يتوجب على منى كل أسبوع أن تتغيب عن درس اللغة الألمانية، وهو ما بررته لإدارة المدرسة بأن لدى ابنها زين -عشر سنوات- جلسة تصحيح نطق ""Logopädie" أسبوعية في مركز متخصص في برلين.
وتشرح منى بأنه من الصعب على زين التخاطب مع الآخرين بلغة واضحة، ويعاني أيضا من اضطرابات البلع، وبحسب التشخيص الطبي فإن المشلكة نتجت عن خلل في وظائف الدماغ والحنجرة وجهاز التنفس والفم والبلعوم وكذلك المريء.
تقول منى لـموقع تلفزيون سوريا، إن التشخيص الطبي في ألمانيا عزى الخلل الحاصل مع ابنها زين لأسباب تتعلق بالـ"تشوهات والمآسي" النفسية التي عاشتها منى قبل وخلال فترة الحمل.
النجاة من مجزرة في داريا
في عام 2012 كُتِب لمنى حياة جديدة بعد أن نجت من مجزرة، أودت بحياة سبعة من أفراد أسرتها في مدينة داريا خلال هجوم قوات الأسد وميليشيا حزب الله وأخرى إيرانية.
وانتقلت منى مع من تبقى منهم للعيش مؤقتاً في زاكية بريف دمشق، ومن ثم تمكنوا من الانتقال في العام نفسه إلى مخيم الزعتري شمالي الأردن، وفي مطلع العام الحالي 2022 تم اختيارهم ضمن برنامج الأمم المتحدة للهجرة إلى ألمانيا.
وتضيف منى بأنها عرضت ابنها زين على أطباء في الأردن، "إلّا أنه لم يستطع أحد منهم أن يفسر أو يربط مشكلة زين بما عايشناه من خوف ورعب قبل خروجنا من سوريا"، وهو خلاف ما حصل في ألمانيا، حيث تم تخصيص أكثر من سبع جلسات مع عدد من الأطباء المتخصصين لسماع قصتها، وما حصل معها بالضبط إضافة لإجراء العديد من التحاليل الطبية، ليخرجوا بنتيجة قاطعة مفادها بأن ما حصل مع زين هو نتيجة صدمات نفسية متتالية تعرضت لها الأم خلال حملها وأثناء فترة الإرضاع.
وفي مدينة بون، لا تستطيع فاطمة أن تخرج للتنفس والترويح عن نفسها بالقرب من نهر الراين، حيث الحدائق ومراكز ألعاب الأطفال متوزعة على طرفي النهر، لأن ابنها مصطفى -سبع سنوات- تنتابه نوبة بكاء فظيعة ما إن يرى مسطحات مائية.
"بلم" يغرق بالسوريين في بحر إيجه
تقول فاطمة لـموقع تلفزيون سوريا، في عام 2019 أو "عام الرعب" كما تسميه، قرر زوجها الهجرة عبر البحر إلى أوروبا، وحاولوا مرارا السفر براً بعد أن ضاقت بهم سبل العيش في مدينة غازي عنتاب التركية، لكن محاولاتهم باءت بالفشل فكان الخيار الوحيد أمامهم هو ركوب البحر، وقبل الوصول إلى شواطئ إحدى الجزر اليونانية غرق بهم "البلم" الذي كان يحمل قرابة 27 شخصاً وتمكن الجميع من النجاة بمساعدة سفينة يونانية والوصول إلى بر الأمان باستثناء امرأة طاعنة في السن، فقد كان الموت أسرع من خفر السواحل الذين انتشلوا المجموعة بكاملها بمن فيهم جثة الفقيدة المسنّة.
وتضيف فاطمة بأنها وضعت مولودتها انتصار في اليونان، حيث كانت في شهرها السادس عندما وصلوا هناك، وعاشوا في مخيم للاجئين على الجزيرة لمدة ثمانية أشهر، ولكن انتصار والتي تبلغ من العمر نحو ثلاثة أعوام لم تنبس حتى الآن ببنت شفة، وهو ما دفع طبيب الأطفال لتحويلها إلى مركز نطق لمعرفة الخلل ذو منشأ عصبي أم نفسي أم عضوي.
وفي المركز لاحظت فاطمة بأنها ليست وحيدة، فحالات مشابهة لمهاجرين من اليمن وسوريا وأفغانستان تملأ غرفة الانتظار، وطلب منها ملء استمارة تحتوي على أكثر من خمسين سؤالا متوزعين على نحو سبع مجموعات، وتحيط بكل الظروف التي عايشتها والدة المريض وكذلك فيما إذا كانت لدى العائلة حالات مشابهة من قبل. وخلص التقرير الطبي لحالة انتصار بأن ما عايشته الأم من ظروف قاهرة ومأساوية كان المتسبب الرئيسي في تدهور الحالة النفسية لانتصار.
مأساة الأم تنعكس على صحة الطفل
وللحديث أكثر عن أسباب الظاهرة بين اللاجئين بشكل عام والسوريين منهم بشكل خاص، تحدثنا إلى الدكتور كريستوف غروندمان من مستشفى "karl bonhoeffer nervenklinik" في برلين، والذي أكد بدوره أن أكثر من 90% من حالات صعوبات النطق لدى أطفال المهاجرين الواصلين إلى ألمانيا تعود لأسباب تتعلق بظروف صعبة عايشها الطفل أو أمه خلال فترة حملها به والتي انعكست بشكل مباشر على مقدرته على النطق.
وأضاف الدكتور غروندمان بأن حالات الأطفال في عمر مبكر يكون علاجها وتصحيها أسهل، وركز الدكتور على أهمية تدريب وعلاج الأطفال بلغتهم الأم التي سمعوها خلال أشهر وسنواتهم الأولى من أعمارهم.
اقرأ أيضا: دراسة: 75% من اللاجئين السوريين يعانون اضطراب ما بعد الصدمة
وقال الدكتور غروندمان: "أغلب الحالات الواصلة إلينا تعود لأفراد يعانون من صعوبات النطق أو اضطرابات النطق أو مشاكل النطق (بالألمانية: Sprachstörung) والتي تأخذ شكل مشاكل في تكوين الأصوات التي تُساعد على التواصل مع الوسط المحيط، ويُعرّف النطق على أنّه أهم وسيلة التي يُوصل بها الفرد أحاسيسه وأفكاره ومشاعره مع مجتمعه، ومن أجل ذلك تعمل أجزاء مختلفة من الجسم كالرأس والعنق والصدر والبطن وليس فقط الفم، بتناسق متناغم لتكوين الكلام وفي الواقع قد تؤثر صعوبات النطق بشكل سلبي في تواصل الطفل مع زملائه في المدرسة وبالتالي يضعف قدرته على التعلّم واكتساب المهارات من المعلمين والزملاء".
وختم الدكتور غروندمان كلامه بالقول: "لحسن الحظ ساهم العلاج الذي نتبعه في التغلّب على كثير من مشكلات النطق وتحسينها، ولا داعي للقلق مطلقا في هذا الخصوص".