قبل عشرة أيام من إعلان شرارة الانتفاضة الإسلامية لمدينة حماة جرى فيها لقاء أخير بين عدنان عقلة، مسؤول جماعة «الطليعة المقاتلة.. » بحلب وبين أميرها عمر جواد. وقبل أن يشرعا بالحديث بادر أبو بكر إلى القول لضيفه القادم سراً عبر الحدود: «انتهى كل شيء يا أبو عمار. تنظيمنا انتهى كله، الآن هو على الأرض تماماً».
في ذلك الوقت من كانون الثاني 1982 كانت أوصال التنظيم قد تقطعت تحت وطأة مداهمات القواعد واعتقال المراسلين. كانت بقايا المقاتلين لا تعلم بما يحدث مع من أصبحوا خارج البلاد، وبالعكس. في الداخل نفسه كان مركز الثقل الحلبي قد تهاوى، وكذلك فروع اللاذقية وحمص، فيما انقطع الاتصال بفرع دمشق. هكذا وجد القائد الخامس للتنظيم نفسه يشرح الحال المتهالك لزائره في قاعدة مكشوفة لم يكن هناك بديل عنها، بعد أن اعتقلت المخابرات أعداداً من الذين يعرفون كل المقار. وتلت ذلك ضربة فارقة باعتقال مجموعة الضباط الذين كانت «الطليعة» تعوّل على التعاون معهم للتحرك وحسم الصراع. وقبل يومين جرى القبض على شقيقة جواد نفسه من ضمن الجناح النسائي للتنظيم.
بالنسبة للقائد الأخير كانت المأساة القادمة واضحة، كما عبّر عنها في رسالة وداعية لقيادة الخارج. فقد اتخذت سلطة حافظ الأسد قرارها بتدمير حماة، وأوكلت أمر التنفيذ إلى شقيقه رفعت، ضمن «مخطط إجرامي» ضد المدينة يستند إلى تاريخ من الحقد عليها. ولم يكن بيده، ولا أمام جنوده المترقبين في قواعدهم الخطرة، إلا رفع السلاح في وجه ذلك ولو بشكل انتحاري، كيلا يُقتَلوا مجاناً وهم يشاهدون تحول مدينتهم إلى «متنزه للنصيريين».
بعد أيام قليلة من المعركة أصابت عمر جواد قذيفة ستودي بحياته من دون أن يشهد النتيجة التي نعرفها جميعاً الآن. وخلافاً لهواجسه النابعة من صراع الهويات لم تصبح مدينته متنزهاً لأحد، بل أصبحت معرضاً للرعب.
تُظهر الصور القليلة للمهندس عمر فارس جواد شاباً في نحو الثلاثين، بشاربين عريضين وبلا لحية، وهي حال من سبقوه إلى قيادة التنظيم؛ عبد الستار الزعيم ثم هشام جنباز ثم تميم الشققي، بعد المؤسس مروان حديد الذي حاز لقب الشيخ بسلوكه ومظهره رغم أنه درس الهندسة الزراعية. كما يلاحَظ انتماء الخمسة إلى مدينة حماة، وتحديداً إلى طبقة وسطى تقيم في أحياء متقاربة من شطرها التقليدي المعروف شعبياً باسم «الحاضر». ومن هذه المعطيات يمكن أن ندخل إلى تحليل هذا التنظيم الذي يحتل موقعاً انتقالياً، أو منزلة بين المنزلتين، في سياق تحول الحركة الإسلامية المعاصرة في السبعينات من دعوية إخوانية إلى راديكالية مقاتلة قبل السلفية الجهادية.
قبل أن يؤسس «الطليعة» كان حديد قد تصدّر تمردين محدودين لكنهما سيتركان أثراً إستراتيجياً في تاريخ البلاد. جرى الأول عام 1964 وعُرف باسم «أحداث جامع السلطان» الذي تحصّن فيه المحتجون. وقد وقع إثر شجار بين طالبي ثانوية كتب أحدهما، البعثي، على سبّورة الصف عبارة استفزت زميلاً إخوانياً له فنشب النزاع وتطور إلى حمل السلاح ومحاصرة الجامع بالدبابات ووقوع قتلى. وعندما حُكِم على مروان حديد وبعض أنصاره بالإعدام تدخل الشيخ محمد الحامد، مرجع حماة الديني بلا منازع وقتئذٍ، لدى الرئيس أمين الحافظ للإفراج عن المجموعة التي كانت تعبّر عن المدينة المساندة لأبنائها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المسافة التي ستبرز لاحقاً بين الإخوان المسلمين و«الطليعة المقاتلة» ستكون في أضعف حالاتها في حماة، كما هي المسافة بين الإخوان الحمويين والبيئة المتدينة التي أعطت مدينتهم سمعتها المحافظة.
أما التمرد الثاني فكان في سنة 1973، عندما أعلن حديد، من على منبره الخاص، الجهاد ضد حكم حافظ الأسد «العلوي» والدستور اللاديني الذي طرحه للاستفتاء. ووقتئذ تولى شيخ حموي آخر قريب منه، هو سعيد حوى، جمع تواقيع علماء السنّة في أرجاء البلاد ضد الدستور الذي لا يشترط الإسلام ديناً لرئيس الدولة، وخرجت احتجاجات في حماة وغيرها من المدن الرئيسية في ما عُرف باسم «أحداث الدستور».
من العداء للبعث إلى التحذير من حكم العلوية حرّض حديد انتفاضاً، مسلحاً حتماً، ضد النظام الذي استولى على السلطة في آذار 1963، وجمع «التقدمية» الاشتراكية والعلمانية الحادة ونفوذ الأقليات الإسلامية الريفية في وجه المدينة العربية السنّية «الرجعية» ويدها الإقطاعية.
وبهذا المعنى لا تمكن قراءة «الطليعة» بالنظر إلى موقعها من تاريخ الحركات الإسلامية فقط، بل أيضاً باعتبار البعد الجغرافي الذي ربما يقول إن حركة كهذه لن تكون إلا في حماة انطلاقاً من الطبيعة المسلحة شبه البدوية لسكانها الأكثر تقليدية حينئذ، وريفها المضطهَد المختلط طائفياً المكون من مرابعين وملّاك صغار أرسلوا أبناءهم للتطوع في الجيش، حيث تلقفتهم الدعوة التبشيرية الفلاحية لأكرم الحوراني، داعياً لا يكلّ للإصلاح الزراعي وراعياً للانقلابات العسكرية ومؤسساً رديفاً لحزب البعث.
ورغم أن «الطليعة» توسعت في حلب بشكل جلي، وأسست فرعاً متيناً في دمشق، وامتدت إلى إدلب واللاذقية وحمص ودرعا ودير الزور؛ فإنها خاضت معركتها الأخيرة على أرضها. أعلن الإخوان في الخارج النفير العام لكن دون جدوى، ووجّهت «طليعة» دمشق سيارة مفخخة صغيرة إلى مبنى وزارة الإعلام من دون أن تغيّر في الأمر، وظهرت في حلب دعوة إلى الإضراب العام بلا فائدة، في حين اكتفى الباقون بالحوقلة.
بعد أيام قليلة من المعركة أصابت عمر جواد قذيفة ستودي بحياته من دون أن يشهد النتيجة التي نعرفها جميعاً الآن. وخلافاً لهواجسه النابعة من صراع الهويات لم تصبح مدينته متنزهاً لأحد، بل أصبحت معرضاً للرعب.