من المؤكد تماماً لأي مراقبٍ اليوم، أن العالم لم يتقاعس عن ردع إبادة مئات آلاف السوريين وحسب، بل قبِل بتلك الإبادة ومرّرها وكأنها حدث اعتيادي، عبر التلاعب بتوصيفها منذ فترة مبكّرة كأن دعاها حرباً أهلية مثلاً، وأكثر من ذلك وما يثير الاشمئزاز، خصوصاً في السنة الأخيرة، أن عدداً من قادة العالم، ومعظم قادة الدول العربية اليوم، يقبَلون باستمرار بقاء نظام الأسد يحكمُ سوريا ويحكم ضحاياه من السوريين، بل ويجالسونهُ أيضاً! مع ذلك ورغم فجاجة الحالة، شخصياً أرى الأمر مفهوماً ولا يتعدى الحدود الطبيعية لسلوكيات تلك الأنظمة.
بالنسبة للقادة العرب، لا يجب نجاح أي تجربة إسقاط نظام عربي بواسطة الشعب، وإن حصل وسقط، فلا بد من إفشال التجربة الوليدة بدلاً من مساعدة الشعب المنتصر. تونس ومصر وليبيا واليمن أمثلة واضحة. إذا كانت الأدبيات السياسية والصحفية قد اعتبرت "فاكس الإبادة" رمزاً لفشل المجتمع الدولي في منع القتل الجماعي، فمن المؤكد أنه يجب اعتبار "صور قيصر" رمزاً لتواطؤ الفاعلين الدوليين وقبولهم الصريح بالإبادة الجماعية.
دولياً، غالباً ما بدت منظمة الأمم المتحدة للكثيرين، جثّة غير فاعلة. جثة تطالعنا على الشاشات لتخبرنا كم ما زالت البشاعة تعشّش في (كوكبنا الجميل). فنرى مندوبي الدول يجتمعون تحت سقف واحد، بطريقة متواطئة وعديمة الأخلاق، دون أن يملّوا من الكذب المتبادل. قبل أن تصبح مندوبةً للولايات المتحدة في مجلس الأمن، ستنشر الديبلوماسية الأميركية سامانثا باور في مجلة أتلانتيك خريف عام 2001 مادة لافتةً، تتحدث فيها عن الفشل الدولي في رواندا. تحت عنوان المتفرجون على الإبادة الجماعية كتبت: "إن أي فشل في تقدير وقوع الإبادة الجماعية في رواندا، ينبع بشكل كامل من نقاط الضعف السياسية والأخلاقية وفقر الخيال، وليس بسبب نقاط الضعف في المعلومات".
في مقابلة أجريت معها عام 2013، وصفت برودينس بوشنيل السفيرة الأميركية للشؤون الإفريقية في وزارة الخارجية خلال المجزرة، السياسة الأميركية حيال رواندا بأنها مجرد "انشغال شكلي بمهام تفتقر إلى أي تأثير، حتى نتمكن من القول إننا كنا نفعل شيئاً ما"، وتتابع شارحة كيف تجري الأمور في هكذا حالات "إذا كنت لا تريد فعل شيء، فعليك أن تجعل الجميع مشغولين بلا شيء. وأن تُبقي القِدر يغلي على النار، لكن ليس عليك اتخاذ أي قرار. هذا تماماً ما كنا نفعله في رواندا". بوشنيل كانت مولجة في كل الاتصالات الأميركية، كما كانت توجد أحياناً في رواندا أثناء المجزرة.
وأنا أقرأ تلك المحادثة الكاريكاتورية مع هذا المجرم، بكل ما تُكثِّفه كلماته من فجور الكذب، لم يخطر ببالي أي شيء أكثر من المقابلات التي أجراها بشار الأسد مع الصحافة العالمية، خلال أعوام ارتكاب نظامه للإبادة الجماعية في سوريا
من طرائف ما تذكره الديبلوماسية الأميركية في دفتر ملاحظاتها خلال الإبادة، كتابتها لانطباعاتها عن محادثة أجرتها مع "بيزيمونغو" رئيس أركان الحكومة الرواندية الضالع في الإبادة "عندما طالبتُه بالتدخل لوقف المجازر، أجابني: سيدة بوشنيل، أنت لا تفهمين، هناك حرب أهلية تدور هنا، وليس لدينا القوات اللازمة لوقف الانتفاضة العفوية للشعب. عدتُ وقلت له: حسناً، على الأقل أوقفوا راديو الكراهية. فرد بقوله: سيدتي، لا نستطيع، فنحن بلد ديمقراطي، ونؤمن بحرية الصحافة. إلى هذا الحد كانت محادثتنا سخيفة وغريبة". وأنا أقرأ تلك المحادثة الكاريكاتورية مع هذا المجرم، بكل ما تُكثِّفه كلماته من فجور الكذب، لم يخطر ببالي أي شيء أكثر من المقابلات التي أجراها بشار الأسد مع الصحافة العالمية، خلال أعوام ارتكاب نظامه للإبادة الجماعية في سوريا.
