كنا بضعة عشر من أنصار الثورة المتنوعين، اجتمعنا لمساعدة صديقنا الأميركي، طالب الدكتوراه في العلوم السياسية، في ما سماه جلسة Focus Groupلاستمزاج الآراء جماعياً، أدار فيها الحوار عن الثورة وأسباب تأييدنا لها أو الانخراط فيها.
بين مفردات الاستبيان كان هناك سؤال عن العامل الطائفي وأثره في دفع كل منا إلى معارضة النظام. توالت الإجابات فاستقرأ صديقنا الشاب منها أن الأكبر سناً بيننا قالوا إن هذه المسألة كانت في خلفية احتجاجهم بسبب شعورهم بالتمييز الطائفي، أما الأصغر فقالوا إن هذا الأمر لم يكن عاملاً مؤثراً في مواقفهم قبل الثورة، وإن كانوا قد وعوه وأخذوه في الاعتبار بعدها.
ومن هذا استنتج الباحث أن الحساسيات الطائفية في البلد موروثة، وأنها كانت تتراخى مع الزمن، بدليل تراجعها لدى الشباب. وطرح اقتراحه هذا لتفسير الإجابات علينا. كانت لديّ وجهة نظر مكمّلة مجاورة، وهي أن الأمر لا يتعلق بالعمر وحده بل بالالتحاق بالجيش. وبالفعل، عندما سألنا الشبان الموجودين قالوا جميعاً إنهم لم يؤدوا الخدمة العسكرية لأنهم كانوا طلاب جامعات حين اندلعت الثورة. وبعدها سارت حياتهم وفق مخطط متكرر من التظاهر فالملاحقة فاللجوء.
بالنظر إلى معدلات الأمية المرتفعة في سورية، يمكن رسم صورة «المجند» النموذجي على أنه شاب في حدود الثامنة عشرة، لا يجيد القراءة والكتابة، سارع إلى أداء الخدمة الإجبارية كي «يخلص منها» ويتفرغ لبناء عمله الخاص وأسرته. بالإضافة إلى أنه لا يملك خياراً آخر تقريباً، مع انغلاق أبواب «التأجيل» أمامه، بخلاف أبناء جيله من طلاب المدارس والجامعات الذين تمنحهم هذه المؤسسات التعليمية فرصة التأخر عن أداء «الخدمة» بضع سنوات بحسب مستواهم الدراسي. ويشكّل هؤلاء ثلث الملتحقين بالجيش برتب مختلفة من صف ضباط أو ملازمين. أما المتطوعون فلهم حديث معقد خاص.
لا يتلقى المجندون الإلزاميون من السنّة، بمختلف رتبهم، «تأهيلاً» طائفياً منزلياً إلا في حالات محددة
لا يتلقى المجندون الإلزاميون من السنّة، بمختلف رتبهم، «تأهيلاً» طائفياً منزلياً إلا في حالات محددة، كأن تفرض هذه المسألة نفسها على بنية الأسرة أو المنطقة أو المدينة. لا يعني هذا ترفعاً عن الانتماءات القبْلية لصالح «المواطنة» بقدر ما يعني أن الطائفية ليست من هواجس اليوم، فضلاً عن أن تناولها على مسامع الأولاد قد يفتح أبواب الخطر.
وهكذا يلتحق «حمادي» بالجيش ليكون فرصته الأولى للاحتكاك بالعالم البشري السوري الغني فعلاً، دروزاً أو أكراداً أو مسيحيين، شواماً وحلبيين وحماصنة، بحسب بلد نشأته. وطبعاً يحتل «الضابط العلوي» مكاناً مركزياً بين هؤلاء. ليس كل الضباط علويين، غير أن الضابط العلوي هو الضابط النموذج، بحكم الامتيازات التي يحصل عليها مهما كانت متواضعة، وبحكم أنه يمنح الجيش جوّه، لهجة ومتة وعرَقاً وتجديفاً لفظياً.
يخوض معظم المجندين تجربتهم الطائفية الأولى في الجيش. هناك يتعرضون للتمييز ويتعلمون المداراة وتخزين الأحقاد. ومن هنا يمكن أن نفهم سبب حضور الهاجس الطائفي بقوة في أفكار ومشاعر الضباط المنشقين، وأغلبهم غير متدين، نتيجة تراكم سنوات طويلة من القهر والحصر و«الجيب واز».
