في مثل هذا اليوم (10 حزيران) من عام 2000، مات رئيس النظام السوري السابق حافظ الأسد لتنتقل السلطة من بعده إلى ابنه بشار، رئيس النظام الحالي في سوريا.
وعن تلك المرحلة الحساسة والمصيرية في تاريخ سوريا المعاصر، تروي مذكرات عبد الحليم خدام، الذي كان يشغل منصب "نائب الرئيس"، تفاصيل الساعات الأخيرة من حياة حافظ الأسد وما تلاها من أحداث مهدت لتسلّم ابنه رئاسة النظام وصولاً إلى سفره إلى فرنسا، وإعلان انشقاقه هناك.
الموقع الإلكتروني لمجلة "المجلة" استعرض أمس الجمعة الجزء المتعلّق بتلك المرحلة، بحسب ما ورد في مذكرات عبد الحليم خدام التي حملها معه إلى مكان إقامته الأخير في العاصمة الفرنسية باريس. ونورد فيما يلي النص الحرفي لذلك الجزء بعد تحرير فقراته من قبل "المجلة":
قبل وفاة الرئيس حافظ الأسد بأسبوع كنت على موعد معه، وصباح نهار الموعد، اتصل بي وأبلغني بأنه تعب، وسيلتقي بي بعد بضعة أيام بعد أن يرتاح.
في العادة، كنت أذهب إلى بانياس، على الساحل غرب البلاد، أيام العطل الأسبوعية، فاتصلت بالرئيس صباح الأربعاء في السابع من يونيو/حزيران من العام 2000 لأسأله إذا كان لا يستطيع مقابلتي، فسأذهب إلى بانياس، وجرى الاتصال، وجرى حديث مطوّل على الهاتف عن الصحة لا سيما عندما يتقدم العمر بالإنسان. وقال: "أنت وحدك عرفت كيف تعتني بصحتك. في وقت، جسمي (جسدي) أنا وغيري من رفاقنا "اهتروا" (تآكلوا) من الإهمال وعدم الاهتمام بصحتهم. أنت منذ مرحلة الشباب تمارس الرياضة وتذهب إلى البحر وتصعد إلى بلودان، في ريف دمشق".
فأجبته: "ألا تذكر كم كنت أنصحك من أجل الراحة وضرورة الإجازة بعض الوقت في الأسبوع وفي السنة. نصحك الأطباء بعد تجاوزك الأزمة القلبية بوجوب الراحة وعدم الإكثار من العمل. كنت تمارس مهامك كرئيس جمهورية كما كنت تمارس أعمال رؤساء أجهزة الأمن، لقد وضعت أمور الدولة ومؤسساتها عبئاً عليك، وكان من المفترض أن توزع بعض صلاحياتك الأساسية على نوابك وعلى الحكومة". فقال: "هذا صحيح لقد حملت أعباء أكثر من طاقتي". وتحدثنا عن مرض رئيس الأركان السابق العماد حكمت الشهابي ومعاناته (توفي العام 2013). استمر الحديث أكثر من نصف ساعة، وسألني عن موعد عودتي من بانياس، فأجبته: "سأعود صباح السبت". فقال: "عندما تصل (الى دمشق)، اتصل بي".
أبلغني القصر، أن الدكتور بشار ينتظرني في المنزل، وهنا أدركت أن الرئيس حافظ، قد توفي أو في حالة وفاة
سافرت يومها إلى بانياس، وأمضيت ما تبقى من يوم الأربعاء ويومي الخميس والجمعة، وصباح يوم السبت توجهت إلى دمشق، وعند وصولي إلى المنزل، أخبروني أن "بيت الرئيس" في القصر الرئاسي طلبني، فاعتقدت أن الطلب من أجل لقاء الرئيس، فاتصلت بمقسم (مركز الهاتف) القصر، فأبلغني أن الدكتور بشار ينتظرني في المنزل، وهنا أدركت أن الرئيس حافظ ربما يكون قد توفي أو في حالة وفاة، فغيرت ثيابي وتوجهت إلى منزل الرئيس، ورأيت أمامه سيارات أعضاء القيادة القطرية وجمعا من العسكريين، وعندئذٍ تيقنت من وفاته.
