يوم هتف السوريون بعد شهور من انطلاق ثورتهم "يا الله، ما لنا غيرك يا الله"، شخصياً اعتبرتهُ شعاراً زجّت به واحدة من القوى الإسلامية في الشارع، بكل ما ينطوي عليه من العدمية السياسية التي لا تقدم شيئاً لتطوّر التحرك السوري تلك الأيام، نحو أهدافه. اليوم، رغم أني ما زلت لا أوافق على تلك العدمية، إلا أنني بتُّ أفهم الأمر بطريقة مغايرة. أرجّح أنه شعار جاء من ضمير الناس المخذولين، ممن يئسوا من عدالة الأرض، ومنْ أن المجتمع الدولي يمكن أن يقدّم طوق نجاةٍ من نوعٍ ما، لشعب يواجه الإبادة، أو حتى أية مساعدة لأناس يعايشون الموت بكل صنوفه كل يوم، ما جعلهم يؤمنون أنه لم يبقَ أمامهم سوى اللجوء إلى السماء. السماء التي ليس من المعتاد أن تهرع دائماً وبشكل فوري للإنقاذ.
بعد ثلاث سنوات من بدء "الجينوسايد السوري"، ومع ظهور صور "قيصر" إلى العلن، ستصف وزارة الخارجية الأميركية ما ارتكبته "آلة الموت" الخاصة بنظام الأسد بأنها "أسوأ حالات الإبادة الجماعية المنظمة والممنهجة، المرتكبة من قبل حكومة ضد شعبها منذ الفترة النازية". بينما كانت إدارة كلينتون قد استخدمت تعبير الإبادة في رواندا في وقت أبكر نسبياً. تُقدّم وثيقة تحمل الرقم 6، تتضمن مداولات جرت، في الأسابيع الأولى من المجزرة، بين ضباط البنتاغون المولجين بشأن رواندا، تحذيرات شديدة من استخدام مصطلح الإبادة، لما سيرتّبه ذلك من موقف على الولايات المتحدة اتخاذه "لنكن حذرين. قسم الشؤون القانونية في وزارة الخارجية قلقٌ بشأن أن اكتشاف معرفتنا بالإبادة الجماعية قد يلزم حكومة الولايات المتحدة بفعل شيء ما". إن لم يكن هذا ما يمكن أن يُوصف بالفضيحة، فأي فعل آخر يستحق هذا الوصف؟
مع استمرار المذبحة وعدم وجود رد قوي من جانب الولايات المتحدة أو غيرها، حثّتْ جماعات حقوق الإنسان، وأعضاء من الكونغرس إدارة كلينتون على مواجهة أو "التشويش" على البث الإذاعي المتطرّف في رواندا
حقيقة الأمر أن الولايات المتحدة رفضت تقديم أي شيء يساعد على وقف الإبادة أو التخفيف منها، حتى لو كانت تلك المساعدة عن بعد، ولا تنطوي على أية مخاطر. مع استمرار المذبحة وعدم وجود رد قوي من جانب الولايات المتحدة أو غيرها، حثّتْ جماعات حقوق الإنسان، وأعضاء من الكونغرس إدارة كلينتون على مواجهة أو "التشويش" على البث الإذاعي المتطرّف في رواندا. كانت البرامج الإذاعية تدعو للمشاركة في القتل، وتُشهِّر بمن لم يشارك في الإبادة.
في كثير من الحالات "قامت الإذاعات بتسمية وتقديم أماكن وجود أشخاص (صراصير التوتسي) ممن يجب قتلهم". على هذا النحو، كان البث الإذاعي مساعداً على تحقيق مخطط الإبادة. في واحدة من الوثائق السرّية يعترف فرانك ويزنر، المسؤول الثالث في البنتاغون، بالمناقشات الداخلية حول جدوى مكافحة راديو الكراهية، فيردّ على نائب مستشار الأمن القومي توني ليك، بأن القيام بمبادرة التشويش على الراديو ستكون "غير فعالة ومكلفة، والنشاط الأكثر حكمة هو المساعدة في جهود الإغاثة".
استخدم الإعلام الدولي بما فيه الأميركي، مصطلح الإبادة الجماعية منذ الأيام الأولى للمجازر. هكذا، ومع انتشار الأخبار بشكل واسع، وتحت الضغط، سمحت وزارة الخارجية لموظفيها باستخدام التعبير في تصريحاتهم اعتباراً من 21 من أيار/مايو 1994. في حين لم يستخدمه الوزير وارن كريستوفر إلا في العاشر من حزيران/يونيو! في تلك الفترة أصدر مجلس الأمن قراراً يقضي بالموافقة على إرسال 5500 جندي إلى رواندا. طبعاً لم تصل تلك القوات إلى مواقعها قبل أيلول/سبتمبر أي بعد شهرين من سيطرة الجبهة الوطنية الرواندية "التوتسي" على البلاد وانتهاء المجزرة.
