إيشا رجل آشوري سوري يصعب فرز خيوط المأساة عن خيوط الملهاة في حياته. لجأ إلى السويد أواسط تسعينيات القرن الماضي، وبعد قرابة ثلاث سنوات رفضت السويد منحه اللجوء، لأن سوريا حينها في عرف السويد بلد آمن، وهكذا حجزوا له ولزوجته وأولاده تذاكر سفر، مع مرافقة ضابطين من الشرطة السويدية على نفس الرحلة.
سار كل شيء على ما يرام، وكان الضابطان في غاية السعادة وهما يريان ما حدث في مطار دمشق من ترحاب واحتفاء أجهزة الأمن السورية بعودة ابن بلدهم إيشا.
حرارة الاستقبال كانت أوضح وأجلى من أن تخطئها عيون الضابطين السويديين، وهكذا عادا أدراجهما وهما في غاية الاطمئنان إلى أنهما أنجزا مهمتهما على أكمل وجه.
أمَّا إيشا فقد انتهى به المطاف إلى جناحنا في سجن صيدنايا العسكري.
يقول إيشا إنه بعد كثير من ترجي عناصر المخابرات سمحوا له أن يقول لزوجته: خذي الأولاد واذهبي إلى أهلك في لبنان ريثما أعود إليكم في القريب العاجل.
***
لم يكن القريب العاجل غير أحد مهاجعنا، الذي استقبله على الرحب والسعة معنوياً، إذ لا رحابة ولا سعة مادية ومكانية في سجون طاغية سوريا "المحبوب" حسبما تقول جميع وسائل إعلامه.
عينا إيشا تشعان ذكاء، وسلوكه يقطر لطفاً ودفئاً ومحبة. كنا نستمتع بغنائه وسرعة بداهته في اقتناص النكتة والمفارقة، وبأحاديثه المتدفقة عن السويد مع افتراضنا أنها مبالغات وغرائب وتهيّؤات.
حديثه عن ولادة ابنته الثالثة في السويد لم يكن قابلاً للتصديق. يقول إن سيارة جاءت من المستشفى إلى البيت ونقلت زوجته، ثم أسهب في مبالغاته عن اهتمام الأطباء والممرضات، وعنايتهم بالأم كما لو أنهم أهلها، وسعادتهم الغامرة بولادة الطفلة، وبعد يومين أعادوها بسيارة من المشفى إلى البيت، بدون أن يكلفوهم قرشاً واحداً، لا بل إن البلدية أرسلت لهم تهنئة وبعض الهدايا للوليدة.
أمّا وقد انتهى بي المطاف إلى السويد، فقد اكتشفت أن الرجل كان يسرد الأمور بأمانة عالية.
حين أتذكّر إيشا، أهجس لنفسي أن لا شيء يمكن أن يعوّضه عن معاناته سوى عودته إلى السويد. ومن يدري، فربما هو في السويد من سنوات بعيدة، فقد نقلت له زوجته في إحدى الزيارات أن أحداً من السفارة السويدية في بيروت أبلغها اعتذار السويد عما حلّ بإيشا، وأن السويد ترحب بها وبالأولاد، وحين يخرج إيشا من السجن يمكنه الالتحاق بهم، ولكن زوجة إيشا قررت البقاء في لبنان إلى أن يخرج زوجها ويقررا معاً ماذا سيفعلان.
***
أنا وإيشا سمن على عسل أو زيت على زيتون كما يقال. لا أتذكر أننا اختلفنا في أمر أو على أمر سوى مرة واحدة، حين جاءني أحد الأصدقاء ليقول لي: أتذكّر أنك أشرتَ في أحد أحاديثك إلى أن اللغات العربية والآرامية والآشورية والعبرية والسريانية بنات خالات، أو ربما أخوات من نفس الأم، ولكن حين نقلتُ هذه المعلومة لإيشا قال إن الآشورية لغة مستقلة لا علاقة لها بالعربية لا من قريب ولا من بعيد.
ذهبت وصديقي إلى إيشا، فاستقبلنا بترحاب مليء بالانحناءات التمثيلية التي يتعمد إيشا المبالَغ بها، وحين سألَنا إن كنا نفضل الشاي أم القهوة، قلت: بالنسبة لي فإني أفضِّل أن تملي عليّ إحدى أغانيك الآشورية.
قال ممازحاً: أخشى أن يكون صاحبنا قد نقل لك عن لساني كلاماً مزوراً.
قلت: لا عليك، ففي هذه الجلسة ستنجلي الأمور.
قال: كما تريد. خذ هذه الأغنية مثلاً "يا ظالم دورا كْما ظلملُخ آلّي".
قلت: سأشرح لك المعنى بالاعتماد على لغتي العربية وبعض ما أعرفه من العبرية التي درستها في الجامعة، فإذا نجحت في شرحها فهل ستعترف على رؤوس الأشهاد بأن العربية والآشورية فرعان لنفس الجذع أو الجذر؟.
وافق إيشا، فبدأتُ بالشرح:
يقول الشطر الأول "يا ظالم" وهي نفسها بالعربية.
قال: صحيح.
قلت: "يا ظالم دورا" تتعلق بالحديث عن الدورة الزمنية، والقصد هنا "ظالم يا زمان".
قال: لم يخطر في ذهني أبداً هذا الربط الذي قمتَ به، وأراه صحيحاً أيضاً.
قلت: "كْمَا ظْلمْلُخ " يقابلها في العربية "كَم ظلمت"، و "ألّي" رغم لامها المفخمة، وليس في العربية لاماً مفخمة سوى مع لفظة "الله" إن جاءت بعد فتح أو ضمّ، فإن "ألّي" تعني "لي"، وهكذا فإن معنى "يا ظالم دورا كْما ظلملُخ ألّي" يقابله في العربية "أيها الزمن الظالم كم ظلمتني".
قال إيشا: يا شباب.. أنا الآن مقتنع بنسبة تسعة وتسعين في المئة وكسور، أن هناك صلة رحم بين العربية والآشورية، ولا علاقة لهذه النسبة "التسعاتية" لا من قريب ولا من بعيد بتلك النسبة التي يفوز بها سيادة الرئيس في كل استفتاء.