في أيلول 2011 قرصن أحد أفراد «الجيش اليمني الإلكتروني» مجموعة كان «العالم السوري» عزيز أسبر قد أنشأها على فيسبوك للدفاع عن النظام. فكتب الأخير منشوراً يستنجد فيه بأصدقائه: «دخل أحد الهاكر الثورجيين إلى مجموعة أديرها وأزال عني صفة الإدارة وسيطر على المجموعة.. برأيكم هل يمكن استعادة إدارة المجموعة أم علينا أن ننسى؟». لتكشف هذه الحادثة حقيقة أكثر من عشرة كتب في علوم الكمبيوتر كانت قد صدرت باسم أسبر وهي مجرد تجميع لجهد مرؤوسيه وطلابه.
ولد عزيز بن علي الأسبر عام 1960، لعائلة علوية من قرية وادي العيون التابعة لمصياف. أظهر تفوقاً فتح أمامه أبواباً مختلفة من الاختصاصات الجامعية، إلا أنه اختار الدراسة في «المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا» القائم في إطار «مركز البحوث والدراسات العلمية». ومن المستبعد أن يختار الشاب الريفي هذه المنشأة العلمية المغمورة في دمشق، لكن الواعدة، دون نصيحة من شخص مطّلع وجّهه واستمر برعايته. في المعهد كان الطالب مُجداً، فوجد طريقه بسهولة للابتعاث إلى فرنسا، حيث كانت علاقات مركز البحوث الوثيقة مع جهات أكاديمية كان من نصيبه منها «مركز أبحاث الطيران» في تولوز، الذي حاز فيه شهادة الدكتوراه عام 1990.
واستحدثت لأسبر هيكلية جديدة أدارها هي القطاع 4، الذي شمل مواقع مركز البحوث في حلب وحماة وحمص
قبل أن يعود من الإيفاد كانت تسميته كرئيس مخبر في فرع حلب للمركز قد صدرت، وهو أمر ليس مألوفاً دون «دعم» سيصاحب طويلاً مسيرة الرجل الطموح. فبعد مدة ترقى إلى رئيس قسم، فمدير فرع حلب ومدير المعهد 4000. حينها شاعت أقاويل بأن القفزة التالية لا بد أن تكون إلى موقع المدير العام، لكن حسابات عليا فضّلت بقاء الدكتور عمرو أرمنازي، كواجهة مقبولة، واستحدثت لأسبر هيكلية جديدة أدارها هي القطاع 4، الذي شمل مواقع مركز البحوث في حلب وحماة وحمص.
في حلب، التي أحبها وأمضى فيها أقل من عشرين عاماً بقليل، أتقن أسبر مهارات الصعود. أن تكون مديراً قوياً بصلاحيات واسعة أمر كافٍ لتدور عجلة العمل بشكل جيد ويُنسَب ما يحققه جيش متزايد من الخبراء والتقنيين والعمال إليك، بينما تتفرغ لدراسة الخطوة التالية وإزاحة الخصوم المحتملين، مع الاستخدام الواعي «للكاركتر» المبني على مزيج من اللهجة المميزة والبذاءة اللفظية وتلميحات حول التشكيك في الولاء، لترهب مهندسين سُنّيين من الطبقة الوسطى سيبتعدون عن طريقك مؤثرين السلامة، دون أن تحتاج إلى إجراءات أشد.
تزوج أسبر في حلب، امرأة من بلدته، وأنجب هناك أولاده الثلاثة. وبنى فيها علاقات احتل فيها المسيحيون موقع الصدارة. فيما كانت خيوط رعايته الخفية/الظاهرة تتوجه نحو العلويين، توظيفاً وتعييناً في المناصب المميزة وإيفاداً إلى الخارج، ولا سيما بعدما أصبح مديراً للقطاع 4، وللمعهد العالي حيث درس، في الوقت نفسه. وخلال مسيرة مجده لم يحرم نفسه من السهرات المبهجة والملابس التي يراها فخمة، ومن صداقة سكرتيرات وموظفات وطالبات.
