ربما كانت الحياة وردية فعلاً عند كثير من السوريين قبل اندلاع شرارة الثورة ضد نظام بشار الأسد، ويعيش الناس في حب وسلام ويمرحون ويضحكون ويسبحون ويتنزهون كما تظهر اللقطة الأولى من فيلم "السباحتان" (The Swimmers) الذي يحكي للسوريين والعالم قصة يسرى وسارة مارديني اللتين لجئتا إلى أوروبا عبر ركوب البحر، ونالتا شهرة عالمية.
لعبت الممثلتان اللبنانيتان، منال وناتالي عيسى، وهما شقيقتان في الواقع، دور الشقيقتين يسرا وسارة مارديني، إلى جانب بطولة كندة علوش بدور الأم والمصري أحمد مالك بدور ابن العم .في الفيلم الذي كتبته وأخرجته سالي الحسيني، وشاركت بكتابة السيناريو فيه مع إينولا هولمز والكاتب جاك ثورن،
سردية منقوصة
ورغم أن الفيلم تحدث في بدايته عن ثورة شعبية لإسقاط نظام بشار الأسد في دمشق أسوة بالدول العربية الأخرى تونس ومصر وليبيا واليمن، ومحاولة سارة لإقناع والدتها بأنه لا يمكن أن يكونوا منفصلين عن الواقع، ردت عليها والدتها أن ما يجري في تلك البلدان لا يمكن أن يحصل في سوريا، وهو تصريح رسمي للنظام السوري بدأ ترويجه في بداية الثورات العربية.
الفيلم ذهب إلى نتيجة مختلفة عن ثنائية المستبد والمقهورين، بما يشبه شكل الـ "حرب أهلية"، يتنازع عليها طرفان بهدف الوصول إلى السلطة ويقصف بعضهما الآخر فيموت المحايدون الذين لم يتخذوا موقفاً بقذائف من الجانبين أو يضطرون للجوء!
تحدث الفيلم عن سوريتين يفصل بينهما النظام وحواجزه ودباباته، سوريا فيها الحياة والحفلات والرقص والغناء والمقاهي، وفتيات يرجعن إلى بيتهن بعد منتصف الليل، وسوريا الأخرى القريبة والبعيدة في الوقت نفسه، التي تُضاء بالقصف المستمر، والدماء والأشلاء، سوريا "المتمردين".
ورغم أن الفيلم اعتمد في السيناريو على قصة حقيقية، إلا أنه لم يخلُ من بعض الاختلاقات التي تدعم السردية المنقوصة، خاصة في تقديم حالة بطولية لفتاتين، لم تتعرضا فعلياً لقصف في مسبح بدمشق، حيث لم توثق أي حالة لقصف من هذا النوع، ولم تكن فصائل الثوار (رغم كل أخطائها) تستهدف المدنيين بالقناصات، إنما هي جرائم وثقت من قبل منظمات حقوقية دولية نفذها النظام السوري بحق المدنيين.
كما أن استهداف دمشق بقذائف الهاون، لم تتبناه الثورة السورية ولا أي مؤسسة رسمية فيها بل دانته، ودعت لإيقافه فوراً، وفي ظل ذلك لم تشهد دمشق أي مجزرة شبيهة بالتي حدثت في الغوطة الشرقية أو داريا أو حلب ومدن أخرى كان يستهدفها النظام ليل نهار وهجر سكانها من دون أي شيء وليس عبر الطائرة، إلى جانب استغلال النظام لذلك واستهدافه لأحياء في العاصمة أيضاً.
أظهر الفيلم صور قوات النظام السوري في كل مكان بدمشق، في شوارعها ومقاهيها وملاعبها ومسابحها، واختفت سوريا في شخص بشار الأسد، وهو ما رسخه النظام في عقول السوريين على مدى عقود.
ورغم رفض والد الفتيات لفكرة اللجوء، رضخ بعد حادثة قصف المسبح، الذي كان يشهد سباقاً بين عدة سباحين كانت يسرى بينهم، حيث اضطر للسماح لهم بالسفر برفقة ابن عمهما.