دخلت إلى قاعة الاستقبال فوجدت أعضاء القيادة والدكتور بشار الأسد، واللواء آصف شوكت (مدير المخابرات ونائب رئيس الأركان وصهر الرئيس حافظ الأسد)، وكان النقاش يدور حول إعلان الوفاة وحول الآية القرآنية الكريمة، التي يجب أن توضع في إعلان الوفاة (النعي).
وفي مساء العاشر من يونيو/ حزيران، اجتمعت مع الدكتور بشار الأسد في منزله، وتحدثت عن الوضع وإجراءات الأيام المقبلة.
وفي الثالث عشر من يونيو/حزيران، توجهنا إلى القرداحة ووصلناها مساء، وتم الدفن، وقد حضر التشييع عدد من المسؤولين العرب.
وبعد انتهاء مراسم الدفن وتلقي التعازي عدت إلى منزلي في بانياس الساعة التاسعة مساء، وبعد وصولي تبلغت أن قائدا عربيا يريد لقائي في دمشق. توجهت إلى العاصمة، وبعد وصولي مباشرة توجهت إلى "قصر تشرين" ووجدت الضيف الكبير في انتظاري. تحدثنا عن شخصية الرئيس حافظ الأسد الذي كان يكن له الكثير من المودة، ثم انتقل الضيف إلى الحديث عن الوضع في سوريا، وقال:الآن الناس في حالة حزن وبعد شهر أو شهرين سيزول الحزن وقد يتحركون ضدكم وقد تحركهم بعض الجهات الخارجية، لذلك أتمنى يا "أبو جمال" (خدام) أن تقف بجانب الدكتور بشار وأن تتعاونوا جميعكم معه لمصلحة البلاد، ثم أضاف ان بلاده لا تقبل أن يضرب الاستقرار في سوريا. أكدت له أن لا أحد يستطيع أن يضرب الوحدة والاستقرار في سوريا وأن لا قلق من القوات المسلحة. بعد انتهاء اللقاء ودعت الضيف وعدت إلى منزلي.
عقد المؤتمر القطري التاسع لحزب "البعث" بين 17 و21 يونيو/حزيران 2002، وهو أول مؤتمر ينعقد بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد. قبل المؤتمر ببضعة أيام تناقشت مع الدكتور بشار حول هيكلة القيادة القطرية لحزب "البعث"، وكانت وجهة نظره عدم إجراء تغيير واسع حتى لا يقال إنه أبعد الذين تعاونوا مع والده.
"البعث" بعد "الرفيق"
وفي المؤتمر تقرر تشكيل لجنة برئاسة الدكتور بشار الأسد وعضويتي وآخرين، لاقتراح أسماء أعضاء اللجنة المركزية وأعضاء القيادة القطرية على المؤتمر. وخلال استراحة الظهر في اليوم الأخير، توجهت إلى دمشق مع رفاق في الحزب لتناول الغداء عندي. وعند وصول السيارة إلى أوتوستراد المزة، رن الهاتف وكان المتكلم السيد محيي الدين مسلماني، مدير مراسم رئاسة الجمهورية، وأبلغني أن اللجنة تجتمع الآن وبالتالي عليّ العودة للمشاركة. أوقفت السيارة وغادرها الثلاثة، وعدت إلى مجمع المؤتمرات، وعند وصولي دخلت الغرفة التي يجري فيها الاجتماع، وجرت مناقشة تشكيلة القيادة ثم اتخاذ قرار فيها.