بمواجهة تأخر الأمم المتحدة بالتدخل، ولأنها تشعر بالقلق إزاء صورتها، باعتبارها الراعي السابق ومورد الأسلحة لنظام هابياريمانا الديكتاتوري، أعلنت فرنسا في الخامس عشر من حزيران/يونيو أنها ستتدخل لوقف القتل. في 22 حزيران/ يونيو، حصلت على موافقة مجلس الأمن. في اليوم نفسه دخلت القوات الفرنسية رواندا لتنفيذ مهمة ستُدعى "العملية الفيروزية". للغرابة، اقتصرت العملية الفرنسية على إنشاء "منطقة إنسانية" في الركن الجنوبي الغربي من البلاد. نجح هذا التدخل في إنقاذ حياة عشرات الآلاف من التوتسي. لكن فيما بعد، أفادت تقارير ميدانية موثوقة، أن الوجود الفرنسي سهّل الخروج الآمن للآلاف من الجنود ورجال الميليشيات الهوتو الضالعين بالإبادة الجماعية، الذين كانوا حلفاء للفرنسيين.
في واحدة من مقابلاته الإعلامية، يتحدث الجنرال دالير عن الانفصال المطلق للمجتمع الدولي عن محنة الروانديين "لنكن صريحين، من الذي كان يهتم برواندا بحق الجحيم؟ عدد القتلى والجرحى والنازحين خلال ثلاثة أشهر ونصف الشهر في رواندا، كان أكبر من عدد الذين قُتلوا وجرحوا وتشردوا خلال الحملة اليوغوسلافية بأكملها. تلك الحملة التي أرسلنا لأجلها أكثر من ستين ألف جندي. إن العالم الغربي بأكمله موجود في يوغوسلافيا وينفق المليارات. لكن من الذي سيحزن على مواطني رواندا؟ هناك المئات من الروانديين الذين أعرفهم شخصياً، وجدُتهم مذبوحين مع كامل عائلاتهم. هناك قرى تم محوها بالكامل. قوّاتنا وفّرت للعالم معرفة تلك المعلومات التفصيلية يومياً، ومع ذلك ظل المجتمع الدولي يراقبنا".
لم يرسل دالير السوري "قيصر" فاكساً ملتبساً، إنما حمل معه عشرات آلاف الصور، التي أثبت الاختصاصيون صدقيّتها. صورٌ لجثث أكثر من عشرة آلاف قتيل ماتوا تحت التعذيب في ثلاثة مراكز احتجاز فقط
عَوْدٌ على بدء. في معرض تبرير تقاعسهم، تحجّج المسؤولون الأمميون أن رسالة الجنرال دالير "فاكس الإبادة" لم تكن مبنيةً على حقائق دامغة تدعوهم للتحرك، وأكثر من ذلك اعتقد كثيرون أنها ربما كانت تتضمن بعض التضليل من المخبر جان بيير. ولكن ماذا عن سوريا؟ لم يرسل دالير السوري "قيصر" فاكساً ملتبساً، إنما حمل معه عشرات آلاف الصور، التي أثبت الاختصاصيون صدقيّتها. صورٌ لجثث أكثر من عشرة آلاف قتيل ماتوا تحت التعذيب في ثلاثة مراكز احتجاز فقط، من بين عشرات وربما مئات المراكز.
حملَ الرجل صورهُ ورماها في وجه جميع قادة العالم، ليخبرهم أن إبادة جماعية حدثت، وما زالت تحدث في سوريا منذ سنوات. عُرضت الصور في مقر الأمم المتحدة، وفي الكونغرس الأميركي وفي متحف الهولوكوست في واشنطن، وفي عدد من البلدان الأوروبية. ولم يحدث أي شيء، سوى إرسال مزيد من مواد الإغاثة لمخيمات الهاربين من الموت. كل ما فعله قادة الدول الكبرى كان أنهم أرادوا القول (فقط القول): انظروا، نحن نفعل شيئاً ما من أجل مساعدة السوريين. لكنهم في حقيقة الأمر لم يفعلوا أي شيء على الإطلاق لوقف المذبحة.