يفيدنا كتابان في اختبار أثر هذه التجربة وبعض أخطر نتائجها. الأول هو مذكرات الشيخ سعيد حوى، الصادرة بعنوان «هذه تجربتي وهذه شهادتي». وفي جزئها الأول يتعرض للحديث عن خدمته الإلزامية في الستينات، قبل أن يصبح المنظّر الأبرز للإخوان المسلمين السوريين، ولا سيما صقورهم، وصولاً إلى علاقاته المميزة مع تنظيم «الطليعة المقاتلة» الذي فجّر أحداث الثمانينات التي اتسمت بإلحاح واضح على العامل الطائفي.
يقول حوى: «أول ظاهرة تلفت نظر المعايش للجيش العربي السوري كثرة السباب والشتائم لله والأديان حتى لتكاد هذه أن تكون وسيلة السيطرة للأعلى على الأدنى، ووسيلة المؤانسة بين المتماثلين، ولقد اعتاد على ذلك الجميع... كان من المستغرب في طبقات الضباط أن يذكر الإنسان الله باحترام وإجلال، وإذا حدث أن توسعت دائرة المتدينين في صفوف الضباط فإن التسريحات تطالهم بسرعة، فلا يبقى متدين في الجيش إلا من لا شوكة له».
ويتحدث عن اختلال التوازن الطائفي في الجيش لصالح الأقليات، ولا سيما «النصيرية»، وعن التضييق على أداء الصلاة فيه، وعن بعض الاحتكاكات التي جرت معه نتيجة ذلك.
الكتاب الثاني هو «إبراهيم اليوسف: وصفحات من تاريخ الطليعة المقاتلة في سوريا»، الذي ضمّنته عزيزة جلود سيرة زوجها النقيب الذي ارتبط اسمه بمجزرة «مدرسة المدفعية» الشهيرة. قضى اليوسف سنوات خدمته، ضابطاً متطوعاً، في السبعينات، وشارك في حرب تشرين. وهو يصف التمييز الطائفي الذي لاحظه في المكافآت التي أعقبت تلك الحرب، واستدعاءه لتحقيق حزبي بسبب أدائه الصلاة في قطعته، ونقله إلى المدرسة كعقوبة نتيجة ذلك. ويروي قصة احتكاكه مع ضابط الأمن فيها، محمود المحمود، وهو من أصل علوي، بسبب سماح اليوسف لبعض طلاب الضباط السنّة الذين كانوا يؤدون الخدمة الإلزامية بالصلاة. ثم احتدام الحديث بين الاثنين في سهرة، حين عبّر المحمود عن استهجانه لوجود عدد كبير من الجوامع في حلب، تستهلك المساحة وتهدر الكهرباء دون فائدة، بينما الأولى أن تقام مكانها المنشآت الصناعية أو السياحية أو حتى الملاهي.
وفق الكتاب، سيبلغ اليوسف رفاقه في «الطليعة» عن المحمود وسيغتالونه. مما يهدم وهماً غنائياً آخر يتداوله مناهضون ثقافيون للطائفية من أنها تنبني على جهل أفراد الجماعات ببعضهم وتراكم الأساطير المتضادة، وأنها تنحسر بمجرد أن يتعارفوا ويكتشفوا مدى تشابههم كبشر!
مجزرة المدفعية جريمة، ببساطة لأنها استهدفت طلاب ضباط لم يرتكبوا شيئاً، وانبنت على سلوك محتمل منهم في المستقبل كضباط علويين في دولة الأسد. ربما في دولة أخرى، تستحق هذا الوصف، كان من شأن هذه «الحادثة» أن تثير مراجعة وطنية شاملة، كما كُتب مراراً. أما في دولة الجيش، الذي يحتفل هذه الأيام بذكرى تأسيسه، فلم تؤد سوى إلى اعتبار اليوسف «مجرماً» أصيلاً، دون سيرة ولا سياق، وإلى توسيع دائرة «المجرمين» المحتملين وصولاً إلى قمع البلاد كلها في الثمانينات، ثم الاستمرار في زرع بذور هذا «الإجرام» في نفوس أجيال متتالية من الشبان المنتزعين من بيوتهم لأداء «الخدمة» الإلزامية، وشحنهم بأسباب الاحتقان الطائفي مع كل دورة.
منذ الستينات، ولا سيما عقب أحداث الثمانينات، أخذ الجيش يتحول حثيثاً إلى أن يكون مختبر الطائفية الأول في البلاد. ونتيجة لذلك فقد أسهم في التحضير للثورة أكثر مما فعلت أي من قوى المعارضة!