icon
التغطية الحية

عشائر دير الزور.. وقود الصراع المتجدد بين أطراف السيطرة في سوريا

2024.09.15 | 13:04 دمشق

5677567
عشائر دير الزور.. وقود الصراع المتجدد بين أطراف السيطرة في سوريا
تلفزيون سوريا - أحمد طلب الناصر
+A
حجم الخط
-A

جاءت التطورات الأخيرة التي تصدّر مشهدها ما يسمى بـ "جيش العشائر" في ريف دير الزور، لتثير مجدداً العديد من التساؤلات حول موقف قبائل وعشائر الشرق السوري من مختلف القوى المسيطرة في مناطقهم، والمتمثلة في النظام السوري والميليشيات الإيرانية من جهة، و"قوات سوريا الديمقراطية/ قسد" المدعومة من قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في الجهة المقابلة.

دوافع وأسباب وأهداف هجمات "العشائر" على مراكز ومقار "قسد" بريف دير الزور الشرقي، باتت شبه معروفة لدى كثير من محلّلي ومتابعي الشأن السوري، وربطها غالبيتهم بالتوتّرات التي تشهدها المنطقة، وخاصة في أعقاب اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، والمنسوب إلى إسرائيل، ومقتل القيادي في "حزب الله" اللبناني فؤاد شكر في غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية ببيروت، كحالة من حالات الردّ الإيراني من خلال استهداف مقار "قسد" بوصفها قواعد للقوات الأميركية، تحت عباءة "جيش العشائر".

قبل الخوض في تلك العوامل وتحديد مدى واقعيتها؛ لا بد من تناول توليفة المكوّن العشائري الحالية في شرقي وشمال شرقي سوريا، والتي تختلف نسبياً عن توليفة بقية المكونات العشائرية في شمال غربي البلاد (ريف حلب)، ووسطها (حماة وحمص)، وجنوبها (حوران).

السمات الحديثة لتركيبة المكون العشائري في شرقي وشمال شرقي سوريا، أفرزها قانون "الإصلاح الزراعي" (1958) الذي أصدره جمال عبد الناصر في سوريا خلال الوحدة مع مصر، والذي قضى بانتزاع ملكية الأراضي الزراعية من أصحابها الأصليين (الإقطاعيين) وتوزيعها على الفلاحين العاملين بها.

ورغم أن القانون شمل جميع الأراضي السورية، إلا أن أثره على العشائر المستقرة بريف الشرق السوري كان أقوى من بقية الأرياف، لما تشتمل عليه محافظات الشرق والجزيرة السورية (دير الزور والحسكة والرقة) من مساحات واسعة من الأراضي الزراعية ضمن مساحة تبلغ نحو ثلث إجمالي مساحة سوريا، وتشكل دير الزور الرقعة الأكبر بين المحافظات الثلاث، بمساحة تقدر بأكثر من 33 ألف كيلومتر مربع.

ومقارنة بعدد سكان ريف المحافظة حينذاك، كانت حصص فريق كبير من (الفلاحين/ أبناء العشائر) من أراضي "الإصلاح الزراعي" تفوق الخيال، وخاصة لدى مشايخ ووجهاء العشائر الذين بقوا محافظين على أراضيهم الزراعية من تقسيمات قانون الإصلاح الزراعي، كونهم أصحابها الأصليين والعاملين فيها هم وأقاربهم من أبناء العشيرة.

شكّلت تلك الأراضي رأس المال الحقيقي والمصدر الاقتصادي الرئيس -والوحيد- لدى مالكيها الجدد، بل وأضحت مع الوقت المعيار القِيَمي "الاجتماعي- السياسي" داخل تركيبة العشيرة؛ مَن يتعدى عليها كمن يتعدى على كرامة ومكانة وسيادة صاحبها، طبقاً لمقولة "الأرض عرض".

وعت الأنظمة والسلطات والقوى المسيطرة تلك الحالة تماماً، منذ جمال عبد الناصر حتى هذا اليوم، فاستغلّت تلك العلاقة "العضوية" بين الأرض وصاحبها، وبقيت حريصة على عدم المساس بكل ما يمت بصلة لتلك الأراضي، بهدف كسب ودّ أصحابها، من وجهاء ومشايخ العشيرة على وجه الخصوص.

