icon
التغطية الحية

"عَرَار" شاعر الأردن الأول ونصير المهمّشين و(النّوَر)

2022.03.03 | 13:08 دمشق

rarthth.jpeg
عرار (إنترنت)
أحمد عبد الحميد
+A
حجم الخط
-A

"من (مصطفى وهبي التل) إلى شيخ النَوَر: أنا مصطفى وهبي التل الكاتب العدل في محكمة بداية إربد، استنادًا إلى الصلاحيات المخوّلة لي، أذنت لكم أن تسرحوا وتمرحوا وتشطحوا إلى أي مكان تشاؤون وفي أي زمان تشاؤون".

كان هذا نصّ قرار كاتب العدل في "محكمة بداية إربد" بالأردن، موجّه إلى النَوَر تعاطفًا معهم، بعد مضايقات رجال الدرك الأردنيين لهم وملاحقتهم بهدف إبعادهم نحو أماكن نائية.

في الثالثة عشرة من عمره سافر مصطفى التل إلى دمشق، وتحديدًا للدراسة في مدرسة عنبر، ولكن بسنواتٍ دراسيةٍ وصفت بالعبث والمجون والفوضى والتمرد إلى حين عودته للأردن وتسلّمه المناصب العليا، ومناصرته للفقراء والبسطاء والنَوَر الذين حمل همّهم وتمرّد معهم، ووجد في خرابيشهم بمضارب وادي الشتا ووادي السير قرب عمّان ووادي اليابس في الشمال قرب عجلون مدينته الفاضلة.

والنوَر في الأردن، على غرار بقية النور المنتشرين في الأقطار المجاورة، يعيشون في خيام متناثرة ملونة تسمى (الخرابيش) يغطونها بأكياس نايلون أو القنّب، وعملهم محصور في التسول وفتح البخت والوشم والرقص وصناعة الخواتم المعدنية ومقصات شعر الغنم.

أما ليلهم، فهو مجلس سمرٍ وشربٍ وعزف رباب وضرب طبول ونفخ ناي، وهو ما عشقه مصطفى وهبي التل الملقب "عرار"، شاعر الأردن الأول، الساعي نحو البساطة والعدالة الاجتماعية:

"بين الخرابيش لا كذبٌ ولا ملق

ولا وشاة ولا رواد أخبار

بين الخرابيش لا حبر ولا ورق

ولا يراع ولا تدوين أسفار

ولا سفاسف كتبٍ أذهبت عمري

قراءةٌ بين توريد وإصدار!"

وعن تسميته "عراراً" يذكر "يعقوب العودات" المؤرخ الأردني أنه "ذات يوم سألتُ عرار ونحن جلوس في مقهى حمدان بعمان: لم اخترت (عرارًا) توقيعًا لقصائدك ومقالاتك؟ فجذبني إلى مكتب الوجيه الأردني الكبير السيد إسماعيل البلبيسي المناوح عهد ذاك للمقهى، وأشار إلى لوحةٍ أنيقة في صدر المكتب، وبخطٍ جميل كتب فيها هذا البيت:

تمتّع من شميم عرار نجدٍ          فما بعد العشية من عرار

لم يكن اهتمام "عرار" بالمجتمع النَوَري مألوفًا لدى أدب العرب أو أدب الشرق، واستغرب كثيرون  منه ذلك، خاصة أنه السياسي والشاعر الذي ذاع صيته ووصل لأعلى مراتب الدولة، وعاشر علية القوم في زمانه، ومن ضمنهم ملك الأردن "عبد الله الأول بن الحسين".