أنشأ حسابه الأول على فيسبوك، باسم مستعار هو Nader Kossa، انسجاماً مع السرية المفترضة للعاملين في مركز البحوث
بعد أيام من رفع الحجب عن بعض مواقع التواصل الاجتماعي أنشأ حسابه الأول على فيسبوك، باسم مستعار هو Nader Kossa، انسجاماً مع السرية المفترضة للعاملين في مركز البحوث، الممنوعين بالأصل من إنشاء حسابات على هذه المواقع.
قامت الثورة قبل أن يتسلى الدكتور بشكل كاف. فبادر إلى المشاركة في المعركة على فيسبوك بشكل حثيث، عبر هذا الحساب أولاً، حتى قادته الخصومات الكثيرة إلى الوقوع في دائرة التبليغات لتأكيد حسابه بدعوى أنه زائف، ففعل ذلك باستخدام وثائقه الشخصية النظامية، ليتحول الحساب إلى اسمه الواضح، وينتقل إلى آخر جديد أنشأه باسم نادر كوسا نفسه! سيرافقه حتى مقتله، قبل أن تغلقه العائلة مؤخراً بعدما اجتذب وجوده ومنشوراته عدداً كبيراً من الشاتمين والشامتين في التعليقات.
يقدم حسابا أسبر مادة غير معتادة لرصد طريقة تفكير أحد «العقول المبدعة» التي يعتمد عليها النظام، كما قيل بعد مقتله مطلع هذا الشهر في عملية شاعت نسبتها إلى الموساد رغم إعلان «سرية أبو عمارة» مسؤوليتها عنها. والحق أن الموساد لم يكن ليحتاج إلا لامرأة فضولية لاكتشاف أن أسبر هو صاحب الحساب «السرّي» الثاني، طالما هو يتبادل التاغات مع ابنته بوصفها كذلك وباسمها الصريح، ناهيك عن أقارب آخرين وعاملين في المركز يصفونه «بالمعلم»، وعدم تفويته وضع لايك على صورة أي من الموظفات الصبايا، وذلك بعد مدة تبادل فيها حساباه اللايكات، قبل أن يهمل الأول بشكل كامل. قائمة أصدقاء الحسابين مفتوحة، وكذلك المنشورات. ومن تتبعهما يمكن رسم صورة لشخصيته لن تختلف عما قاله من عرفوه في المركز والمعهد.
يقدم أسبر نفسه «كمتنوّر» أو لا ديني، وثقافياً ينقل عن أدونيس وفرج فودة. غير أن علمانيته الشرسة تتوجه إلى الإسلام السنّي حصراً
يقدم أسبر نفسه «كمتنوّر» أو لا ديني، وثقافياً ينقل عن أدونيس وفرج فودة. غير أن علمانيته الشرسة تتوجه إلى الإسلام السنّي حصراً، بعبارات حادة من نوع أن «أحفاد أبي سفيان وهند الكبدية» يهدفون إلى تدمير «حضارات الشعوب الأصيلة باسم الدين»، لأن عقد النقص تولد مع «أعراب البعير» بالأصل، ولذلك يريدون تدمير سورية «أرض الشمس» والتاريخ والحضارة. فافتعلوا فيها ما يسمى الثورة، القائمة على «جرابيع الحرية» من «الكرارة» و«المنكوحين» الذين يناكفهم بصور تظهر رضوان زيادة منزلقاً في السيفون، ومي سكاف بثديين ضخمين بعد ما عُرف «ببيان الحليب» لإغاثة أطفال درعا، وصبية تلتحف العلم الأحمر وترفع إصبعها الوسطى في وجه من راهنوا على سيطرتهم على حلب.