يشبّه "صالح" (اسم مستعار) المشهد في منطقته، بحالة "التجار الدمشقيين الذين تحمّلوا مختلف أشكال الأنظمة التي مرت على البلاد، وتماهوا معها، طالما أن تلك الأنظمة بقيت حريصة على عدم استفزازهم والتضييق على أنشطتهم الاقتصادية أو استهداف أسواقهم ومهنهم المتوارثة منذ مئات السنين، مقابل تأمين حماية أمنية غير معلنة ولكنها مدفوعة الأجر (أسلوب المافيات)"، على حدّ وصفه.

ويضيف في حديثه لموقع تلفزيون سوريا: "معظمنا يتذكر جيداً عبارة (الشعب السوري ما بينذلّ) التي أطلقها تجار سوق الحريقة الدمشقي في منتصف شباط 2011، أي قبل شهر من اندلاع الثورة السورية، حين نظّموا احتجاجاً بسبب تجاوز أحد عناصر الشرطة (الخطوط الحمراء) بإهانته تاجراً منهم. ذلك الاحتجاج لم يلبث أن يخمد بعد حضور وزير داخلية النظام حينذاك سمير سمّور، بخلاف بقية التظاهرات والاحتجاجات الشعبية في المناطق الأخرى، والتي كان الحاضر فيها عناصر الجيش والأمن، والرصاص الحي!".

العشائر والثورة السورية

في ظل حكم آل الأسد لسوريا (منذ عام 1970)، مارس النظام أساليب أخرى للاحتفاظ بولاء العشائر له والتحكّم بهم. في مقدمة تلك الأساليب، خلق حالة من الانقسام داخل العشيرة الواحدة من خلال إيجاد ندٍّ أو أكثر لشيخ العشيرة، ينحدرون من عائلة المشيخة نفسها أو إحدى عائلاتها الكبرى، ومن ثم تقريبهم من أجهزته الأمنية وقياداته، ليكونوا بمثابة "فزاعة" وتحذير في حال اتخاذ الشيخ أي موقف يثير ريبة النظام.

استمرت هذه الحال حتى اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011. وبالرغم من وقوف غالبية العشائر وممثليها في دير الزور إلى جانب الثوار ضد النظام، سواء في الحراك السلمي أو بعد تشكّل فصائل الجيش الحر، إلا أن هذه الحالة تماهت أيضاً مع جميع القوى التي سيطرت لاحقاً على المنطقة بعد الجيش الحر؛ بدءاً من "جبهة النصرة" مروراً بتنظيم "الدولة"، ووصولاً إلى "قسد" والقوات الأميركية في طرف "الجزيرة" من ريف دير الزور، والنظام السوري والميليشيات الإيرانية في طرف "الشامية" من ريف المحافظة.

وفي حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، يعلّق الرائد المظلّي المنشّق عن جيش النظام، عمر طراد، على ذلك الواقع فيقول: "تعتبر سيطرة الجيش الحر هي المرحلة الذهبية -إن جاز التعبير- للمدنيين من خلال التماس الحرية والأمن والتنظيم، تلاها فيما بعد السيطرات المختلفة من قوى الأمر الواقع، ما اضطر الأهالي إلى مغادرة منازلهم لسنوات. وبعد التهجير، أجبروا على الرجوع بسبب ضيق العيش وسوء إيجاد فرص العمل، فكانوا مجبرين على البقاء والاستقرار في مناطقهم والعمل في أراضيهم".

إلا أن الحالة السالفة لا تنطبق على عموم أبناء الريف، وإنما تشمل فريقاً من مُلّاك الأراضي والعاملين فيها والمعتمدين في نمط عيشهم على إيراداتها بالدرجة الأولى، بينما نلاحظ أن غالبية أصحاب المهن الأخرى وشريحة المتعلمين والمثقفين من معارضي الريف، المهجّرين، آثروا البقاء خارج مناطق سيطرة النظام، سواء في مناطق النزوح شمالي سوريا أو في بلدان اللجوء خارج البلاد.