ضمن مادة كتبها في مجلة نيويوركر تايمز عام 1998، قابل كاتب المادة فيليب جوريفيتش عضو مجلس الشيوخ البلجيكي آلان ديستيكس، الذي أفاد بأنه لا يعتقد إطلاقاً أن "الأمم المتحدة قد تلقت في أي وقت مضى، في السنوات التي تلت عام 1945، فاكساً أو برقية تعلن عن إبادة". يتابع وهو يشير حانقاً إلى نص رسالة الجنرال دالير: "أنظر إلى تلك الكلمة (إبادة) بحق التوتسي.. لاحظ هنا (قتل ألف من التوتسي في عشرين دقيقة). يجب أن تكون ساخطاً عندما تقرأ ذلك، ولن يخطر ببالك سوى الهولوكوست. أنا حقا لا أفهم كيف كان الرئيس كلينتون يُمضي تلك الأيام في تبرئة نفسه بمواجهة تهمة التحرش (قضية مونيكا لوينسكي)، ويقوم بجمع الأموال من أجل الدفاع عن نفسه، بينما نحن نتحدث هنا عن مقتل مليون شخص في الوقت ذاته! والأدهى من كل ذلك وما يفتقد لأيِّ حسٍّ سليم، أن الأمم المتحدة تطلب من دالير إبلاغ رئيس رواندا عن جرائم رئيس رواندا! يجب أن يخضع الجميع للمساءلة".
كنت أود لو أتيح لي أن أعرف رأي السيناتور ديستيكس، الذي ترأس لسنوات منظمة أطباء بلا حدود، وعايش عياناً الكثير من الأزمات الإنسانية الدولية. كنت أرغب لو أعرف رأيه بما جرى في سوريا. طبعاً أنا أجهل رأي الرجل، ولا أشكك إطلاقاً بنزاهته، وقد حاولت البحث، لكني فعلاً لم أعثر على أي شيء. من باب الفضول كان لي أن أطرح على هذا الرجل الساخط بسبب أن الأمم المتحدة لم تأخذ على محمل الجد، ما ورد في فاكس دالير الشهير من "توقعات"، بضعة أسئلة.
كيف يرى موقف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي من صور قيصر الحقيقية؟ أو من مقاطع مصورة لأطفالٍ من ضحايا غاز السارين في غوطة دمشق، وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة؟ كيف يقيّم موقف الدول الكبرى من عشرات الآلاف ممن غرقوا في مياه البحر، وهم يهربون بأنفسهم وأطفالهم من آلة إجرام الأسد؟ وأخيراً والأهم، كنت سأسأله عن رأيه بإدارة قادة المجتمع الدولي ظهورهم لتلك الإبادة الجماعية المُعلنة والمبثوثة على الشاشات، منذ أكثر من اثني عشر عاماً في سوريا؟
لو عاش ليمكين أكثر لرأى الإبادة الجماعية (الهولوكوست) تتكرر مرات ومرات، في كمبوديا ويوغوسلافيا وفي رواندا وأخيراً في سوريا
بالعودة إلى الناجي البولوني من الهولوكوست "رافائيل ليمكين" وهدفه من عمله السياسي، حيث أمِل منه "تقصير المسافة بين القلب والعمل". فقد خيّب العالم آمال الرجل الذي كتب اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية عام 1948. لو عاش ليمكين أكثر لرأى الإبادة الجماعية (الهولوكوست) تتكرر مرات ومرات، في كمبوديا ويوغوسلافيا وفي رواندا وأخيراً في سوريا. ولم يحدث للأسف في أي مكان من العالم، أن وقفَ المجتمع الدولي باصطفاف أخلاقي لمنع أية إبادة كما تقتضي الاتفاقية، فالقلب (الأخلاق) والسياسة لم يتوافقا يوماً، وما زالتا حتى يومنا، في حالة من الفصام التام. إلى أن تكون هناك آليّة أممية محكَمة ونافذة لمنع أية حالة إبادة جماعية، يبدو أننا نحتاج إلى الكثير من الانتظار، والأسوأ أن البشرية ستحتاج إلى دفع المزيد من الأثمان والدماء، قبل أن تصحو من سباتها العميق في مستنقع انعدام القلب والأخلاق الذي تغرق فيه.