لا يفرّق أسبر بين معارضي النظام. فلا كرامة عنده «لهيئة التنهيق» في دمشق، أو لهيثم مناع وتياره «قمح» (قيم – مواطنة – حقوق)، مقترحاً له جملة بديلة هي «قرد حايص بباريس»، مع اختصارها المشين. يرى أن الأكراد يعملون «برعاية إسرائيلية». غير أنه يعتبر أن القيادة الفعلية للثورة بيد الإخوان المسلمين، ما دامت قد خرجت من «مواخير العبادة» و«أوكار الفتنة»، كما يصف الجوامع التي يدعو إلى هدمها و«قص أذناب القائمين عليها ومرتاديها». ونكاية بهذه الجماعة يحوّر شعارها الشهير «الله أكبر ولله الحمد» إلى هاشتاغ يكرره بصيغة «سورية أكبر وللجيش الحمد»، قبل أن يضيف الحرس الثوري وحزب الله وإيران إلى الشق الثاني.
والواقع أن كراهية العلماني النزق للحى «المقمّلة»، التي لن تتطهر إلا عندما يدعسها البوط العسكري الذي يكثر نشر صوره، ولأصحابها «اللوطيين»؛ تنصرف فقط إلى الممثلين السنّة للإسلام من «جرذان نجد والحجاز» وأتباعهم الذين يريدون أن يعيدوا الزمن إلى «توقيت الكعبة». أما «الإيراني الواعي»، و«سيد المقاومة» في لبنان، و«القادة الشهداء» من أمثال الحاج رضوان (عماد مغنية) ومصطفى بدر الدين؛ فيحتلون من قلب «المبدع» موقع الوله. ولذلك صارت المؤسسات التي تحت إدارته مفتوحة للإيرانيين وحزب الله أكثر مما هي في خدمة جيش النظام الذي لا يبدي مدير القطاع 4 احتراماً كبيراً لقياداته لأنها «مهزومة، مفككة، متناحرة، متنافسة» وإن كان يقدّس عموم مقاتليه. وبدورهم، لن يخيب الأصدقاء ظن أبي نبراس عندما سيؤمّنون لابنه مقعداً لدراسة الهندسة بجامعة شهيد رجائي في طهران.
يمكن النظر إلى من كان رحيله «خسارة بحجم وطن»، كما كتب الكثير من ناعيه ممن لم يسمعوا به قبل مقتله، وفق مستويات متعددة، كما يقدم نفسه وكما يبدو من سلوكه. فدينه «سوري»، وطائفته العصبوية علوية، وطائفته السياسية شيعية، أما دينه المشتهى فالمسيحية التي وجد في «الدفاع الوطني» لمدينة محردة المجاورة تجليها النموذجي الأكمل، فدعمه بكل ما استطاع وصادق قياداته.
وإذا كانت إسرائيل هي من اغتاله فليس لعلمه المزعوم بل لتأثير دوره، بوصفه أحد الأذرع المخلصة للنفوذ الإيراني في منصب يسيطر على مواقع هامة يشملها القطاع 4
أما وصفه «بالعالم» فصادر كذلك عن أشخاص لم يعرفوه عملياً، إذ إن آخر عهده بالعلم كان عندما أنجز الدكتوراه ثم تفرغ لجني مكاسبها. وإذا كانت إسرائيل هي من اغتاله فليس لعلمه المزعوم بل لتأثير دوره، بوصفه أحد الأذرع المخلصة للنفوذ الإيراني في منصب يسيطر على مواقع هامة يشملها القطاع 4 وتنتج أسلحة بأنواع مختلفة؛ من البراميل إلى قذائف المدفعية والهاون والصواريخ متعددة المدى ومضادات الطائرات، وصولاً إلى الكيماوي والسكود.
ومع وجود مدراء المعامل المختصة وانتظام عجلة الإنتاج، يبدو «القديس» أقرب إلى أن يكون مجرماً كبيراً ولكن عادياً، دون هالة الأساطير التي شاعت عنه بعد وفاته. وإذا كان أبرز أنشطة يومه هو قضاء ساعات طويلة ممسكاً الموبايل، فعالاً على مواقع التواصل بالشكل الذي وصفناه، فالطبيعي أن يكون «شبيحة الفيسبوك» من اختصاص «ثوار الفيسبوك»... دون أن يثير ذلك استهجان أحد!