يختلف النظام السوري و"الإدارة الذاتية" في القامشلي فتتداعى حلب والحسكة، وتنتشر فيها الحواجز العسكرية ويضيّق على الحركة ويُطلق الطرفان اتهامات تحمّل كل منهما مسؤولية الخلاف، ثم يخرج ألدار خليل المسؤول بالإدارة والعضو المقرّب من "حزب العمال الكردستاني/PKK"، ليقول صراحة إنهم لا يريدون طرد النظام من مناطق شمال شرقي سوريا، ولو كانوا يريدون ذلك لفعلوه منذ أن سيطروا على المنطقة قبل سنوات.
يشتمّ المُمعن في تصريح ألدار خليل رائحة واضحة لعلاقة متينة بين النظام السوري و"الإدارة الذاتية"، هذه العلاقة التي لابد وأنها نُسجت بعناية وشكلّت خيوطا معقدة يصعب حلّها وتفكيك هذه الشبكة.
بنية "الإدارة الذاتية" و"قسد".. أساس لفهم الارتباط
في كل مرة يصطدم فيها الطرفان تغلي المنطقة التي تجمعهما خاصة بالحسكة والقامشلي وتصبح مركز الأحداث، ويبدأ ترقّب بدء المعارك، وهذا ماجرى في خلافهم الأخير، الذي بدأ باتهام قوات "الفرقة الرابعة" التابعة للنظام السوري بمنع دخول الطحين والمحروقات إلى حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، منذ 13 من آذار الماضي.
ورداً على ذلك، حاصرت "قسد" فرن "البعث" المصدر الرئيسي لتزويد قوات الأسد وأجهزته الأمنية بالخبز، إضافة إلى طرد النظام من عدة مؤسسات، لكن يبدو هذا الخلاف شبيهاً بسابقيه فهو في طريقه إلى الحل، انطلاقاً من تصريحات مسؤولي الإدارة وألدار على رأسهم.
ولعل كثرة تطويق الصدامات ووقفها يدفع بالسائل لفهم طبيعة العلاقة التي تجمع الطرفين وحدود انتهائها ومدى قدرتهما على التخلص من بعض، وإدراك ما يربطهما يجب أولا معرفة مما تتألف "الإدارة الذاتية" وذراعها العسكرية "قسد"، وفق ما يقوله المحلل الاقتصادي، يونس كريم لموقع تلفزيون سوريا، الذي يضيف "علينا بداية أن نعرف كيف يتم إدارة المنظومتين، حتى نستطيع فهم العلاقة بينها وبين النظام".
وتنقسم "قسد" أو "الإدارة الذاتية" عامة إلى 3 تيارات، الأول لـ قائد "قسد" مظلوم عبدي المدعوم من عشيرته إضافة إلى الأميركيين الذين يحمونه من كل ما يمكن أن يعترضه حتى على صعيد الاغتيال.
والتيار الثاني، بحسب كريم، متعلق بـ "PKK" وتمثله إلهام أحمد التي تقف عائقاً أمام مشروع عبدي في التقارب مع النظام السوري، إذ يبدو أنها تحمل أجندة وشروطاً مختلفة عن عبدي، الذي كان حتى منفتحاً على الحوار مع المعارضة السورية في مرحلة من المراحل، وذلك لتقوية رصيده في داخل شمال شرقي سوريا، وحتى يقول للأميركيين إنه منفتح على الحوار، فهو يخشى الانقلاب عليه.
وهنا لابد من الإشارة إلى الشائعات التي انتشرت في تشرين الثاني 2021 والتي تحدثت عن إقالة عبدي من قبل قيادة قنديل وإسناد مهمته إلى قائد "وحدات حماية الشعب" في عفرين محمود رش المعروف بمحمود برخودان والذي يحمل اسما مستعارا هو "الأسود".
التيار الثالث وهذا خاص بأمراء الحرب ويمثل شريحة مهمة من رجال الأعمال في مناطق شمال شرقي سوريا ومنهم "أبو دلو" إضافة إلى تجار ينتمون إلى عشائر المنطقة (عربية وكردية) لا تستطيع "قسد" استعداءهم، ويتسلم هؤلاء ملفاً مهماً عابراً لمناطق الطرفين وهو الحوالات المالية.