بعد إجراء الاستفتاء للرئيس بشار الأسد وأدائه يمين القسم، اجتمعت بالدكتور بشار بتاريخ 23 يوليو/تموز في العام 2000 وقدمت له مذكرة حول قضايا الإصلاح الحزبي والسياسي وحول الموقف من التحديث، واجتمعت معه في اليوم اللاحق لمناقشتها، وقد رحب بالأفكار، واقترح أن تناقش في القيادة القطرية، وبالفعل جرت مناقشة الأفكار في القيادة وكانت وجهة نظره أن الأولوية يجب أن تكون للإصلاح الاقتصادي ووافقه أعضاء القيادة الرأي.
التقيت لأول مرة بالدكتور بشار في القرداحة في مناسبة وفاة شقيقه باسل الأسد، كما كنت التقيت لأول مرة بباسل الأسد أثناء وفاة جدته. ولم تكن لي أي اختلاطات مع أولاد الرئيس حافظ أو غيرهم من أولاد المسؤولين لأسباب تتعلق بالعمر، ولكن كانت هناك علاقات ودية وصداقة بين الأبناء.
خلال وجودنا في القرداحة في عزاء المرحوم باسل، تقرر إنهاء البعثة الدراسية للدكتور بشار في لندن. وبالفعل عاد الأسد وبدأ نشاطاته وأرسل إلى دورة تدريبية عسكرية.
وبعد تخرجه باشر دورا يتعلق بقضايا الجيش، وأيضا بقضايا الحكومة. وقد أقام السيد سليمان فرنجية علاقات وثيقة معه كما كان الأمر مع شقيقه (الراحل في 1994) باسل، وكذلك فعل السيد طلال أرسلان، والسيد ميشال سماحة اللذين عارضا حكومة (الراحل) رفيق الحريري، كما فتح سليمان فرنجية بابا لعلاقات بين قائد الجيش اللبناني العماد إميل لحود، والأسد.
لقد ناقشت الموضوع مرارا مع الرئيس حافظ، وأعطيته كل الأسباب التي تدعوني للاعتراض على ترشيح لحود. وبعد انتخاب لحود (في العام 1998) طلبت من الرئيس حافظ الأسد إعفائي من الملف اللبناني لأن موقفي من انتخابه كان معروفا، وبالتالي فإن هذا سيؤثر على العلاقات بيني وبينه، فوافق الرئيس حافظ الأسد، وبذلك انتهت الإدارة السياسية للملف وتخليت عن المهمة في لبنان.
كنت التقيت بالدكتور بشار بعد ذلك عدة مرات وكان حديثه ما زال مركزا حول إصلاح النظام وتطويره بعد تحديد موعد للمؤتمر القطري. وفي إطار تعاوني مع الدكتور الأسد قدمت مقترحات. وفي المجال الاقتصادي قدمت دراسات تتضمن الإصلاح الاقتصادي في كل قطاعات الاقتصاد الوطني، كما قدمت دراسات حول الإصلاح الإداري والقضائي والتعليمي، وقد درست القيادة القطرية في "البعث" المسألة الاقتصادية لأكثر من شهر ونصف وتوصلت إلى وثيقة شاملة تبنت معظم الأفكار التي تقدمت بها، ومع ذلك لم يجر أي عمل جدي في تنفيذ الإصلاح الاقتصادي، وكانت الموقف أن الإصلاح الاقتصادي دون وجود إصلاح إداري سيبقي حالة الاقتصاد سيئة.
مع اقتراب موعد المؤتمر القطري المحدد انعقاده في يونيو/حزيران2005، حضّرت نفسي لعملية الاستقالة من جهة، والخروج من البلاد لقضاء بضعة أشهر حتى أعد نفسي لمرحلة جديدة بعيدا عن السلطة ومتاعبها من جهة ثانية.
قبل عقد المؤتمر ببضعة أيام، عقدت القيادة القطرية اجتماعا لمناقشة التقارير التي ستقدم للمؤتمر، وأخذ أعضاء القيادة يتبارون في مدح الإنجازات العظيمة.