و"صالح"، الذي يحمل شهادة جامعية في الهندسة الزراعية، أحد الذين رفضوا العودة إلى بلداتهم وقراهم الواقعة تحت سيطرة النظام، في شرقي وشمال شرقي سوريا، على الرغم من امتلاكه قرابة 80 دونماً زراعياً في إحدى قرى ريف دير الزور الغربي الواقعة تحت سيطرة النظام، كما وأنه أحد كبار وجهاء العشيرة التي ينتمي إليها هناك.

ويعترف صالح في حديثه للموقع، بأنه يعتمد على جزء يسير من مصروفه في مدينة شانلي أورفا جنوبي تركيا التي يقيم فيها منذ قرابة 9 سنوات، على أرضه الزراعية التي يؤجّرها سنوياً لبعض أقاربه -المزارعين- المقيمين هناك. ويكشف: "غالبية، وربما جميع من يقيمون في الجنوب التركي ويمتلكون الأراضي هناك، يعيشون من إيراداتها هنا".     

التحوّلات والانقلاب على سلطة "الأمر الواقع"

لم يكن مستبعَداً حدوث توتّرات واندلاع مواجهات مباشرة بين أبناء عشائر ريف دير الزور و"قسد" المسيطرة عسكرياً على مناطقهم، وخاصة بعد سلسلة الاغتيالات التي طالت مشايخ ورؤساء القبائل والعشائر في مختلف مناطق الريف الشرقي خلال عام 2020، والتي وصلت إلى أوجها في أول يومين من شهر آب في تلك السنة مع اغتيال علي الويس، شيخ عشيرة "البورحمة" إحدى عشائر قبيلة البكارة، ثم اغتيال اثنين من وجهاء قبيلة العكيدات سليمان الكسار ومطشّر الحمود، ومحاولة اغتيال أحد كبار مشايخ القبيلة، الشيخ إبراهيم خليل الهفل.

وبعد 3 سنوات ارتفعت فيها حدّة الاحتقان، جاءت حادثة اعتقال قائد مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل (أبو خولة) من قبل "قسد" (أواخر آب 2023) وما تلاها من حملة أمنية شنتها الأخيرة على قرى وبلدات الريف الشرقي والشمالي لدير الزور، لتشكّل شرارة انفجار الصراع بين الطرفين، العشائر و"قسد". حيث رأت تلك العشائر أن الهدف من عملية اعتقال "أبو خولة" (ابن "البكيّر" إحدى عشائر العكيدات) هو إهانة المكون "العشائري/ العربي" ابن المنطقة، وإضعاف دوره، سياسياً وعسكرياً، تمهيداً لإحكام القبضة عليه.

حينذاك، أعلن الشيخ إبراهيم الهفل تشكيل قيادة عسكرية للعشائر، ليبدأ بعدها مقاتلو العشائر بشن هجمات مكثفة ضد مواقع ومقارّ "قسد"، وتمكنوا في الأيام الأولى من طرد عناصر "قسد" من معظم مدن وقرى ريف دير الزور الشرقي الواقعة شمالي نهر الفرات، لتمتد بعدها الاشتباكات أيضاً إلى أرياف الحسكة والرقة وحلب.

ويرى الرائد "طراد"، القائد السابق لأحد تشكيلات الجيش الحر في ريف الدير الشرقي، والمنحدر من قبيلة العكيدات أيضاً، أن تشكيل إبراهيم الهفل لـ "جيش العشائر"، هو "محاولة لتعبئة الفراغ والاستحواذ على تركة (المجلس العسكري) والحصول على مركز مهم في المنطقة، وصاحَب تلك الأطماع قصفٌ من ميليشيا قسد على المدنيين ما أثار بعض أبناء العشائر على مواجهة قسد، ويحوي قوام ما يسمى بـ جيش العشائر على أعداد خجولة جلها من المقربين من الهفل".

