icon
التغطية الحية

صعود "تحرير الشام" من الألف إلى الياء.. التسلسل الزمني لرحلة التفرد بحكم إدلب

2024.05.08 | 07:28 دمشق

5555
رحلة صعود هيئة تحرير الشام من الألف إلى الياء - تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

تواجه "هيئة تحرير الشام"، منذ شهر شباط الماضي، حراكاً شعبياً غير مسبوق في محافظة إدلب شمال غربي سوريا، يطالب بإسقاط زعيمها "أبو محمد الجولاني"، ولعل هذا الحراك الذي يتوسع يوماً بعد يوم، قد يكون من أكثر التحديات صعوبة أمام الهيئة، عقب سنوات من شعورها بحالة من النشوة، بعدما تصدرت المشهد في إدلب على مختلف الأصعدة، بما فيها العسكرية والمدنية، نتيجة لرحلة طويلة من القضاء على المنافسين، والتمرد على من كانوا قادة وأعضاءً فيها يوماً ما، مستخدمة في ذلك أساليب الترغيب والترهيب، والوسائل والأدوات المتاحة، العسكرية والإعلامية والأمنية.

قدم الجولاني مجموعة سلوكيات وأقوال مباشرة والكثير من الرمزيات غير المباشرة ضمن مرحلة التحول الاستراتيجي البراغماتي التكيفي الواقعي، وإعادة تعريف الجماعة وتأطير موقفها العملياتي والأيديولوجي، بالتوازي مع تحالفات وانفكاكات داخلية بهدف الاستئثار بالحكم واحتكاره محلياً، وتوظيف جملة النجاحات ضمن الديناميكيات الجيوسياسية الأوسع.

الفصيل العسكري الذي يحكم قبضته على كافة المفاصل في إدلب، والذي شن هجومه على فصائل الجيش السوري الحر في اليوم الثاني من "أستانا 1″، رافق أول رتل تركي دخل إلى إدلب في تشرين الأول 2017 لإنشاء أول نقطة مراقبة وفقاً للجولة السادسة من "أستانا". 

وضعت "تحرير الشام" حلم حكم الشمال السوري ضمن أولوياتها منذ عام 2015، وذلك بالتزامن مع سيطرة فصائل المعارضة على مركز مدينة إدلب، وإخراج قوات النظام منها، وقد افتتحت الهيئة مسيرة الصعود عبر اتّباع أسلوب القضاء على المنافسين، حيث بدأت هجمات على عدة فصائل تعمل ضمن الجيش السوري الحر، بحجة التعامل مع الغرب، والارتهان للاتفاقيات الدولية، وعندما وجدت الهيئة نفسها قد ملكت مقومات القوة، شنت في عام 2017 هجوماً استمر لأيام على حركة أحرار الشام التي كانت تعتبرها الهيئة خصمها ومنافسها الأول في إدلب، وبعد عدة جولات من القتال، استطاعت إضعاف الحركة والسيطرة على جزء كبير من سلاحها الثقيل، وانتزاع عصب اقتصادها، وهو معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، ومعها بدأت "تحرير الشام" مرحلة جديدة في طريق التفرد بالحكم والسيطرة.

يتحدث التقرير عن مراحل "هيئة تحرير الشام" بأسمائها المختلفة، في السيطرة على زمام الأمور في إدلب، منذ أن بدّلت اسمها من "جبهة النصرة" إلى "جبهة فتح الشام"، ثم "هيئة تحرير الشام"، والطرق التي اتبعتها في القضاء على الفصائل والتنظيمات، منذ تشكيلها حتى الآن.

"جبهة النصرة" تُغيّر اسمها

في أواخر شهر تموز عام 2016، ظهر أبو محمد الجولاني بتسجيل مصور، أعلن فيه عن فك ارتباط "جبهة النصرة" بتنظيم القاعدة، وتشكيل فصيل جديد باسم "جبهة فتح الشام"، وقال إن التنظيم الجديد يسعى إلى "العمل على إقامة دين الله، وتحكيم شرعه"، والتوحد مع باقي الفصائل، وحماية "الجهاد الشامي والاستمرار فيه".