بماذا يرتبط الطرفان؟
ماليا:
بحسب كريم، فإن أهم ما يتم تبادله بين "قسد" والنظام ويقع على رأس القائمة هو تجارة الحبوب المخدرة من "الكبتاغون" والحشيش.
وأكد أن "معسكرات تدريب لقسد شمال شرقي سوريا تضم أماكن لزراعة الحشيش كما تضم أيضا مكابس لحبوب الكبتاغون المخدرة".
بالإضافة إلى النفط إذ تعطي "قسد" النظام 10 آلاف برميل من أصل 80 ألفاً تنتجه حقول رميلان، منها 40 ألف برميل تذهب إلى جبال قنديل مركز "PKK" وتهرّب من قرية في منطقة المالكية اسمها طرامشون ويوجد في هذه القرية نفق إلى شمالي العراق وإلى قنديل يتم منه تهريب النفط.
ويؤكد كريم أن النظام يعيد لـ "قسد" 200 برميل من الـ 10 آلاف، لكن يعيدها مكررة في مصافيه، كما يحصل النظام السوري على حصة من نفط "حقل العمر" في دير الزور وتقدر بـ 40 ألف برميل.
ويعد القمح العنصر الآخر الذي يتشابك به الطرفان، ويقول كريم إن "الإدارة الذاتية" تحصل على القمح وتبيع جزأه الأكبر إلى إقليم كردستان العراق كي تحصل على القطع الأجنبي، في حين تسمح للمزارعين العرب في مناطقها ببيع محصول القمح للنظام السوري الذي يوفر لهم البذار كون الإدارة لا توفرها لهم بشكل متواصل.
وفي سياق الارتباط بين الطرفين، يوجد طرف ثالث محسوب على أمراء الحرب يشترون المحاصيل ويخزنونها ثم يبيعونها للنظام و"الإدارة الذاتية" مستفيدين من التنافس بينهما.
ويضاف إلى ما سبق التعاون في إدارة بعض السدود والتبادل السلعي والدوائي، لكنها ليست بأهمية النفط والمخدرات وفق تعبير كريم.
ويشدد المحلل الاقتصادي على صعوبة معرفة حجم التبادل التجاري بين الطرفين شهريا وحتى سنويا، في ظل حالة الفلتان الأمني وانتشار معابر التهريب وأمراء الحرب وعدم إفصاح الطرفين عن ذلك.
وفي هذا السياق، سبق أن كشف مصدر خاص لموقع تلفزيون سوريا، أن النظام السوري يسحب منذ سنوات ملايين الدولارات بشكل شبه يومي من أسواق مدن محافظة الحسكة، معتمدا على شبكة من التجار وصرافي العملة يهيمنون على سوق القامشلي، إذ يقومون بشراء الدولار وضخ العملة السورية للأسواق من فئتي الـ 5000 والـ 2000 ليرة سورية، إذ تتداول أسواق الحسكة والقامشلي أكثر من 100 مليون دولار يومياً بين عمليات صرف وحوالات مالية قادمة من خارج البلاد.
سياسيا وتفاوضيا
شهد عاما 2018 و2019 لقاءات بين إلهام أحمد، ورئيس مكتب الأمن الوطني السوري، اللواء علي مملوك، بعضها كان بشكل مباشر، وأخرى عبر الوسيط الروسي في قاعدة حميميم.
وفي شباط 2020، قالت إلهام أحمد، إن النظام وافق بوساطة روسية على بدء مفاوضات سياسية، مع إمكانية تشكيل "لجنة عليا" مهامها مناقشة قانون "الإدارة المحلية" في سوريا، والهيكلية الإدارية لـ"الإدارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا"، وذلك خلال لقاء سابق أجرته مع صحيفة "الشرق الأوسط".
