تكسرت نصالٌ على النصال التي أصابت ناشطين سوريين صاروا في الخارج من سنوات وباتت متابعتهم إجمالية لما يجري في البلد عموماً، وفي المناطق المحررة منه على وجه الخصوص. بعد أن سلّموا، بخيبة أمل مريرة، أنها صارت تحت سيطرة ما تسميه الثقافة الرائجة «الإسلام السياسي».
لا يعد ذلك خطأ، لكن نظرة أدق إلى التدين الطافح على السطح بقوة ربما تساعد على فهم أفضل لواقع المناطق المحررة، بسلطاتها وجمهورها، ولحال تمثيلاتها السياسية في الخارج وامتداداتها المهجرية. يجري البحث في هذه المناطق بشكل خاص لأنها الملتبسة بهذا الوصف في حين أن مناطق سيطرة بشار الأسد زادت بعداً عن أي تسييس للإسلام وضبطاً أمنياً لدعاته، بينما ذهبت مناطق سيطرة «الإدارة الذاتية» في شمال شرقي سوريا إلى نوع مصنّع من «الإسلام الديمقراطي» لا مجال لمناقشته هنا.
في الداخل السوري فلم تكن تجربة الجماعة في العودة ناجحة على العموم. ورغم محاولتها دعم، أو إنشاء، بعض الفصائل أو المؤسسات؛ إلا أن بقاء هذه البنى أو ضمان ولائها ظل مرتبطاً باستمرار السيولة بشكل منتظم
كالعادة، تعد جماعة الإخوان المسلمين الحركة الإسلامية السورية الأقدم والأكثر تنظيماً مما قد يضعها في صدارة تمثيل أي إسلام سياسي، وخاصة بالنظر إلى مبادرتها إلى المشاركة في تأسيس هياكل المعارضة في الخارج وإمساكها ببعض مفاصلها بوضوح أو من وراء حجاب. غير أن ما يشوّش وصفها بأنها حركة إسلام سياسي هو انشغالها بالسياسة أكثر من الأسلمة. فقد عوّدتها عقود المنفى الطويلة على السلوك كعصبة تهمها المحافظة على الوجود والاستمرار أكثر من كونها حركة إيديولوجية تمارس عملاً سياسياً لم يكن ممكناً. وقد تجلى هذا، عند عودتها إلى الفعالية بعد الثورة، بسياسات الكولسة وبناء التحالفات من الباطن وتغييرها وتقديم شخصيات علمانية مفردة يسهل التحكم بها إلى الواجهة، بشكل بدا معه أن همها الأكبر هو أعلى درجة من السيطرة عبر زرع أعضائها والمنسوبين إليها هنا وهناك، أكثر من الضغط لفرض برنامج ديني ما. وقد أعانها على ذلك تعدد المنافي التي تشردت فيها، وميل أفرادها في مغترباتهم إلى ترخيص منظمات مجتمع مدني أو منصات أخرى سارعت إلى المطالبة بحصتها من التمثيل بوصفها مجموعات مستقلة ظاهرياً.
أما في الداخل السوري فلم تكن تجربة الجماعة في العودة ناجحة على العموم. ورغم محاولتها دعم، أو إنشاء، بعض الفصائل أو المؤسسات؛ إلا أن بقاء هذه البنى أو ضمان ولائها ظل مرتبطاً باستمرار السيولة بشكل منتظم وواضح النفعية غالباً. وللإخوان السوريين في هذا المجال تجارب فاشلة عديدة لا يُتوقع أن يفصحوا عنها لأنهم يستعينون على ستر حوائجهم المقضية وغير المقضية بالكتمان والتقية.
