انتهت المرحلة الأولى من تاريخ الإخوان المسلمين مع خروج عصام العطار من التنظيم، ويمكن القول إنها مرحلة التأسيس الأولى مع المراقب الأول مصطفى السباعي والمراقب الثاني العطار، من بعد ذلك ذهب الإخوان مذهبا آخر ينحو إلى شيء من التصلب مع شحنة من العنف بتأثير سيد قطب الذي جاء من المدرسة الماركسية، عابرا الليبرالية، لاجئا إلى "الإسلامية" التي وجد فيها مستقره، ربما بسبب موقف شهده قطب في الولايات المتحدة وجد فيه كراهية للإسلام، قيل إن هذا الموقف كان السبب في تحول قطب المفاجىء من الإعجاب بالغرب إلى كراهيته بكليته؛ مجتمعاتٍ وثقافةً ودينا.
ولم يكن هذا خيار العطار الذي عاش جل حياته في أوروبا - ما يقرب من ستة عقود- وكان مطلعا على ثقافتها وحضارتها. فما بين سيد قطب وعصام العطار نميز بوضوح تيارين إخوانيين مختلفين، وفي الأصح نميز تيارين إسلاميين متفارقين، فالعطار بوقوفه في وجه الإخوان وانتقاده لهم في غير موقف ومحطة أصبح ليس خارج التنظيم فحسب، بل أيضا خارج التيار بكليته، إن صحّ اعتبار الإخوان تيارا إسلاميا قائما بذاته.
وعلى خلاف عديد من قادة الإسلام السياسي فالعطار أقرب لأن يكون بشخصه ونهجه علامة لتيار في الإسلام الحضاري، معتدل ومنفتح على التيارات السياسية غير الإسلامية وعلى الثقافات غير العربية، تيار من علاماته الأساسية الحوار مع المختلف والتسامح مع المعتدي ونبذ العنف، ويمكن ذكر أسماء قليلة يمكن اعتبارها رموزا لهذا التيار إلى جانب الأستاذ العطار كجودت سعيد والإمام الشيرازي.
دعا أستاذنا العطار إلى الحوار والتسامح وعاشهما فعليا إلى آخر يوم من حياته، إذ لم يكن بين أقواله ومواقفه أي فارق أو تناقض، عاش روحية الحوار والتسامح حتى مع العدو في محطات بارزة لعلّ أبرزها تسامحه مع قاتل زوجته وحبيبته أم عياله بنان الطنطاوي، وهو في موقفه الفريد هذا كان أقرب ليكون داعية اللاعنف جودت سعيد أو المهاتما غاندي، هو القائل إنه يفضل الانتظار خمسمئة عام للوصول إلى الحكم على الوصول إليه عن طريق العنف أو الكفاح المسلح خلال سنوات قليلة.
رفض العطار السير في ركب حكومات انقلابية جاء بعض موظفيها طالبين منه قبول منصب وزير أو حتى منصب رئاسة وزارة في إحداها.
وبعيدا عن هذه الخصال الحميدة، فإن الفضائل التي امتاز بها العطار، من بين أبرز الديمقراطيين السوريين، بل من بين أهم "الديمقراطيين الإسلاميين" في سوريا -لو جاز الاصطلاح- الذي اتخذ مواقف جريئة لصالح الديمقراطية، إذ رفض السير في ركب حكومات انقلابية جاء بعض موظفيها طالبين منه قبول منصب وزير أو حتى منصب رئاسة وزارة في إحداها، وكان العطار إلى ذلك رجلا وحدويا عروبيا رفض التوقيع على وثيقة الانفصال عن مصر، رغم أن قادة في البعث كانوا من رواد الوحدة وضعوا تواقيعهم على تلك الوثيقة- الإعلان !
ليس هذا فحسب، بل إن للأستاذ عصام العطار مواقف تُعد اليوم ثورة على الإسلام السياسي، وإن لم تكن يومها تحسب على هذا النحو، غير أنها في كل حساب وميزان، تُعد موقفا فريدا لسياسي إسلامي، إذ إنه رفض النص على أن يكون الإسلام دينا للدولة السورية، في نقاش شهير جرى في الخمسينيات لكتابة دستور لسوريا، وقف فيه العطار مع أستاذه مصطفى السباعي ضد رجال دين شوام أصروا على تضمين الدستور عبارة "الإسلام دين الدولة"، وهو ما نسيه أو جهله بعض مدّعي العلمانية الذين رفضوا تأبين العطار أو ذكر أي حسنة له واكتفوا بترديد ببغائي اتهامي أنه كان المرشد العام للإخوان المسلمين رغم أنه مضى ما يقرب من نصف قرن على تركه الجماعة!
