لكل الحروب طابع مختلف عندما يصل الأمر إلى الفظائع المرتكبة فيها، فالجرائم التي ارتكبت في حرب كمبوديا ما بين عامي 1970-1975 مختلفة عن الجرائم التي ارتكبت في معسكرات الاعتقال بشمال غربي البوسنة في عام 1992. وجرائم الحرب الأهلية التي اندلعت في سيرلانكا ما بين عامي 1983-2009 تختلف عن تلك التي اقُترفت في سيراليون في عام 1999، إذ هناك تم اختيار مدنيين بشكل عشوائي ثم قطعت أياديهم من المعصم أو المرفق، والقصد من وراء ذلك هو تحويل هؤلاء الأشخاص إلى ضحايا ليكونوا بمنزلة شواهد بشرية على الإرهاب والترويع.
ولكن على الرغم من اختلاف جذور الحروب وأسبابها، فإن القصف العشوائي المستهين الذي يمارسه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، ذلك القصف الذي يعتبر جزءاً أساسياً من دليل العمل لديه، يشبه إلى حد مذهل ما ارتكبه بوتين في حروب أخرى كنت شاهدة عليها خلال عملي كمراسلة.
ما بين غروزني وحلب
عندما عدت لدفاتري القديمة التي دونت فيها ملاحظاتي أيام عملي كمراسلة في نزاعات سابقة، وجدت نفسي قد وثقت جرائم الحرب ذاتها التي نراها اليوم في أوكرانيا، ولعل أبرز ما حدث منها كان في غروزني بالشيشان، بين عامي 1999-2000، وذلك خلال حرب الشيشان الثانية الوحشية، وذلك عندما كان بوتين حديث العهد بالسلطة، كما شهدنا ذلك خلال عملية تدمير مدينة حلب السورية.
معظم الإصابات التي وقعت في أوكرانيا كان سببها استخدام أسلحة متفجرة ذات تأثير واسع النطاق، ويشمل ذلك القصف بوساطة المدفعية الثقيلة والاستعانة بالعديد من النظم الصاروخية والغارات الجوية، ولقد لقيت الشيشان المصير ذاته على يد المدفعية ورشاشات المروحيات والغارات الجوية، أما حلب فقد دمرتها طائرات بوتين الحربية ذات الصوت المدوي.
وفي جميع تلك الحالات، استعان بوتين وجنرالاته (بما أنه عين حديثاً جزار سوريا أي الجنرال ألكسندر دفورنيكوف ليكون قائد العمليات البرية في أوكرانيا)، بالقوة الجوية التي تضرب بشكل عشوائي، وهذا ما أدى إلى ارتفاع الإصابات والقتلى بين صفوف المدنيين. وفي كلتا الحالتين، كانت الطائرات الحربية تستهدف المناطق السكنية المدنية التي تتضمن مشافي ومدارس، ما دفع المدنيين للهروب خوفاً من هذا الخطر، كما تسبب بوتين بظهور طوابير من اللاجئين، وتمزيق النسيج المجتمعي.
إن الأشخاص الذين شهدت مقتلهم أو إصابتهم في حروب بوتين لم يكونوا موجودين في ساحات المعركة، وأتذكر من بينهم بوضوح الأطفال الذين خسروا أطرافهم أو الذين اخترقت الشظايا أدمغتهم، والنساء وهن يحملن أطفالهن الصغار، والعجائز المذهولين، والمعاقين، وكلهم من الأشخاص الذين لا يستحقون الاستهداف، بل كان من المفترض حمايتهم بموجب القانون الإنساني الدولي.
بوتين والديكتاتوريون
دعم بوتين أعتى الديكتاتوريين وأشدهم ظلماً، مثل بشار الأسد الذي شن حرباً على شعبه وعاقبهم على مطالبتهم بالحرية، كما سمم شعبه بالغاز، وقام بسجن الأطفال وتعذيب الآلاف من الناس، وتجويع مدن بكاملها عبر فرض حصار عليها، وإجبار الملايين من اللاجئين على النزوح والهروب خارج البلاد، إلا أن الأسد فعل كل ذلك بدعم من بوتين والجيش الروسي.