إلا أن المستبعَد والمفاجئ في الأمر، تمثّل في انتقال الشيخ إبراهيم الهفل إلى مناطق سيطرة النظام السوري بعد استعادة "قسد" في 6 أيلول 2023 سيطرتها على بلدة ذيبان، معقل الشيخ، عقب إرسالها تعزيزات عسكرية ضخمة من قوات النخبة وقلب موازين المعركة لمصلحتها.

تجدد الاشتباكات وتحليلات توقيتها

تجددت الاشتباكات بين "قسد" و"جيش العشائر" الذي شكّله الهفل، بعد هجوم واسع شنّه الأخير، مطلع آب الماضي، على مقار "قوات سوريا الديمقراطية" شرقي دير الزور، مسيطراً على عدة مواقع، حيث تبادل الطرفان القصف ما أدى إلى سقوط ضحايا بين المدنيين.

ورداً على هجوم مقاتلي "جيش العشائر" -الذي انطلق من مناطق سيطرة النظام السوري، فرضت "قسد" حظراً للتجول في دير الزور، وحصاراً على مناطق سيطرة النظام في مدينتي الحسكة والقامشلي.

توقيت هجوم "العشائر" الذي جاء بعد أيام قليلة من من ارتفاع وتيرة التصعيد في المنطقة على خلفية عمليتي اغتيال هنية وشكر؛ دفع أكثر المحللين إلى ربط ذلك الهجوم بالردّ الإيراني على حلفاء إسرائيل في سوريا والمنطقة (القوات الأميركية)، من خلال استهداف "قسد" المدعومة من الأخيرة!

ومع مرور الأيام الأولى من الاشتباكات، تبيّن أن هجوم "جيش العشائر" لا يتجاوز إطار سلسلة المناوشات (القديمة- الحديثة) مع "قسد"، بالرغم من محاولة الجانب الإيراني والنظام في سوريا تصدير الفكرة على أنها تأتي ضمن الردود "المزعومة" على القوات الأميركية/ حلفاء إسرائيل. وذلك من خلال سعي إيران ومحورها إلى زعزعة الأوضاع في شمال وشرقي سوريا عبر إثارة النعرات العرقية بين العشائر العربية و"قسد".

أما الهفل، بحسب "طراد"، فيحاول من خلال هجمات جيش العشائر "إيهام الإعلام بأنها ثورة -ضد قسد- من جميع العشائر المدعومة من قبل النظام والميليشيات الإيرانية والمنتشرة في مناطقهما. وأساساً لا يوجد صراع مباشر بين القبائل في مناطق الأخيرين والقبائل في مناطق قسد، وكل ما يجري هناك عبارة عن هجمات كانت تشنها مجموعات مشكلة منذ سنوات في مناطق النظام، تضرب مقار لـ قسد، كمجموعة هاشم السطام (من أهالي منطقة ذيبان)، والذي تولى أيضاً الهجمات الأخيرة".

ويضيف طراد: "ثم أن القوات الأميركية لا تشارك في اشتباكات الطرفين، ومشاركتها تقتصر على الرصد، وتسيير الطيران المسير والحربي إن احتاج الأمر، وتحاول جاهدة عدم الخوض في تلك النزاعات، بسبب اقتصار مهمتها في سوريا على قتال تنظيم داعش من خلال شريك على الأرض متمثل بـ قسد".

إلا أنه لا ينفي مسؤولية الأميركان في تأجيج الصراع بين الطرفين، كما هي الحال لدى النظام والميليشيات الإيرانية، قائلاً إن "التحالف بالإضافة إلى الجانب العسكري؛ اعتمد على قسد في تسيير الجانب الإداري أيضاً، وعملت الأخيرة بدورها على تهميش المكون العربي والاستحواذ على ثروات المحافظة التي تعتبر شريان اقتصادي مهم لسوريا، ما سبب استياء واسعاً لدى جميع أهالي المنطقة".

ويرى الرائد طراد في ختام حديثه أن الصراع بين الطرفين لن يتوقف، "فمن خلال الاجتماعات التي ضمت أطرافاً من قسد والإيرانيين والنظام السوري برعاية روسية، تلخّصت نتائجها في عدم التوافق، ما يعني أن الهجمات ستبقى مستمرة إلى ما لانهاية"، على حد تعبيره.