من المتسبب في تهجير السوريين؟
وفي الحديث عن أن الفتاتين من مدينة داريا، وهي المدينة التي شهدت حالة ثورية فريدة، من ناحية التنظيم وتقديم مثال حقيقي عن شعارات الثورة السورية وأهدافها، رغم القصف الهائل والمجازر التي تعرضت له والتدمير الممنهج الذي انتهى بتهجير المحاصرين فيها بشكل كامل. كان حرياً بمنتجي الفيلم أن يبحثوا جيداً عن قصة هذه المدينة التي أفرغت حرفياً من سكانها على يد قوات النظام السوري وحلفائه بما في ذلك عائلة "مارديني" الذين كانوا يسكنون فيها.
ولم تكن رحلات اللجوء عبر البحر التي اشتدت وتيرتها عام 2015 - 2016 باتجاه أوروبا لتحصل لولا قصف النظام وتدمير المدن، وتطويع الآلة العسكرية في شن حرب تجاوزت طابعها المحلي إلى صراع دولي، وهذا مما أغفله الفيلم بقصد أو من دون قصد.
ورغم الرحلة الشاقة التي عانت منها سارة ويسرى، مثل كل اللاجئين السوريين الذين ركبوا البحر، فهم قد هربوا من الموت الذي كان يسببه النظام في المقام الأول، مع عدم نفي تورط أطراف أخرى تسببت بهروب كثير من الأشخاص، لكن لا يمكن مقارنتهم بحجم انتهاكات النظام.
ومن دون شك كان استخدام سارة ويسرى لمهارتهما في السباحة بهدف إنقاذ اللاجئين الذين كانوا برفقتهم في المركب، أمر يستحق الإشادة والتقدير، كحالة إنسانية وشجاعة في عرض البحر، إلى جانب طريق اللجوء وصعوبته وتفاصيله الكثيرة.
الفيلم أشار إلى التدخل العسكري الروسي في سوريا، وذكر اسم فلاديمير بوتين، ووضع صوراً لقصف وأعداد قتلى، في حين قالت سارة مارديني: إن "الدور سيأتينا"، وهي إشارة إلى مسؤولية مباشرة لروسيا في تهجير السوريين، خصوصاً مع إظهار صور الضحايا الأطفال.
من جانب آخر، كانت بعض حوارات الفيلم تحمل نوعاً من التركيز على تمثيل "سوريا" في بطولة الألعاب الأولمبية الذي كان سيقام في البرازيل عام 2016، ورفضاً كبيراً من قبل يسرى لتمثيل اللاجئين إلى أن قبلت فيما بعد، فإن كان ما ورد حقيقياً فهو ينافي تصريحات مارديني الصحفية عن أهمية تمثيلها اللاجئين حول العالم.
كما أن إمكانية وصول يسرى إلى البرازيل عبر منتخب النظام السوري في تلك الفترة، كان صعباً جداً من دون أن تكون هناك ثورة أو "حرب" بسبب حجم الفساد الذي يعانيه الاتحاد الرياضي السوري، وعدم أهلية القائمين عليه.
من الناحية الفنية كان الفيلم بإخراج جيد جداً وتكاليف عالية جداً بدت في مواقع التصوير وتقريب الصورة لأعلى درجة، وبدا إقحام اللغة الإنكليزية مستهجناً ضمن معظم الحوارات، واللهجة السورية الشامية خشبية لدى أكثر الممثلين خصوصاً الأب وابن العم.
هل يمكن فصل الرياضة عن السياسة؟
وفي الحديث عن خسائر السوريين، بدءاً من مئات آلاف القتلى وملايين الجرحى والبيوت المهدمة، والبنية المجتمعية المفككة، وإشعال حرب لا هوادة فيها ما زالت فصولها مستمرة إلى اليوم، على يد متسبب رئيسي هو النظام السوري، لم تكن خسارة التمثيل الرياضي أكبر مصائب السوريين، إنما واحدة من أقلها بلا شك.
وهل يمكن حقاً فصل الرياضة عن السياسة؟ هذا السؤال المستمر الذي يشغل بال السوريين مع كل محفل رياضي دولي أو محلي، كان أخيراً في مباراة المنتخب السوري لكرة القدم الذي فشل في التأهل لكأس العالم على طول تاريخه.
بالإجابة عن إمكانية فصل الرياضة عن السياسة خصوصاً في سوريا، التي يحكمها نظام شمولي مستبد يتجاوز مفهوم السلطوية التي تسيطر على النظام السياسي الفردي الذي لا مساءلة دستورية فيه أصلاً، ولا حريات أساسية ولا قضاء مستقل، نصل إلى أن الحكم الشمولي في أساسه لم يفصل بين السياسة والرياضة.