أتت مساعدة بوتين للأسد عبر إرساله للطائرات الحربية الروسية لتقوم باستهداف المشافي والمسعفين المعروفين باسم الخوذ البيضاء بشكل ممنهج. وفي أثناء حصار حلب في عام 2016، قتل أكثر من 440 مدنياً، بينهم 90 طفلاً، كما قتل رضع حديثو الولادة وأطباء وطلاب خلال تلك الهجمات.
"أجل.. لقد كانت سوريا حرباً مؤلمة"
كانت تلك جرائم حرب واضحة وضوح الشمس، إذ بحسب ما أوردته منظمة هيومان رايتس ووتش، فإن الغارات الجوية التي شنها النظام وروسيا "بدت في معظم الأحيان وكأنها تضرب الأهداف بشكل عشوائي وباستهانة، إلى جانب استهدافها المتعمد لما لا يقل عن مرفق طبي واحد، وقد شمل ذلك استخدام أسلحة عشوائية مثل الذخائر العنقودية والأسلحة الحارقة". بعد ذلك توجهت قاذفات القنابل الروسية إلى إدلب السورية، حيث صارت تستهدف المزيد من المرافق المدنية، والتي شملت مشافي التوليد.
تمثل سوريا بالنسبة لي تلك المرحلة التي وثقت فيها بعضاً من أشد الجرائم فظاعة خلال عمري المهني الذي امتد لفترة ليست بالقصيرة، لعل أكثرها إرهاباً هو قصف المشافي، إذ أتذكر كيف خرج طبيب سوري غاضب وأخذ يبكي حنقاً وسخطاً على العالم الذي يقف صامتاً تجاه ما يجري. كما أتذكر الأيام التي أمضيتها مع أشجع عاملين في مجال الرعاية الصحية، فقد كانوا يهرعون لإنقاذ أرواح الناس عبر نقلهم إلى المشفى حيث يتم فرزهم بحسب إصاباتهم، بالرغم من ضعف الإمكانيات وشح اللوازم الطبية. أتذكر الرسائل المحزنة التي تلقيتها من صديق وطبيب في إدلب، سأشير إليه هنا باسم الدكتور عمر حفاظاً على أمنه، بما أنه بقي يجري عمليات للأطفال سنوات داخل قبو تحت ضوء مصباح يدوي. أتذكر الشهادات التي أدلى لي بها ضحايا التعذيب الذين مورست بحقهم طرق تعذيب وحشية، ما كان يدفعني للعودة إلى أطباء للتأكد من أنه يمكن للضحايا أن يبقوا أحياء بعد تعرضهم لكل تلك الانتهاكات... أجل، لقد كانت سوريا حرباً مؤلمة.
"لن يحدث خير بعد اليوم"
بعدما رأيت ما حل بأوكرانيا، تذكرت ما حدث في حرب قاسية وخطرة أخرى. إذ في شهر كانون الثاني من عام 2000، كنت في الشيشان، عندما سقطت عاصمتها غروزني بيد القوات الروسية، فاحتفل بعض منهم بتناول الفودكا ومهدئ ديميدرول. ولهذا لن أنسى ما حييت مشهد المدينة المفقودة، ومروري بدار المكفوفين، حيث وجدت ثلاثين شخصاً من قاطنيها وهم يجلسون مذهولين وسط أنقاض ما كان داراً لهم في وقت من الأوقات. كان الجو وقتئذ بارداً جداً، وكان السقف قد تهاوى بسبب القصف، يومئذ صحت بهم: "ما الذي تنتظرونه؟" لأنهم كانوا جالسين وبأيديهم عصيهم البيضاء، فرد أحدهم: "ننتظر حتى يأتي أحد وينقذنا".
والمفارقة أن غالبيتهم كانوا من أبناء الإثنية الروسية، وعلى رأسهم من قال لي: "أمضيت عمري وأنا أنتظر الخير حتى يحدث"، ثم شرح لي كيف فقد بصره في حادث سيارة عندما كان في الثامنة والعشرين من العمر، وأردف قائلاً: "أظن الخير لن يحدث بعد اليوم".
بعد مرور أسبوع أو أكثر على ذلك، رأيت بأم عيني صواريخ بوتين الهادرة وهي تقصف قرية صغيرة كنت أحتمي فيها مع بعض النسوة العجائز داخل قبو لتخزين البطاطس، رأيت يومئذ فوق الثلج حقائب مدرسية لأطفال وقد اكتست بالدماء.
