بعد تجارب ومخاضات كثيرة مرت بها قوى الثورة والمعارضة السورية خلال عقد ونيف (13 سنة) كان من المنتظر أن تثمر عن مؤسسات سياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية، في مقابل عجزها الذاتي عن إسقاط النظام، الذي عضدته ظروف موضوعية، يبدو أنها- المعارضة- على العكس من ذلك قد انتهت إلى تفتت وتشرذم وانعدام ثقة ويأس، ولو بحثنا في أسباب الحالة البائسة التي وصلت إليها المعارضة السورية لعزونا ذلك إلى خمسة أسباب رئيسية:
أولا - غياب الاستراتيجية
وهو ما يعني عدم وجود مبادئ كبرى ثابتة، وعدم وجود سياسات مرحلية وتفصيلية متحولة ومتغيرة توظف لإنجاز المبادئ الكبرى، وهذه السياسات تحتاج لإنجازها إلى مشاريع عمل مرحلية أو سنوية.
كما تحتاج تاليا وبالضرورة إلى أجهزة تنفيذية غير بيروقراطية تشرف عليها مجموعات مراقبة غير قابلة للفساد وتحلق فوق الجميع، ويتطلب وجود صحافة حرة مستقلة تماما تراقب الجميع وتكشف عن الأخطاء.. هذه الأخطاء التي تقف عليها هيئة مهمتها إصدار قرارات أو توصيات بخصوصها وبخصوص المخطئين.
ارتكاب أخطاء استراتيجية
ربما كان أهمها رفع السقف عاليا بالمطالبة بإسقاط النظام الأسدي من دون إدراك أنه مدماك مهم في النظام الإقليمي (توءم إسرائيل وبعض الأنظمة العربية في تعاقد أبدي) وأن كل القوى الاستعمارية شرقية وغربية تدعمه ولاسيما القوى العميقة منها (المخابرات الدولية والمنظمات العابرة للقارات) وبالتالي فإن الدعوة لإسقاط نظام بشار يثير حفيظة هذه القوى العالمية التي سارعت لدعم نظام الأسد بطرق مختلفة، كان أخطرها اختراق الثورة بصفة صديق واللعب داخل ملعب الثورة بتوجيهها إلى المهالك أو بالتحكم العسكري (غرفتي الموك والموم).
ثانياً- الثورة لأسباب فئوية
طغيان العامل الديني والمذهبي في توجهات جزء ممن خرجوا في الثورة ضد النظام، فهؤلاء خرجوا من منطلق ثأري طائفي أو مذهبي، وبعضهم خرج ضد النظام من منطلق مناطقي أو عرقي أو طبقي وليس من أجل بناء دولة العدالة، وهؤلاء ذهب معظمهم إلى الالتحاق بتنظيمات جهادية رفعت شعار تأسيس دولة دينية مذهبية.. أو تنظيم عنصري يرفع شعار تأسيس دولة قومية..
كانت الرغبة بهدم الدولة السورية وتدمير أجهزتها وكل ما يمت إليها بصلة رغبة جامحة عند قطاع واسع من الشعب المقهور المتألم الممنوع من التعبير طوال عقود، ومردّ ذلك ارتباط هذه الدولة في أذهان كثيرين من السوريين بعائلة الأسد.. والحقيقة أن الثورات الشعبية التي تأتي على شكل انفجار اجتماعي، مهمتها الأولى تدمير الهيكل، لكن الثورة السورية بقيت تعيش هذه الحالة حتى اللحظة، لسبب بسيط وهو أن الهيكل لم يدمر، وإن كان أُفرغ من مضمونه وقوته.