أمنيا وعسكريا
يشكل النظام وروسيا من خلفه اليوم في شمال شرقي سوريا حجر عثرة أمام أي هجوم لتركيا على مناطق سيطرة "قسد"، وهذه الأخيرة لا تخفي حاجتها للنظام في تلك المناطق مع كل مرة تهدد فيها تركيا بشن عمل عسكري على الحدود مع سوريا.
وسبق لمسؤولي "قسد" أن أطلقوا تصريحات تدعو النظام بما وصفوه بتحمل مسؤولية حماية الحدود في وجه أي تقدم تركي، وهذه نقطة ضعف لـ "قسد" يدركها النظام جيدا ويعمل على استثمارها، وحتى الروس باتوا يهددون "قسد" في كل مرة بالانسحاب من خطوط التماس مع الجيش الوطني السوري وتركيا بعين عيسى وتل تمر، عند حدوث توتر في الحسكة والقامشلي.
وقد وصل الأمر بالنظام مرةً، أن طلب من "قسد" أن تحل نفسها وتنخرط في قوات النظام وذلك في تشرين الأول 2019، بعد دخول قوات النظام إلى مناطق شمال شرقي سوريا باتفاق مع "قسد" على خلفية العملية العسكرية التركية (نبع السلام)، ولعل هذا الطلب يعكس ما يدور في خلد النظام تجاه مستقبل هذا الجسم العسكري الكبير الذي يسيطر على مناطق منابع النفط شرقي البلاد، لكن "قسد" ترفض هذا الطلب وتعتقد أن النظام يبالغ فيه بل إنها تدعو النظام للتخلص من أحلام الماضي في إعادة سوريا إلى ما قبل عام 2011، لكن "الإدارة الذاتية" ووفق بعض التسريبات ستبدي بعض الليونة إن حصلت على بعض الوزارات في حكومة النظام وقد تنخرط قوتها العسكرية معه.
صورتان تعبران عن عمق الارتباط وتوضحان مستقبله
يمكن فهم مشهد العلاقة بين نظام "الإدارة الذاتية" وذراعها العسكرية "قسد" من خلال صورتين جاءتا على شكل تصريحين مهمين قيلا عن عمق هذا الارتباط، ويشكلان وثيقة مهمة عن هذا الموضوع.
الأول على لسان جميل بايق المسؤول الكبير في "PKK" والمهيمن على قرار "الإدارة الذاتية" -وفق ما كشفته عدة تقارير صحفية- فقد قال صراحة إن علاقتهم وثيقة مع النظام السوري ومع عائلة الأسد، تصريح بايق ليس قديما، بل جاء في وقت قريب لصحيفة "النهار" اللبنانية، إذ قال لها نهاية عام 2021، "علاقتنا بحافظ الأسد وعائلته كانت وثيقة ودافئة، ولا يمكننا أن نكون مناهضين لسوريا أو ضد الأسد".
وأكد أنهم لم يقطعوا علاقتهم بالنظام في دمشق قط على زمن بشار، وأنهم لن يقوموا بقطعها أبداً، ولطالما قدّروا "الصداقة" بين عبد الله أوجلان وعائلة الأسد، مشيرا إلى أنه لا يمكن للنظام أن يقول أي شيء سلبي عنهم.
صورة أخرى تكمل مشهد الترابط كشفها، رئيس الوزراء السوري السابق، رياض حجاب، الذي أكد تسليم بشار الأسد عدة مواقع عسكرية لـ "PKK"، بداية الثورة السورية، حجاب قال لتلفزيون سوريا في تصريح سابق، "في عام 2012، بعد مقتل خلية الأزمة، أوعز بشار الأسد لقادة الوحدات العسكرية والأجهزة الأمنية في الجزيرة السورية بإخلاء مواقعهم وتسليم كامل السلاح لحزب PKK، وعندما تحدثنا عن سبب تسليم هذه المواقع العسكرية والسلاح الثقيل لـ PKK، قال بشار الأسد بالحرف الواحد، هؤلاء حلفاؤنا، ونحن بحاجتهم الآن من أجل ضبط الشعب الكردي المشارك في المظاهرات ضد النظام، ومن أجل أن يكون خنجراً في خاصرة تركيا".