انتقلنا بداية عام 1988 من فرع فلسطين إلى سجن صيدنايا المفتتح حديثاً (لم نكن حينها نعلم أنه افتتح). السؤال الأهم الذي راودنا في الطريق: هل نحن ذاهبون إلى سجن المزّة، أم إلى تدمر؟ كان الخوف يعترينا فيما لو كان مصيرنا في جحيم تدمر. وكانت المفاجأة أننا وصلنا إلى سجن جديد، عرفه أحد الرفاق ممن كانوا يعلمون بإنشائه وطمأننا. كنا حوالي عشرة معتقلين، فوضعونا في أحد مهاجع جناحٍ صامت لا يقطنه أحد غيرنا. عندما حان موعد النوم، قررنا أن ننام جميعاً في إحدى الزوايا (تسييف) على طريقة النوم في الفرع، رغم أن مساحة المهجع حوالي 40 متراً. علّلنا ذلك بسبب البرد، ولم ينتبه أحد منّا إلى أنها كانت حالة قطيعٍ سوريٍّ يشعر بالخوف.
قبل ذلك بثلاث سنوات تقريباً، وكنت في الخدمة العسكرية الإلزامية، طلبت من (أمرتُ) عسكرياً مجنداً، وكنت ضابطاً، أن يكتب "نعم" على ورقة الاستفتاء لرئاسة حافظ الأسد! كان صديقي فرج بيرقدار قد سجن قبل ذلك بسنوات، أثناء تأدية الخدمة العسكرية بسبب وضع "لا" في غرفة الانتخابات السرية (نعم، عليكم أن تصدقوا أن الانتخابات في الجيش السوري تتم في غرفٍ سريّة). روى لي بالتفصيل آلية ترقيم أوراق الاستفتاء بالحبر السريّ. شعرت أثناء ذاك الاستفتاء أنه يتم بالطريقة التي شرحها صديقي تماماً، ففعلت ما فعلت.
كنت من خلال بعض التلميحات المتبادلة، اكتشفت أن العسكري الكردي، وهو من عفرين، معارض بطريقةٍ ما للنظام، وعلى الأرجح أنه اكتشف ذلك عنّي. خلال لحظات، شعرت أنه يمكن أن يضع "لا" في حالة من الطمأنينة أنه في غرفة سريّة، دون أن يدري عن الفخ الذي سيقع فيه. دون أن ألفت النظر، ذهبت إليه بهدوء، وهو يصطف في دوره للتصويت، وطلبت منه همساً، أن يضع "نعم"، وبينما كان ينظر إلي مستغرباً، تابعت بأن قلت له "إياك، سيكشفونك لو وضعت اللا" ووعدته أن أشرح له فيما بعد، فنجا ونجوت معه. في تفسير حالتي، فأنا لم أكن سورياً خائفاً من الاعتقال وحسب، بل كنت سورياً خائفاً ينقلُ الخوف إلى سوري آخر.
"السوريّ كائن خائف". من واقع تجربته خلال أكثر من نصف قرن، اكتسب كامل خاصيّات الإنسان الخائف. في أدنى حالاته دائم القلق، بينما هو كائن مذعور في حالاته القصوى
على غرار ما أجاب الفلاسفة والمفكرون في واحد من تعريفاتهم للإنسان، حين عرَّفوه بأنه حيوان عاقل، أو أنه كائن مفكِّر وأحياناً ناطق أو ضاحك. بالقياس، لو خصصنا على الإنسان السوري تحديداً فيمكن أن نقول بأن "السوريّ كائن خائف". من واقع تجربته خلال أكثر من نصف قرن، اكتسب كامل خاصيّات الإنسان الخائف. في أدنى حالاته دائم القلق، بينما هو كائن مذعور في حالاته القصوى. شخصياً حتى الآن، وأنا أكتب لن أدّعي بأني ناجٍ من الخوف السوري عند الكتابة، رغم مغادرتي سوريا قبل أكثر من عقد. حدث أن اطّلعت في فترات سابقة من حياتي، على بعضٍ من أرشيف المجلات والصحف السورية، ما قبل البعث وخصوصاً ما قبل انقلاب حافظ الأسد، كان للكتابة المتحررة من الخوف روح أخرى مختلفة، غير هذه التي نكتبها اليوم.