كنت مقررا أن لا أتحدث في هذا الاجتماع، لكنني وجدت نفسي مضطرا للحديث، فقلت: "سأقول بضع كلمات وليس حديثا موسعا"، حيث تحدثت بالتفصيل عن الوضعين الداخلي والخارجي.
بعد أن أنهيت كلماتي، أخذ الحديث وزير الخارجية فاروق الشرع، وقال: "أستغرب تشاؤم الرفيق أبو جمال. الشعب كله معنا وليس هناك أحد ضدنا". وبدأ يحكي، فقاطعته: "هل الشعب معنا لأنه جائع؟ وهل الشعب معنا لأنه إذا أراد أحد التوظف في الدولة يُرفض لأنه غير حزبي؟ وهل الشعب معنا لأن الفساد منتشر في الدولة؟".
بعد انتهاء الجلسة، وقفت مع الدكتور بشار، وأبلغته أني أود مقابلته قبل المؤتمر، فاتفقنا على اللقاء في اليوم التالي صباحا. ذهبت إليه وتناقشنا حول المؤتمر، وحول القيادة المحتملة، وأبلغته، أنني سأعلن استقالتي من كافة مناصبي الحزبية والسياسية في الدولة. كما أنني سأغادر بعد المؤتمر إلى باريس للاستراحة من جهة ولإعداد مذكراتي للنشر، واضفت: "يكفيني قرابة ستين عاما من العمل الحزبي وأكثر من 41 عاما من العمل في الدولة". في الواقع كانت الجلسة هادئة ومريحة.
وفي اليوم اللاحق، قبل انعقاد المؤتمر بساعات، تكررت الطلبات مني كي لا أتحدث في الجلسة الصباحية لاجتماع اللجنة السياسية التي تناقش قضايا السياستين الداخلية والخارجية. كنت أول المتحدثين وبدأت حديثي بإعلان استقالتي من مناصبي الحزبية والسياسية، وقلت: "لقد أمضيت قرابة ستين عاما من العمل في الحزب منذ تأسيسه و41 عاما في السلطة، وآن الأوان لكي نفسح الطريق أمام الأجيال الصاعدة"، ثم انتقلت للحديث عن السياسة الداخلية(...) والسياسة الخارجية وعن الوضعين العربي والدولي، وعن الخمول في سياستنا الخارجية وغياب المبادرة وتراجع مواقعنا في الساحتين العربية والدولية. كما تحدثت عن العلاقات المتوترة بين سوريا وعدد من الدول العربية. حاول الشرع مقاطعتي، فطلبت منه أن لا يقاطع، وسأكمل حديثي.
بعد انتهاء اللجنة الأولى جاءني محيي الدين مسلماني مدير إدارة المراسم في القصر، وأبلغني أن الرئيس يريدني، فتوجهت إلى مكتبه. تحدثنا، ثم سألني: "متى ستسافر؟". فقلت له بعد انتهاء المؤتمر، فقال: "سأتحدث معك قبل سفرك". ودعته وتوجهت إلى المنزل.
سار المؤتمر بشكل طبيعي كالعادة، لكن كانت المناقشات فيه أكثر صراحة وأكثر جدية. وفي الجلسة الأخيرة تم تفويض الأمين القطري بشار الأسد بترشيح أسماء أعضاء القيادة القطرية، وفي نهاية الجلسة أعلنت الأسماء.
بعد انتهاء المؤتمر القطري لحزب "البعث" بيوم، اتصل بي الأسد وتحدثنا عن المؤتمر، وقلت انني سأمضي في باريس بضعة أشهر، وسأجهز لنشر مذكراتي عن تاريخ سوريا المعاصر. في الواقع كان حديثا فيه "روح طيبة" وتناولنا لقائي المحتمل مع الرئيس جاك شيراك، وكنت أتمنى تحقيق مقترحاتي. لو حصل لما سارت الأحوال في سوريا إلى هذا الوضع في 2011.
(توفي عبد الحليم خدام في آذار 2020 بفرنسا)