أثبت بشار الأسد أنه ذلك الديكتاتور الذي يستغل زلزالاً مدمراً وقع في بلده حتى يعيد تأهيل نفسه أمام المجتمع الدولي وهو يتجهز لالتقاط الصور في منطقة منكوبة برفقة زوجته.
للمرة الثانية يجول بشار الأسد جولة المنتصر في حلب كتلك التي فعلها برفقة أسرته خلال الصيف الماضي في رحلة ثقافية استجمامية، على الرغم من أن قواته رمت براميل متفجرة على تلك المدينة قبل سنوات قليلة.
أصبح للأسد الذي نبذه الجميع طوال العقد الماضي مبرر وسبب ليشعر بالارتياح من جديد، فقد وصلته مكالمات لتعزيته من حلفاء أمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما اتصل به أيضاً قادة سبق أن نأوا بأنفسهم عنه، مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأيضاً عاد وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد آل نهيان لزيارته للمرة الثالثة، بعد كسر الجليد بينهما في تشرين الثاني من عام 2021. وصار المسؤولون السوريون يظهرون على الإعلام الدولي، ويطالبون بإنهاء العقوبات الغربية التي زعموا أنها تعيق جهود الإغاثة، بيد أن تلك العقوبات تتضمن في الحقيقة إعفاءات تخص المساعدات الإنسانية التي ظلت تتدفق على دمشق من خلال الأمم المتحدة طوال السنوات الماضية.
حطت أكثر من 60 طائرة تحمل مساعدات إنسانية في المناطق التي يسيطر عليها النظام في سوريا، كان من بينها حلب، وقد أرسلت معظم تلك الطائرات من قبل الدول الصديقة مثل إيران والعراق والإمارات، بيد أن السعودية التي سبق أن رفضت إحياء العلاقات مع دمشق، أرسلت هي الأخرى طائرة تحمل 35 طناً من المساعدات لمدينة حلب، لتكون تلك الطائرة الأولى من بين طائرات أخرى ستلحق بها. إذ ينبغي بذل كل جهد لمساعدة الشعب السوري المتضرر بسبب الزلزال، سواء في مناطق النظام أو المعارضة، إلا أن ذلك يجب ألا يدفع للترحيب بعودة الأسد إلى المجتمع الدولي، لأن منحه الحصانة كمكافأة لن يترتب عليه سوى انعدام الاستقرار مستقبلاً.
منذ تراجع باراك أوباما المشين في عام 2013 عن خطه الأحمر فيما يتصل بالأسلحة الكيماوية، وما أعقب ذلك من تدخل عسكري روسي شامل لدعم الأسد، تحول النهج الأميركي إلى عملية كي للجرح السوري، لأن إسقاط الأسد سيكلف الكثير، بيد أن انسحاب القوات الأميركية من شمال شرقي سوريا يعد نصراً بالنسبة له. ومع تراجع موجة اللجوء إلى أوروبا، واحتواء خطر الإرهاب، تقبل الجميع الوضع الراهن على الرغم من ظلاله الكارثية على المدنيين السوريين. إلا أن الزخم الدبلوماسي الذي خلفه الزلزال قد يصعّب من استمرار الوضع على ما كان عليه.
وبعيداً عن إرسال المساعدات الإنسانية وتخفيف العقوبات بما يسمح بعقد بعض الصفقات المالية، من غير المرجح للولايات المتحدة أن ترسم تغييراً شاملاً على سياستها تجاه سوريا، حيث علق الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية على ذلك بقوله: "لا يعتبر الآن الوقت المناسب حتى يجير النظام كارثة طبيعية لمصلحته"، بيد أن ذلك ما تفعله دمشق بالضبط، إلى جانب حلفائها الروس والإيرانيين، ولذلك لا يجوز أن تخلي الولايات المتحدة الساحة لهم بكل بساطة.
قبل الزلزال، بدت قبضة الأسد على المناطق الخاضعة لسيطرته لا تطاق، بعد انهيار الاقتصاد، وانقطاع الكهرباء طوال النهار، ومضاعفة إيران لسعر وارداتها النفطية إلى سوريا، ومطالبتها لسوريا بالدفع مقدماً. أما اليوم، فيبدو الأسد كمن قرر الاستفادة بشكل مباشر من المساعدات الإنسانية المخصصة للسوريين. فقد كشفت تحقيقات عديدة بأن مسؤولي النظام، وبعضهم خاضعون للعقوبات، يسرقون تلك المساعدات. كما أن حكومة النظام تقوم بسرقة الأموال عبر التلاعب بسعر الصرف، ثم إن الأسد وضع نفسه في موقف جعل منه الحل للشرور التي خلقها بنفسه، وذلك عبر تقديم تنازلات ضئيلة تتمثل بالسماح للمساعدات بدخول شمال غربي سوريا حيث يسيطر الثوار من خلال أكثر من معبر حدودي ولمدة ثلاثة أشهر، وذلك بعدما عرقلت روسيا عدة قرارات أممية سعت لتوسيع عملية تسليم المساعدات لشمال غربي سوريا، ولهذا يتوقع الأسد اليوم أن يكافأ على ذلك.
في عام 1990، عندما أقام جورج بوش تحالفاً ضد صدام حسين بهدف تحرير الكويت، كان يأمل بمشاركة عربية، فهبت سوريا لذلك. وهكذا حدثت المبادلة غير المعلنة وغير المكتوبة عندما طالب حافظ الأسد بسيطرة كاملة على الجارة لبنان، التي عاشت حرباً أهلية لمدة 15 عاماً لعبت سوريا فيها دوراً أساسياً فاعلاً. وهكذا، وبعد تحرير الكويت، أعلن بوش عن قيام نظام عالمي جديد، حيث انتزعت الولايات المتحدة مزيدا من التنازلات من قبل دمشق مثل المساعدة على تحرير الرهائن الأميركيين الذين ظلوا محتجزين في لبنان، فبدت الصفقة وقتها طيبة، بيد أن الشعب اللبناني هو من دفع الثمن عندما عاش تحت حكم الاحتلال السوري لمدة 15 عاماً، ترسخ خلالها الفساد والطائفية وأحكم حزب الله قبضته على المنطقة. إلا أن كل ذلك بدأ ينهار اليوم بطريقة لافتة.
كانت الإمارات والأردن من بين الدول التي ارتأت بأن عزل الأسد لمدة 12 عاماً لم يفض إلى أي نتيجة، ولم تخطئا في ذلك، ولكن بعد مقتل أكثر من نصف مليون إنسان، وتشريد الملايين وهروبهم خارج البلاد، ووجود الآلاف من المفقودين في زنازين الأسد، لا مجال للعودة إلى الحال الذي كانت الأمور تسير وفقاً له، لأن الثمن الذي يجب أن يدفعه الأسد لا بد وأن يكون باهظاً ومؤكداً كما يجب ألا يقدر على التراجع عن أي تنازل يقدمه، ثم علينا ألا ننسى السوريين وألا نقدمهم كقرابين مقابل تسويات تتم على عجل لأن المنطقة والغرب سئما من تعنت الأسد وعناده.
المصدر: Financial Times