وعزا كثيرٌ اهتمامه بمجتمع النَوَر أنه عايش مجتمعاً مهمّشاً تذوب فيه الفوارق والألقاب، وذلك قريب من شخصيته، وقد تجلى ذلك في رسائله لصديقه "الهبر" زعيم النَوَر الذي نادمه وذكره في كثير من القصائد الخالدة، مستخدمًا اسمه كرمز للبساطة والمظلومية، وهروبًا من التصريح، مع الإشارة إلى أنه لم يرث بشعره سوى "الشريف الحسين بن علي"، وابن عمه الشاب "فؤاد علي نيازي التل"، و"الهبر" صاحبه الوفي.

وقلّما تجد أردنيّاً لا يحفظ قصيدة عرار في دفاعه عن الهبر، عندما ذهب الأخير لمقابلة المدعي العام في إربد بغرض مراجعته في قضية تخص نَوَريًا، فصدّه الجندي عن الدخول لأنه نَوَري، عاد الهبر المسكين مكسورَ الخاطر إلى عرار يشكو ما وقع، فتألم عرار  ونظم من فوره قصيدة سمّاها (العبودية الكبرى) توجّه بها إلى المدّعي العام وانتشرت في ذلك الوقت انتشارًا واسعًا في الأردنّ وأحرجَ المدّعي العام:

"يا مدّعي عام اللواء 

وخيرَ من فهم القضية

ليس الزعامةُ شرطُها

 لبسَ فراء البقدلية

 فيفوزُ عمرو دون

 بكر، بالمقابلة السنية 

 الهبر جاءك للسلام 

فكيف تمنعُه التحية؟

الآن كِسوته ممزقة وهيئته زرية

قد صده جُنديُّك الفظ الغليظ بلا روية

 وأبى عليه أن يراك فجاء ممتعظاً إليّه

دع المراسم والرسوم لمن عقولهم شوية

 فالهبر مثلي ثم مثلك (أردني التابعية)".

عادى عرار رجال الدولة الأردنية رغم الصداقة القوية التي جمعته بأمير الأردن عبد الله الأول بن الحسين، الذي كان يغمره بالعطايا والهدايا لدرجة أن الخديوي عباس حلمي الثاني عندما زار الأردن 1930، عهد للأمير ساعة يد ثمينة، وبعد أيام خلعها على عرار لشدة حبه له، إلا أن ذلك لم يمنع الأمير من سجنه وعزله عن عدة مناصب عليا في الدولة وصولًا للنفي والإقامة الجبرية، بسبب طول لسانه وتمرده، إضافة إلى منعه من إصدار جريدة سياسية باسم (الأنباء)، والتي حملت شعار: "إن للباطل اضطرابًا على الحق، وعقباه أن يكون زهوقا"، باستثناء عددها الأول في الـ29 من نيسان 1928 الذي صودر مباشرة بسبب سباق السلطة وإصدارها "قانون المطبوعات" الذي أباح مصادرة العدد الأول والإجهاز عليه قبل أن يرى النُور، ثم في العام 1928 أبرمت المعاهدة الأردنية البريطانية وفيها اعترف المسؤولون بحقّ بريطانيا في إقامة جيوشها بالأردن واعترفت بريطانيا باستقلال الأردن، فصعق عرار لذلك الاستقلال وكفر به، فكتب:

"يا (هبر) لا (بشرى) ولا (حواره)

يطربها عزفك بالقيثاره

يا (هبر) حسب الأمة الحماره

حكومة براجة بصاره

يا ( هبر) استقلالنا الكرتوني

أخرجني كما ترى عن ديني

فدرت بين الناس كالمجنون

 أسألهم عنه فما دلوني

إلا على (قعوار) و(الخماره)".

ونتيجة هذه الأبيات أبعده الأمير عبد الله إلى العقبة جنوب الأردن مدة سنة، بموجب قانون النفي والإبعاد، بعد اعتباره رأس الحركات المعارضة للاتفاقية، واتهامه أيضًا بتحريض أهالي عجلون على الإضراب احتجاجًا على المعاهدة، وتحريض التلاميذ على المظاهرات، وكلما حاول الأمير كمّ فمه بوظيفة مغرية اتخذ من الوظيفة وسيلة لشتم رجالات الدولة وعاد لسابق عهده.