كان العطار مميزا منذ طفولته، إذ بانت أمارات النباهة على محياه، منذ كان تلميذا في مدرسة التجهيز بدمشق، حتى أُعجب به أستاذه السياسي والمفكر ميشيل عفلق، فانعقدت بين التلميذ والأستاذ صداقة، ولم يكن عفلق الأستاذ الوحيد الذي أعجب بهذا التلميذ النجيب، فلم تنقض سنوات حتى قدمه الشيخ علي الطنطاوي لجماعة من كبار الأساتذة والعلماء على أنه الأستاذ لا الطالب عصام العطار.
وأصرّ أن يعتلي المنبر بدلاً عنه ويخطب فيهم كأستاذ، ولعل مَردّ نباهة العطار الطفل تعود لنشأته في بيئة علمية راقية إذ إن والده عالم وقاض عدلي وشرعي، درس على يده القرآن في صغره ومن ثم قرأ لكبار الأدباء العرب مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد ولمفكرين كبار أمثال زكي نجيب محمود، وأحمد أمين، وعلي عبد الواحد وافي وقسطنطين زريق، وسلامة موسى، وعبد الرحمن بدوي.
تحدى عصام العطار حافظ الأسد بعد إصدار القانون 49 الذي ينص على إعدام كل منتم لجماعة الإخوان المسلمين، مؤكداً أنه المراقب العام للجماعة.
ولو بحثت عن زعيم سوري أو عربي اجتمعت عنده هذه الخصال و الصفات لما وجدت مثل عصام العطار، فأي زعيم رفض السلطة والحكم ثلاث مرات؟ وأي زعيم عرّض نفسه للاعتقال والخطر ثلاث مرات؟ مع الشيشكلي الذي أصدر مذكرة اعتقال بحقه، ومع عبد الناصر الذي لم يتوقف عن معارضته وانتقاده في خطبه التي كان يلقيها كل جمعة في مسجد جامعة دمشق، ومع حافظ الأسد الذي حين أصدر قانون 49 الذي ينص على إعدام كل منتم إلى جماعة الاخوان المسلمين، أعلن العطار متحديا الأسد أنه المراقب العام للإخوان المسلمين؟
ومَردّ تمرد العطار يمكن نسبه لوالده الذي كان من جملة الوطنيين السوريين الذين تمردوا على السلطة العثمانية فأصدر بحقهم جمال باشا حكم الإعدام فلجأ الوالد إلى جبل العرب، وربما كان لجوء والده إلى بيئة غير سنية كرس في ذهن ونفسية العطار الطفل نزوعه إلى الانفتاح الديني والوطني بقي إلى آخر حياته سنجده في طيف واسع من معارفه وزواره السوريين، ولعل صورة انتشرت بعد وفاته وجمعته إلى وطنيين سوريين من مختلف التوجهات السياسية والأطياف الاجتماعية أمثال ميشيل كيلو وعارف دليلة وغيرهما تعبّر على انفتاحه ولقائه مع الجميع دون تمييز على أساس سياسي أو مذهبي أو ديني.
ومن فضائل الأستاذ عصام العطار التي يمكن لنا أن نختم بها حديثنا أنه كان رجلا متوازنا لا يكيل بمكيالين، وهذه صفة من النادر أن نجدها في سياسي سوري اليوم، ألا يكفيه مقولته الشهيرة: "نحن لا نكفر بالطاغوت في مكان ونؤمن به في مكان، ولا نحاربه في بلد ونكون جنده في بلد، ولكننا نكفر بالطاغوت ونحاربه حيثما كان، ونقف مع الحق في كل مكان وزمان، إن مخاصمتي لطاغوت لا يمكن أن تضعني في خدمة طاغوت آخر مهما كانت الظروف".
تلك كانت بعضاً من فضائل ومآثر أستاذنا عصام العطار وهي فضائل ومآثر وطنية وإنسانية وخُلقية تجعل منه بحق أستاذا ومرجعا للسوريين جميعا، فمن مثله بين الكبار؟