وفي غروزني، تلك المدينة المنسية التي هشمها بوتين كما يهشم دميته، كتبت حينئذ أنه حتى الأطباء أخذوا "يصيحون ويصيحون" في زوايا الشوارع. أتذكر امرأة بعد قصف جوي همجي وقد "خرجت من قبو بعد مرور عشرة أيام عليها هناك... كانت تعلوها القذارة والأوساخ، وقد أخفى السخام وجهها الذي لم تغسله طوال أسابيع"، يومئذ هتفت تلك المرأة قائلة: "إنني متعلمة، وأكره الخروج بهذا الشكل، ولكني مسخت لحالة القرود".
حالياً، يلتفت بوتين لأوكرانيا ويستخدم معها دليل العمل ذاته الذي سبق لي أن رأيته يتبعه ليحدث أثراً مدمراً في كل من سوريا والشيشان (وفي هذه الأثناء ينكر الكرملين جرائم الحرب ويدعي بأن القوات العسكرية الروسية لا تستهدف المدنيين).
أراقب اليوم أوكرانيا وأنا أعرف ما الذي يفعله بوتين تماماً، وذلك لأن الهدف من حملة الترويع التي يشنها هو إضعاف إرادة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وعزمه على المقاومة، كما أن الهدف منها هو تجريد البشر من إنسانيتهم، وذلك لأن بوتين يعتقد أن بوسعه تحطيم الروح المعنوية في أوكرانيا تماماً كما يقوم بتكسير عظام شعبه.
التطهير العرقي
ثم إن هذه السياسة عملت على إخلاء البلاد من أهلها، وذلك لأن الحرب تعري البلاد عندما تجبر سكانها على النزوح والهرب، وهذا ما يعرف بالتطهير العرقي، فقد أجبر بوتين أكثر من 12 مليون أوكراني على ترك منازلهم وبيوتهم والرحيل عنها بحسب ما أوردته الأمم المتحدة، حيث هرب أكثر من خمسة ملايين منهم إلى دول الجوار، في حين يقدر بأن نحو 7.1 مليون نسمة قد نزحوا في الداخل الأوكراني. وبالطريقة ذاتها، فر ملايين اللاجئين من سوريا إلى دول الجوار، وخلال السنة الأولى فقط من حرب الشيشان الثانية، نزح أكثر من نصف مليون نسمة.
من الصعب استيعاب درجة انعدام الأمان بالنسبة للبشر إلى أن يقف أحدنا في منتصف ممر ليشاهد الناس الذين اعتراهم اليأس وهم يهربون حاملين ما طالته أيديهم من متاع، مثل جوازات السفر، والأطفال، وحقيبة ملأى بالثياب. وأنا أعرف منذ أمد بعيد بأنه لا يوجد أحد يرغب بترك بيته والرحيل عنه، ولهذا ينتظر الناس عادة حتى آخر لحظة ممكنة للرحيل، إلا أن الأوان يكون قد فات حينئذ للقيام بشيء أكثر من الهرولة والهرب بعيداً.
في شتاء 2013-2014، عملت مع اللاجئين في تركيا ولبنان والأردن ومصر والعراق لصالح المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، حيث قابلت الآلاف من اليائسين الذين هدهم الحزن والكمد لأنهم باتوا يدركون أنهم لن يتمكنوا من رؤية البلاد التي ولدوا فيها بعد الآن، ولا حتى أولادهم بوسعهم أن يروها، فقد كان إحساسهم بالنزوح والاغتراب، فضلاً عن إحساسهم بالصدمة وانعدام الكرامة، عميقاً لدرجة تفوق الوصف.
بيد أن آلة القتل لدى بوتين لن تتوقف، إلا أن أحداً لن يتحدث عن تلك الأمور طوال أشهر قد تمتد لسنوات مقبلة، إذ ستكون هناك المزيد من المقابر الجماعية، والمزيد من القصف، لأنه سيواصل انتهاك القانون الإنساني مع إفلاته من العقاب.
سبق للفيلسوف جورج سانتايانا أن كتب قائلاً: "من لا يعرفون التاريخ من المحتم عليهم أن يكرروه"، ولكن في حالة بوتين، لا بد أن يستمر العمل بمقتضى دليل العمل المخصص للترويع، إلى أن يتم إيقاف بوتين ومنعه من مواصلة ذلك في نهاية المطاف.
بقلم الصحفية: جانين دي جيوفاني
المصدر: فورين بوليسي