقائدية ترافقت أو تشابكت مع 1- هيمنةٍ متزايدةٍ للأيديولوجيات القومية واليسارية مع تراجعٍ متزايدٍ وهشاشة متزايدين للأطراف والقوى الوطنية والليبرالية، من جهةٍ، وهيمنةٍ متزايدةٍ للقوى العسكرية والأمنية على الحياة السياسية والحزبية، على حساب القوى والأطراف السياسية المدنية، من جهةٍ أخرى؛ ومع 2- ترييفٍ أو صعودٍ ريفيٍّ/ فلاحيٍّ مطَّردٍ على حساب، ليس الإقطاعيين والإقطاعية فحسب، بل على حساب المدينية والمدنيّة أيضًا؛ ومع 3- ازديادٍ في التطرف العلمانوي والإسلاموي وزيادة الهوة والتوتر بين الطرفين، ومع 4- صعودٍ أقلياتيٍّ عمومًا، وعلويٍّ خصوصًا، وتراجعٍ سنيٍّ، في مراكز النفوذ العسكرية والأمنية والسياسية والحزبية والاقتصادية. و"في نهاية المطاف"، لم تكن هذه التحولات، عمومًا، لا في صالح الديمقراطية ولا في صالح الليبرالية، ولا في صالح الوطنية السورية، ولا حتى في صالح القومية العربية والقضايا القومية عمومًا، ولا قضايا الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، التي كانت الأحزاب العقائدية الجديدة ترفع شعاراتها وتعطيها الأولوية.

بعد الثورة السورية، عام 2011، تصاعد الحديث عن أهمية وجود قوى سياسية حزبية ليبرالية سورية. وترافق ذلك احيانًا مع حنينٍ رومانسيٍّ، حالمٍ "واهمٍ" إلى الحقبة الديمقراطية الليبرالية في سورية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. وهذه الحقبة لا تبدو ورديةً إلا بمقارنتها مع الحقبة البعثية العسكرية ومن ثم الأسدية الأمنية التي تلتها. وتلك الفترة التي تبدو حلمًا بالنسبة إلى كثيرين كانت، حينذاك، أشبه بكابوسٍ، ينبغي الاستيقاظ وإيقاظ آخرين للتخلص منه وتجاوزه في أسرع وقت ممكنٍ. فقد كان التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي بين الطبقات كبيرًا وخطيرًا. وكانت مصالح الطبقات الحاكمة متعارضة، غالبًا، مع مصالح معظم أفراد الشعب المفتقر غالبًا إلى أساسيات الحياة الحديثة من تعليمٍ وخدمات صحية وغير صحية.

وخلال تاريخها الطويل، بدت الليبرالية في سوريا، والعالم العربي عمومًا، نخبويةً ومفتقرةً إلى الأساس الشعبي والحضن الاجتماعي. صحيحٌ أن السمة النخبوية سمة مشتركةٌ بين كل الأحزاب السورية تقريبًا، إلا أن تلك السمة تنطبق على التيارات الليبرالية أكثر من انطباقها على معظم التيارات السياسية والحزبية الأخرى. وتبدو الليبرالية أيديولوجيا أخلاقية او مبدئيةً أكثر من كونها رؤيةً سياسيةً عملية ومصلحيةً تتناول مشكلات الواقع وتعبر عن معاناة البشر وتطلعاتهم. وفي الوقت الراهن، يمكن الإشارة إلى حزبين ليبراليين سوريين ("حزب أحرار - الحزب الليبرالي السوري"، و"الحزب الوطني السوري")، واللقاء الليبرالي الديمقراطي.

***

وإضافةً إلى اسمه "الحزب الليبرالي السوري"، تبدو ليبرالية "حزب أحرار" واضحة في توصيفه لنفسه: "يتبنى الحزب الليبرالي قيم الديمقراطية الليبرالية ويؤمن قبل كل شيء بحق الفرد في الحريات والسعي وراء السعادة". ولا تقتصر ليبرالية الحزب على الليبرالية السياسية، بل تمتد إلى الليبرالية الاقتصادية المعتدلة أو ذات البعد الاجتماعي. فليبراليته اقتصادية أيضًا لأنّ الحزب يتبنى في مبادئه "اقتصاد السوق" بصراحةٍ ووضوحٍ. لكن تلك الليبرالية ليست من النوع الليبرالي المتطرّف المسمى النيوليبرالي، ولذا يشدّد من ناحيةٍ أولى، على أنه "بما أنّ ممارسة الحرية تستلزم شروطًا مساعدة لا يمكن تحقيقها على المستوى الفردي، يؤمن الحزب الليبرالي بضرورة بناء مجتمع قوي يحمي الفرد من الاعتداءات الخارجية والجريمة والعوز والتدهور البيئي". كما يشدّد، من ناحيةٍ ثانيةٍ، في قيمه الاقتصادية، على أنّه إضافةً تبني "اقتصاد السوق" ينبغي أن يكون هناك توزيع عادلٌ للدخل ونظامٌ ضريبيٌّ عادلٌ وضمانٌ اجتماعيٌّ، بحيث يكون "للدولة دورٌ رئيسيٌّ في دعم الفئات الفقيرة والمهمشة، عبر تأمين احتياجاتها الرئيسية كالغذاء والمأوى والصحة والتعليم".