الجماعة الثانية الأبرز التي تُشتبه بوصف «الإسلام السياسي» هي «هيئة تحرير الشام» الحاكمة في إدلب. وهنا تبدو مفارقة أخرى. فحين ظهرت الطبعة الأولى، نسبياً، لهذه الحركة «جبهة النصرة»، كجماعة على خط تنظيم القاعدة ثم مبايعة له، لم تكن معنية بالسياسة بل مضادة لها، كما هو حال السلفية الجهادية. رفضت التمثيلات السياسية للمعارضة وعلاقاتها الدولية ومعتمدها العسكري «الجيش الحر»، وحاربت كل ذلك إلى درجة الاستئصال أو التكفير. أما عندما قررت «الهيئة» سلوك نوع من السياسة اليافعة، عقب تحولات قائدها، فقد عملت على تشذيب صفوفها من ممثلي التيار المتشدد، والتضييق عليه خارجها، في سبيل البقاء على قيد الاستقرار. مما جعل خطابها الحالي موزاييكاً يشير إلى محصلة القوة الراهنة داخلها بين إسلاميين غير سياسيين وسياسيين يغادرون النزعة الإسلامية.
ومنذ أشهر طويلة تواجه «الهيئة» معارضة دؤوبة يمثلها أفراد «حزب التحرير» الإسلامي ونساؤه. ولهذا التنظيم مفارقة تاريخية طريفة مع السياسة. فمنذ أن أعلن عن نفسه «حزباً»، في خمسينات القرن العشرين، في مناكفة لوصف الإخوان المسلمين أنفسهم بأنهم «جماعة»، ودعا إلى أولوية أن يمتلك الحركي المسلم «الوعي» السياسي؛ لم يقدم التحريريون أي ديناميكية سياسية. طرح الحزب رؤيته «السياسية» الثابتة للعالم وعممها منهجياً على أعضائه. واختار ما يشبه الانقلاب، الذي يسميه طلب النصرة، سبيلاً للوصول إلى الحكم. وعندما عاد الحزب إلى النشاط مبكراً، في مظاهرات المناطق المحررة، كان أول من رفع الراية السوداء التي مهدت لحضور داعش، رمزياً وخطاباً يتمحور حول إعادة إحياء «الخلافة»، دون أن يقصد.
ما الذي يحدث إذاً؟
أسهمت هذه العوامل، وروافد أقل حضوراً، في تشكيل شخصية متشددة غير متدينة، مقاتلة غير عسكرية، معنية بالثأر لا بالبرنامج، ذكورية، عدوانية، تتقن الجمع بسهولة بين الصوت الإسلامي العالي وإهمال الشعائر الدينية الأساسية وتعاطي مخدر الإتش بوز
تسود المناطق المحررة توجهات أقرب إلى التعبير عن تمظهرات الهوية أكثر من أنها إسلام سياسي. ففي مواجهة نظام بمكوِّن طائفي أساسي ومتزايد نمت النزعة السنّية. وبالتضاد مع حلفه الإيراني الوثيق، ومع بروز قوة كردية فاعلة، التهبت المشاعر العربية وأخذت بعداً صدّامياً بأثر النكاية ولأسباب أخرى. وفي مقابل تلكؤ المدن التجارية الكبرى عن مؤازرة الثورة حملتها الأرياف. وقد أسهمت هذه العوامل، وروافد أقل حضوراً، في تشكيل شخصية متشددة غير متدينة، مقاتلة غير عسكرية، معنية بالثأر لا بالبرنامج، ذكورية، عدوانية، تتقن الجمع بسهولة بين الصوت الإسلامي العالي وإهمال الشعائر الدينية الأساسية وتعاطي مخدر الإتش بوز.
يمكن العثور على هذه الشخصية في مقار الفصائل المتعددة وفي الحياة اليومية في المناطق المحررة وامتداداتها في الخارج. وبسبب تكوينها المهجن يصعب عدّها «إسلامية» بشكل يرتاح إليه التصنيف غالباً، أو «سياسية» بطريقة يمكن التفاهم معها على خطط عمل ثابتة واضحة. ولهذا لا يبقى إلا ترقب تفككها بزوال الظروف الاستثنائية التي أدت إلى ولادتها بالأصل، وانتظار ظهور تيار إسلام سياسي ضروري ويستحق هذا الاسم.