عرار ورباعيات الخيّام

عكف عرار منذ طفولته على رباعيات الخيّام بالفارسية والعربية، وقد ساعده في ذلك معرفته بقواعد الفارسية، فتأثر بفلسفة الخيّام في الجنة والنار والعقاب والثواب، وتمثّله وتمثّل آرائه بالشراب والأصدقاء والوجود، ووجد في ميول الخيّام شبعًا لميول مكبوتة في شعره، فأرسل شعره على كتفيه تأسيًا بالخيّام وراح يعاقر الخمر، ثم ترجم رباعياته نثرًا ونشرها في عام 1925 فصولًا في مجلة "مينرفا البيروتية" لصاحبتها الأديبة السيدة "ماري يني عطا الله"، ثم ما لبثت أن تحولت ترجماته لموضوع سجال بينه وبين الكاتب اللبناني أمين نخلة، لأن ترجمة الأخير 11 رباعية لم تنل إعجاب عرار، ليصحّحها عبر ترجمته بعضها.

منذ تلك اللحظة، بدأ اهتمام عرار  يتضاعف بالشاعر الفارسي، فنشر أكثر من مختارات مترجمة له، حتى اكتشف المقرّبون مخطوطاً لعرار يضمّ 155 رباعية من ترجماته، ورغم عدم إلمامه الكافي باللغة الأصل، إلا أنه يُحسب له ذلك الاهتمام ضمن الترجمات العربيات المبكرة للرباعيات، وأنها كانت عن الفارسية (مع الاستعانة بالتركية) ولم تكن عن لغات وسيطة كما فعل وديع البستاني وعيسى إسكندر معلوف وغيرهم.

ويذكر  الباحث يعقوب العودات صاحب لقب (البدوي الملثّم) في كتابه (عرار: شاعر الأردن) الصادر عن دار القلم ببيروت عام 1958، بأن "بداية تعلّق عرار بالخيّام كانت عندما عثر عرار على نسخة من (رباعيات الخيّام) من تعريب المرحوم (وديع البستاني) في حانوت تاجر بإربد يدعى (محمد ذو الغنى)، كان صاحبه ذا صوت رخيم، ومغرماً بالأدب، فاختلطت على رفوف حانوته السكاكر والمعلبات ببعض الكتب ودواوين الشّعر.. مثل تغريبة بني هلال، وألف ليلة وليلة، ونسخة رباعيات الخيّام التي استعارها مصطفى من التاجر، وانزوى بها عن الأعين ليقرأ ويتأمّل.. ويتشرب من فكر الخيّام ومن أشعار أيقظت فيه حسّه الرهيف، وموهبته الدفينة، ووضعته أمام الخيّام وجهاً لوجه، فسوّلت له نفسه ما سوّلت..".

جمع عرار شعره في ديوان اسمه "عشيات وادي يابس" ونُشر الديوان بعد موته بـ 4 سنوات، وصدرت بعد ذلك أكثر من نسخة احتوت على أبيات كثيرة لم ترد في النسخة الأولى، ومنها هجاؤه للحُكم ومعارضات شعرية كثيرة بينه وبين الأمير الأردني عبد الله الأول بن الحسين.

لم يُغنَّ من شعر عرار إلا مقطوعات غناها الفنان الأردني "عمر عبد اللات" بعنوان "دحنون ديرتنا" وبإشراف وزارة الثقافة الأردنية، والأغنية مقتطفات مختارة من أشعار عرار حيث صوّرت في منزله الذي يعد مزاراً يومياً لجميع فئات المجتمع الأردني، بعد تولي وزارة الثقافة عام 1994 مهام إدارة البيت كدارة ثقافية عامة يؤمّها الزوار والسياح والطلاب، وتقام في أروقتها الفعاليات الثقافية والفنية والأمسيّات الشعرية.