 

 

حاولت "جبهة فتح الشام" ابتلاع عدة فصائل تعمل في الجيش الحر، والسيطرة على عتادها وسلاحها، ما دفع معظم الفصائل إلى استشعار الخطر، وكانت "فتح الشام" حينذاك تستخدم تنظيم "جند الأقصى" للبطش في الفصائل وتنفيذ عمليات الاغتيال ضدها.

وأصدر مجلس شورى أهل العلم في الشام، بياناً بتاريخ 22 كانون الثاني 2017، أكد فيه حماية "جبهة فتح الشام" لـ"جند الأقصى"، الذي كان ينشط في تنفيذ الهجمات ضد فصائل المعارضة، وذكر أنه وفي حال ثبت أن "فتح الشام" هي المحرك لـ"الجند"، فيجب على جنودها وقادتها الانشقاق عنها، والالتحاق بالفصائل الأخرى.

ومطلع عام 2017 تعرضت عدة فصائل لهجمات من قبل "جبهة فتح الشام"، ومنها جيش المجاهدين، وفرع الجبهة الشامية بريف حلب الغربي، وفي 26 من كانون الثاني 2017، حاولت عدة فصائل التحالف والوقوف في وجه الجبهة، إذ أعلنت كل من، ألوية صقور الشام، وجيش الإسلام - قطاع إدلب، وجيش المجاهدين، وتجمع فاستقم كما أمرت، والجبهة الشامية - قطاع ريف حلب الغربي، وكتائب ثوار الشام، الانضمامَ إلى حركة أحرار الشام.

لم تنتظر "جبهة فتح الشام" طويلاً، وبعد يومين من انضمام تلك الفصائل إلى أحرار الشام؛ أعلنت عن تشكيل "هيئة تحرير الشام"، إلى جانب 4 فصائل أخرى، وهي حركة نور الدين الزنكي، ولواء الحق، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنة، ودعا بيان التأسيس جميع الفصائل إلى الالتحاق بالهيئة "جمعاً للكلمة وحفظاً لمكتسبات الثورة والجهاد".

"هيئة تحرير الشام" تضعف "أحرار الشام"

اعتبرت "تحرير الشام" نفسها الفصيل الأكبر في سوريا، والذي يجب على جميع الفصائل الأخرى الانخراط به، والعمل تحت رايته، وكانت "أحرار الشام" والفصائل التي انضمت لها هي العقبة الكبرى أمام الهيئة لتنفيذ رؤيتها ومشروعها.

ونتيجة رفض أحرار الشام العمل ضمن "تحرير الشام"، لجأت الأخيرة إلى الخيار العسكري لتطويع الحركة، وإنهاء قوتها والسيطرة على معاقلها الرئيسية.

ونشرت "تحرير الشام" في 6 آذار 2017، بياناً قالت فيه إن "أحرار الشام" تسببت في إفشال عدة محاولات لاندماج الفصائل وإنهاء حالة الفرقة والتشرذم، داعية في البيان نفسه قيادة أحرار الشام إلى تشكيل لجنة من الطرفين، يتم تخويلها وتفويضها بحل كل الإشكالات والقضايا العالقة بخصوص انضمام ألوية وكتائب من الحركة لـ "تحرير الشام".

في اليوم نفسه قالت أحرار الشام في بيان لها، إن "هيئة تحرير الشام" عملت فور تشكيلها على استهداف الحركة، وهز تماسكها، وقد سخّرت لأجل ذلك جلّ جهدها العسكري والإعلامي، واستحلت سلاح الحركة وممتلكاتها، وذكرت أنها باتت مضطرة للتصدي بقوة، لأي بغي.

وأدى هذا التوجه من قبل الهيئة، إلى انشقاق عدة شخصيات وتشكيلات عنها، مثل حركة نور الدين الزنكي، والشرعيين عبد الله المحيسني، ومصلح العلياني، وعبد الرزاق المهدي.