ومنذ تعريفات الشمولية التي وضعها علماء السياسة قبل الحرب العالمية الثانية، قالوا إن الشمولية في تصورها العام تتحكم بكل أوجه الحياة داخل المجتمع بما في ذلك السياسة والاقتصاد والدين والتعليم والفن والرياضة وأخلاقيات المواطنين، وهذه الشمولية طورها نظام الأسد على مدار نصف القرن متدخلاً في كل التفاصيل، وناسباً كل نجاح أو فوز له ولرموزه.
ومن التضليل بمكان خصوصاً في الحالة السورية، أن يعتقد أن في سوريا سياسة أو ممارسة سياسية، ولذلك يتوقف النقاش في أمر حسمه النظام لصالحه وأنهى المفهوم السياسي والاجتماعي للبلاد وفككها وأعاد ترتيبها وفق منظومة معدومة القيمية والهوية، ترتبط فيه وتنتهي بانتهائه.
والسياسة في أصلها هي تدافع أو إدارة لصراع سلمي بين قوى سياسية واجتماعية، أي لا مجال للعنف فيها، ورغم أن الحرب بمفهومها التدميري الشامل قد انتهت بعد أن دمرت أكبر قدر ممكن من كل شيء، إلا أن النظام لم يتخلَ عن أي أداة من أدوات تعاطيه مع السلطة وتجييرها لإرغام الشعب، محاولاً إعادة بناء نظامه بشكل أقوى، مع اختلاف حيثيات ذلك.
وبالعودة إلى الرياضة، منذ تسلم حزب البعث السلطة وأحكم حافظ الأسد قبضته على الحكم وأورثه فيما بعد لنجله بشار الأسد، كانت الرياضة بكل أنواعها وتفصيلاتها تعود نتائجها لـ "قائد الوطن" وليس لسوريا أصلاً ولا لشعبها.
والاتحاد الرياضي العام قاده لعقد كامل اللواء موفق جمعة، الذي كان ضابطاً في جيش النظام السوري، والتقى رأس النظام بجميع لاعبي المنتخب لكرة القدم ووقع على قمصانهم، فهو غير مستقل أصلاً، وأي فوز رياضي جُير وسيجير لصالح النظام.
ورغم كل الجرائم التي ارتكبها النظام السوري خلال أكثر من 12 عاماً، لا يزال النظام هو الممثل الشرعي للشعب، وإن أثاروا أنه فقد شرعيته ولا بد من رحيله، لكن لم ينهوا تمثيله أبداً، وأي تشجيع من نوعه لمنتخب النظام سيساهم في دعم شرعية النظام وإعطائه مساحة مفتوحة لتلميعه وتعويمه.
الفصل الوهمي
والفصل بين الرياضة والسياسة، فصل وهمي في مضمونه وينافي التاريخ الذي جمع بين الرياضة والسياسة، ليس فقط بالعودة إلى الدعاية الكلاسيكية في فترة حكم فرانثيسكو فرانكو ديكتاتور إسبانيا أو الصعود النازي في أولمبياد برلين لعام 1938 مثلاً. وعلى ذلك التشابك جمع رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني بين رئاسته لنادي ميلان ومنصبه السياسي.
ولم تشفع نجومية الهولندي يوهان كرويف عندما اتخذ موقفاً مباشراً من الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال خورخي فيديلا في الأرجنتين من حرمانه من المشاركة في مونديال 1978، الأمر الذي أفقد هولندا مفاتيح النجاح بكأس العالم، في الوقت الذي كانت تحيزات أسطورة كرة القدم الأرجنتينة دياغو مارادونا السياسية في صداقاته لزعماء اليسار مثل تشافيز وكاسترو ومادورو.
وهذا التداخل السياسي الرياضي المستمر، أبرز الكاتب الهولندي سيمون كوبر في كتابه "الكرة ضد العدو"، في محاولة منه لشرح الدور السياسي الذي تلعبه الرياضة وخصوصاً كرة القدم في العالم.
ويرى كوبر أن كرة القدم ليست مجرد لعبة على مستطيل أخضر بل هي "حرب" وفقاً لما عاينه في زياراته وتنقلاته لدول العالم، وهو في هذا يشبّه فوز هولندا على ألمانيا بفوز إيرلندا على إنكلترا بكل ما يختزله ذلك من عداوة سياسية وتاريخية بين البلدين، والشعارات التي رددت بعد الفوز أو الخسارة.