أما "الحزب الوطني السوري"، ففي منشورٍ فيسبوكيٍّ، تناقلته ونقلت عنه وسائل الإعلام العربية والسورية (المعارضة)، كشف رجل الأعمال فراس طلاس، في أيلول/ سبتمبر 2020، أنه يعمل مع آخرين على تأسيس حزبٍ جديدٍ "يحمل الافكار الليبرالية الحقيقية"، و"يقوم على حرية الفكر والعمل والاقتصاد"، وأنه سيتم الإعلان عنه من داخل سورية خلال الأشهر المقبلة. وفي منشورٍ فيسبوكيٍّ لاحقٍ، في شباط/ فبراير 2021، أعلن فراس طلاس أنه "ومجموعة من الشباب والصبايا السوريين [سيعلنون] عن تأسيس حزب هو الحزب الوطني السوري، الذي كان نتيجة تحضير طويل". ولم أسمع أي أخبار، بعد ذلك، عن ذلك الحزب، باستثناء تلك التي تنتقد "التعليق المرحّب الذي أطلقه معارضون سوريون، مثقفون وناشطون، بالإعلان. و[تثير] أسئلةً بشأن المعايير الفكرية والسياسية التي تحكم فيها المعارضة السورية ونخبها الفكرية والسياسية على الأمور، والقيم الأخلاقية التي تحكم موقفها السياسي والاجتماعي"، كما جاء في مقالٍ لعلي العبد الله عنوانه "لن يصلح الحزب ما أفسده فراس طلاس". ويبدو أنّ وجود مثل هذه الأحزاب لا يختلف، كثيرًا، عن عدم وجودها.

أما "اللقاء السوري الديمقراطي" فقد عُقد في العاصمة الألمانية برلين، يومي 20 -21 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023، بعد تحضيراتٍ استمرت نحو عامٍ كاملٍ وشاركت فيها ثلاث كتل سياسيّة سوريّة قامت بدعوة أكثر من 700 شخصيّة وحزب ومنظمة مدنيّة، للمشاركة فيه.  ووفقًا لما جاء في تقريرٍ عن اللقاء، يعرِّف "اللقاء" نفسه "(على أنّه حاملٌ للقيم الديمقراطية الليبرالية التي تتمثّلها غالبية الشعب السوري..) ومن العدل إذن أن نحاول تقديم نقد في ضوء "الديمقراطيّة الليبراليّة"»، ويهدف إلى «توحيد جهود القوى والشخصيات الديمقراطية الليبرالية السورية ضمن كيانٍ تنظيميٍ مستدام». الجدير بالذكر أن لقاءً آخر يحمل الاسم ذاته كان قد عقد في باريس عام 2020 وشكل تحالف "اللقاء السوري الديمقراطي". وفي بيانٍ "فيسبوكيٍّ" للرأي العام، أعلن صلاح الرفاعي أنه بصفته المنسق العام للقاء، في آخر نشاط له، أنه ليس هناك أي علاقة بين المؤتمرين/ اللقاءين اللذين يحملان الاسم ذاته، وأنه "عند سؤال القائمين على مؤتمر برلين عن سر اختيار نفس الاسم، فكان الجواب بأنهم لم يكونوا يعلمون عن وجود اللقاء المنعقد في باريس 2020، وبعد سؤال بعض المشتركين في مؤتمر برلين والذين كانوا مشتركين في لقاء باريس 2020 لماذا لم ينبهوا لتطابق الاسم، قالوا إنهم نسوا ذلك".

***

أمرٌ ذو دلالةٍ أن يكون هناك حزبٌ ليبراليٌّ سوريٌّ، واحدٌ على الأقل، متأسسٌّ منذ 4-5 سنوات تقريبًا، يسمي نفسه "حزب أحرار - الحزب الليبرالي السوري"، وأن يكون هناك أكثر من مؤتمرٍ ولقاءٍ، ضخمٍ نسبيًّا، لليبراليين السوريين، يضم عشرات التجمعات والمنظمات ومئات الشخصيات الحاضرة في المجال والشأن العام السوري، ومع ذلك يتحدث كثيرون عن عدم وجود أحزابٍ سوريةٍ ليبراليةٍ! قد يصبح فهم أو تفهم ذلك ممكنًا وسهلًا، إذا علمنا أن أعضاءً من المؤتمر أو التأسيس الأول ﻟ "اللقاء السوري الديمقراطي" قد نَسُوا اسم ذلك المؤتمر، وما تمخض عنه من كيانٍ سياسيٍّ يحمل اسم المؤتمر، وشاركوا في مؤتمرٍ آخر يحمل الاسم ذاته، من دون أن ينتبهوا إلى ذلك!

من الصعب القول بوجود أحزابٍ سوريةٍ فعليةٍ، في الوقت الراهن. ولهذا يصعب، حتى على المنخرطين في عمل هذه الأحزاب، الحديث عنها بوصفها أحزابًا فعليةً، أو الحديث عن وجود عملٍ سياسيٍ حزبيٍّ حقيقي ومؤثرٍ في سوريا. فعلى سبيل المثال، يقرُّ بسام القوتلي، الرئيس الحالي ﻟ "حزب أحرار – الحزب الليبرالي السوري" والشخصية الأبرز والأكثر نشاطًا فيه، ﺑ "عدم وجود حياة حزبية فعلية في سوريا"، لكنه يرى، في الوقت نفسه "ضرورة للتنظيم والدخول في صيغة العمل الحزبي، [...و] ضرورة لبدء هذه التجربة والتمرن على أدواتها وطرق العمل الجماعي، حتى لا نبدأ من الصفر عندما تكون هناك فرصة حقيقية للعمل السياسي في البلاد". ويوافق راتب شعبو – أحد أبرز المثقفين/ المفكرين والفاعلين السياسيين السوريين الذين كانوا حاضرين في النسخة الأولى من "اللقاء السوري الديمقراطي" – على أنّ "المساحات الممكنة للعمل السياسي اليوم في سوريا ضيقة للغاية، دون أن يمنع ذلك من الاستمرار في هذا النشاط"!