في تعريف الخوف، يقال إنه شعور سيئ يستدعي سلوكيات محددة، ردوداً عدوانية على مصدر الخوف، أو هروباً منه. وهو بحسب كل التحليلات حالة مؤقته يستدعيها خطر ما، ولو تحوّل إلى حالة دائمة لدى إنسان ما، فسيصبح مرضيّاً، هو الرُهاب (الفوبيا). وغالباً يناقَش الخوف وتأثيراته على حالات فردية أو جماعية مؤقتة. ولكن للمفارقة، ففي سوريا تربت عدة أجيال على حالة من الخوف الدائم والمُستدام! تقريباً من كامل المحيط. الشارع، والمدرسة، والعمل وغيرها، جميعها أماكن تستدعي التحسّب والخوف.
يعتقد العديدون أن الأصل هو الخوف من الموت. أما في سوريا، فإن النظام وظّف الخوف كواحد من أساسيات السلطة لإرهاب المواطنين، فتكوَّن "القطيع الخائف"، كأهم مُنجز لسلطة الأسد. من تجربة السجن، وهي حالة خاصة عادةً ولا يمكن تعميمها، فالمعتقل يخاف من التحقيق مترقباً في كل لحظة أن يُستدعى ليعيش جولة جديدة من التعذيب. يخاف من المحطة القادمة، فيما لو تم نقله من مكانٍ إلى آخر، بل ويخاف حتى لحظة الإفراج عنه، ويسأل نفسه هل سيتراجعون عن قرار الإفراج؟ حالة السجن الخاصة تلك يمكن تعميمها، مع بعض التخفيف، على حالة السوريين جميعاً، الذين يشعرون بأنهم مهددون في كل لحظة.
بحكم استمرار حالة الخوف، فإنه يصبح عنصراً أساسياً في تشكُّل البنية النفسية للسوري، حتى لو غادر إلى بلاد أخرى، ليس فيها كل تلك التهديدات المحتملة. بعد سنوات ما زال هناك سوريون يتحدثون عن خوفهم من عناصر البوليس في البلدان الأوروبية. البعض يخاف حتى من صوت إغلاق باب سيارة بقوةٍ، فيما لو جاءه الصوت من الخلف، بسبب ذاكرة خاصّة، تكتنز حالات الخطف من الطريق، بواسطة سيارات الأمن التي تجوب شوارع سوريا. على غرابته، لكن الأمر سيبدو مفهوماً، لأناس كانوا في بلدهم يخافون حتى من الحيطان، باعتبار أنها تمتلك آذاناً ستسمع وتنقل ما يتحدثون به.
إن الخوف من مصادر التهديد، الذي جعل السوريين يفرّون من وطنهم، سيبقى ساكناً في دواخلهم ملازماً لهم، حتى لو عاشوا في أفضل مجتمعات الأمان، بل وسينتقل شيء منه إلى الجيل التالي
يفلت السوري بتركه وطنه، من إسار مسببات ومحفِّزات الخوف الواقعية، لكن خوفه المزمن قد سكن في آليات تفكيره وبنيته النفسية، وأصبح أحد أهم محدداتها. الخوف من عدم إمكانية تأمين رغيف الغد. الخوف من نظرات الغرباء، وليس الخشية الطبيعية المفهومة. إن الخوف من مصادر التهديد، الذي جعل السوريين يفرّون من وطنهم، سيبقى ساكناً في دواخلهم ملازماً لهم، حتى لو عاشوا في أفضل مجتمعات الأمان، بل وسينتقل شيء منه إلى الجيل التالي.
جيل أبناء المُهجّرين، لن يكون بمنأى عن عقابيل حالتنا السورية، رغم المجتمع المحيط، مدارس مختلفة وشوارع مختلفة، وعناصر أمنٍ مختلفون كلّياً، فهو تربى في بيت مذعور، على يدِ أبوين مذعورين، يخشون أن الكثير من الضحك قد يجلب شرّاً ما لحياتهم. عام 1987، وبدافع استعراضِهِ لقدراتهم الاستثنائية، ذكَّرني المحقق في فرع فلسطين، وكان قلبي ينبض سريعاً كأحد تجلّيات الخوف، بأنني وضعت "لا" على ورقة الاستفتاء، عندما كنت طالباً في الجامعة قبل عشر سنوات. أراني صوراً شخصية لي في كل مراحل حياتي ما بعد المراهقة. صورٌ كنت قدّمتها لدوائر الدولة أو المدارس والجامعة، وأنا لا أملك نسخاً عنها، بل ونسيت حتى متى ألتقِطت. هكذا، قضينا أعمارنا خائفين، ولا عجب إن كنّا سنربي أبناءنا على مُخلَّفات الخوف. كيف لا؟ ونحن لا نمتلك سوى تلك الروح السوريّة المعطوبة والخائفة.