لم تمنع هذه الانشقاقات "تحرير الشام" من إكمال طريقها في التفرد بالسيطرة والقضاء على حركة أحرار الشام، وفي شهر تموز عام 2017 كانت نقطة التحول بين الطرفين، إذ سيطرت الهيئة على معبر باب الهوى، واستحوذت على كميات من الأسلحة، وتلا ذلك تحييد عدة قطاعات في الحركة لنفسها عن الإشكال الحاصل، ومنها من انضم لاحقاً إلى الهيئة، ومعها قطعت "تحرير الشام" شوطاً كبيراً في طريقها نحو التصدر.

"الزنكي" على قائمة الأهداف

في عام 2018، توجهت أنظار "هيئة تحرير الشام" نحو منطقة ريف حلب الغربي، والتي كانت خاضعة حينذاك لسيطرة "حركة نور الدين الزنكي"، وعملت على اختراق المنطقة بكل الوسائل، إلى أن وجدت الخيار العسكري هو الحل الوحيد لبسط نفوذها هناك، وإنهاء وجود "الزنكي".

دوافع الهيئة بالهجوم على ريف حلب الغربي، أجبرت حركتي "أحرار الشام" و"نور الدين الزنكي" على التوحد في 18 شباط من عام 2018، تحت اسم "جبهة تحرير سوريا".

وجاء في بيان الإعلان عن التشكيل، أنهم لا يهدفون إلى التفرد بقرار الثورة أو تمثيلها السياسي، ولا التغلب أو البغي على أحد، مضيفاً أن الجبهة لن تتهاون في الوقوف في وجه "كل من فقد بوصلة بندقيته، لتكون أداة تستخدمها القوى الخارجية لتصفية قوى الثورة".

وشنت "تحرير الشام" في ذلك العام هجمات متكررة على مواقع "جبهة تحرير سوريا" في ريف حلب الغربي، لكنها فشلت على مدار أسابيع في تحقيق أي تقدم، وخسرت العشرات من عناصرها، والعديد من العربات المدرعة والدبابات والآليات.

بدأت الهيئة إعداد دراسة جديدة لطبيعة المعركة، مستفيدة من الهجمات السابقة، ومهدت بكثافة على الصعيد الإعلامي ضد "الزنكي"، وأعدت لأجل ذلك عشرات الفيديوهات والتقارير، التي تتهم قيادة "الزنكي" بالعمالة والتواصل مع الروس، والفساد وغيرها.

حاولت "جبهة تحرير سوريا" بدورها تعزيز قوتها والتحالف مع بقية التشكيلات والفصائل، وفي 1 آب من عام 2018، انخرطت "تحرير سوريا"، ضمن فصيل الجبهة الوطنية للتحرير.

اتخذت الهيئة قرار الحرب الشاملة ضد "جبهة تحرير سوريا"، وتحديداً "الزنكي" في اليوم الأول من عام 2019، ومع ساعات الفجر بدأت دباباتها وراجماتها بقصف الأحياء السكنية في ريف حلب الغربي، وخاصة مدينة دارة عزة، تمهيداً للتقدم البريّ.

وأشارت الهيئة في ذلك اليوم، إلى أن "الزنكي" نقض الاتفاقات السابقة والمتكررة المبرمة معه، والتي نص بعضها على تحييد مدينة دارة عزة، والاشتراك بنقاط رباط على جبل الشيخ بركات.

وذكرت أن "الزنكي" ما زال "يفتح الطريق لكل مفسد وقاطع طريق من مناطق الدرع والغصن، ليأتي إلى مناطقه ويعيث في الأرض فساداً دون رادع" بحسب وصفها.

ورغم إعلان الجبهة الوطنية للتحرير النفير العام لـ"صد عدوان هيئة تحرير الشام، واسترداد كل المناطق التي اغتصبتها"، فإن الهيئة واصلت هجماتها، واستطاعت في غضون أيام قليلة السيطرة على كامل المناطق الخاضعة لسيطرة "الزنكي"، ما دفع عناصر الأخير إلى التوجه نحو مدينة عفرين وريفها، تاركين خلفهم السلاح الثقيل والعديد من القتلى والأسرى.

وفي 25 آذار عام 2019، أعلنت حركة نور الدين الزنكي حلّ نفسها، وتشكيل اللواء الثالث، والانضمام إلى فصيل فيلق المجد، ضمن الجيش الوطني السوري، قبل أن تتنقل فيما بعد ضمن عدة فصائل وتشكيلات، آخرها "تجمع الشهباء" المتهم بالتنسيق المباشر مع الهيئة نفسها.