ثالثاً- التبعية شبه الكاملة للحاضن
خلال ما يقرب من ثلاث عشرة سنة من عمر الثورة والانتفاضة الاجتماعية السورية الواسعة النطاق مازالت النخبة الثورية المعارضة تشعر باليتم، لذا فهي تبحث عفويا وتلقائيا عن حاضن ما لها، من دولة أو جهة عربية أو إقليمية أو دولية
في المرحلة الأولى من الثورة كان لهذا البحث ما يبرره، لكن بعد التجربة المتراكمة وعنوانها الخذلان والاستغلال والتحريك من جهة الحاضن، وعنوانها من قبل النخبة التبعية شبه العمياء والتامة للحاضن.. وجب الانفكاك عن جميع هؤلاء الذين ما إن شعروا بغياب أي برنامج وسعي وإخلاص حقيقي عند النخب السياسية المعارضة حتى استولوا عليها بالكامل جسدا وروحا، فصارت تلك الكيانات أقرب ما تكون إلى استطالة دودية للدول الحاضنة.
وللأسف فإنه حتى هذه اللحظة هناك أسماء معارضة كبيرة مازالت تسير وفقا لرأي أو تعليمات السفراء أو مسؤولي وزارات الخارجية من الأوروبيين والعرب وسواهم..
رابعاً- الاختراق وعدم الحرص (بعض الظن من حسن الفطن)
غياب أي نوع من الثقة والأمان عدا عن غياب جهاز أمن يتحرّى عن علاقات أعضاء القيادات المعارضة، وقد يقول قائل قد سئمنا وكفرنا بأجهزة الأمن، وهو كلام حق من ناحية أن مدلول كلمة أمن وفقا لتجربة السوريين صار مدلولا طافحا باللاأمن أو نافيا له عدا عن كون مدلول الكلمة صار أقرب إلى الإرهاب المنظم من قبل عصابة استولت على حياة السوريين باسم الدولة والأمن، لكن من ناحية أخرى فهذا القول "سئمنا من الأمن وأجهزته" ليس سوى حجة معطلة طالما سمعناها، وهي تعرض أي عمل سياسي لخطر الاختراق، فأي عمل لا تتوفر فيه أبسط قواعد الأمان لن يكون قابلا للنجاح، وكل مؤسسة معارضة ثورية لا تضم جهازا أمنيا ولو كان عدد أفراده بعدد أصابع اليد الواحدة، فمصيرها الاختراق والفشل.
وإلا فلماذا فشلت تجارب الكيانات السياسية المعارضة طوال ثلاثة عشر عاما؟ والجواب ببساطة لأن اثني عشر جهاز مخابرات عالمياً أولها المخابرات الأسدية - بحسب معارض سوري شهير- يتدخلون في تأسيسها وعملها وإفشالها.
خامساً- غياب العقل الإداري
هذا الغياب الذي منع إنجاز أي عمل حقيقي منذ ثلاثة عشر عاما، فغياب الإدارة يعني غياب الرؤية والبرنامج ما يعني امتناع تنفيذ الأهداف والمطالب المتفق عليها ضمنيا بين معظم المعارضين، فلم توضع خطط عامة لطريقة بناء معارضة قوية، أو خطط عامة أو تفصيلية لكيفية إسقاط النظام، أو خطط في مختلف مستويات المواجهة السياسية والإعلامية والدبلوماسية.. إلخ.
وجميعنا يعلم أن ترشيد عمل المعارضة السورية باتت ضرورة ملحة لتحقيق أهداف وآمال الشعب السوري، وهو أمر لا يتحقق إلا بعكس حال المعارضة وإنهاء حالة العجز الذاتي، ولذا فمطلوب من قوى المعارضة والثورة وضع استراتيجية عامة والالتزام بها ومحاولة الاعتماد على قواها الذاتية وعلى الشعب السوري فحسب، وصولا إلى استقلالها السياسي والعملياتي، وكذلك يجب على المعارضة السورية اتباع القواعد العلمية في إدارة مؤسساتها وعلاقاتها البينية إضافة لاتباع الأسس المتعارف عليها في أمن المعلومات، وهو ما يضمن حسن سير شؤونها ويجنبها فشل مبادراتها ومشاريعها ويخرجها من حالتي الترهل والاستنقاع المزمنتين..