الهيئة تعاود الكرّة على "أحرار الشام"

بعد أن انتهت الهيئة من معركة السيطرة على ريف حلب الغربي، توجهت نحو منطقة جبل شحشبو وسهل الغاب في ريف حماة الغربي، لفرض كلمتها هناك، على اعتبار أن المنطقة تعد من أبرز معاقل حركة أحرار الشام.

وبدأت الهيئة في الشهر الأول من 2019 عملية عسكرية على مواقع أحرار الشام غربي حماة، واستطاعت السيطرة على العديد من البلدات والقرى، ومحاصرة الحركة في منطقة جغرافية صغيرة، يحيط بها من الجنوب نقاط قوات النظام، ومن الشمال نقاط "تحرير الشام".

ودفع هذا الحال، أحرار الشام إلى توقيع اتفاق يقضي بحلّ الحركة في منطقة سهل الغاب وجبل شحشبو، وأن تتبع المنطقة لـ"حكومة الإنقاذ" إدارياً وخدمياً، وتسليم السلاح الثقيل والمتوسط للهيئة، مع الإبقاء على السلاح الفردي.

ونصّ الاتفاق على أن يبقى في المنطقة من يريد البقاء أو الرباط، وخروج البقية نحو منطقة "غصن الزيتون" (عفرين)، بالتنسيق مع "هيئة تحرير الشام".

أصدقاء الأمس أعداء اليوم

بعد أن سيطرت هيئة تحرير الشام على معظم المناطق في إدلب وأريافها، شنت روسيا وقوات النظام عملية عسكرية استمرت لنحو عام، واستطاعوا على إثرها السيطرة على مساحات واسعة في ريف حماة الشمالي والغربي، وريف إدلب الجنوبي والشرقي، وريف حلب الغربي.

وتوقفت العملية بموجب اتفاق تركي - روسي في آذار من عام 2020، وبعد ذلك بدأت الهيئة بإعادة ترميم صفوفها نتيجة الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها، ومعها عملت الهيئة بشكل واضح على تبديل خطابها، وباتت من أبرز الملتزمين بالهدن والاتفاقيات التركية - الروسية حول إدلب، الأمر الذي خلق خلافات داخل الصف الداخلي للهيئة، وأدى إلى انشقاق عدة قيادات عنها.

حاولت الهيئة إبراز قوتها وإظهار نفسها أنها المتحكم الفعلي في إدلب، خاصة بعد تزايد الهجمات العسكرية من قبل جهات مجهولة على الدوريات التركية الروسية التي جرى تسييرها على مدار عدة أشهر على طريق "حلب - اللاذقية" المعروف باسم "M4".

ومع استمرار وقف إطلاق النار، بدأت العداوات والخلافات تطفو على السطح، سواء بين الهيئة وبعض التنظيمات المتشددة مثل "حراس الدين"، أو بين الهيئة وبعض الشرعيين العاملين فيها، ممن رأوا أن الالتزام بوقف إطلاق النار "خيانة وارتهان للدول".

وبدأت توترات بين الهيئة وتنظيم "حراس الدين"، بعد أن أصدر قائد "الحراس" أبو همام الشامي، والمسؤول الشرعي العام فيه سامي العريدي بياناً مشتركاً، ذكرا فيه أن قادة الهيئة طرحوا عليهم تشكيل مجلس عسكري بقيادة ضابط من الضباط المنشقين عن النظام والملتحقين بالجيش الحر، ويملك هذا المجلس قرار السلم والحرب في المناطق المحررة، مع عدم ممانعة هيئة تحرير الشام فتح الأوتوستراد الدولي "M4".
 

وجاء في البيان: "نحن نستغرب من هذا الطرح من قبل قياداتٍ في الهيئة لما نعرفه عنهم من آراء وتوجهات قديماً، ولما سيلحق من نتائج سلبية على الساحة وخاصة في مثل هذا الوقت والظروف، وهذا الأمر يجعلنا نخرج عن صمتنا والتأخر عن المطالبة في سلاحنا وحقوقنا عند هيئة تحرير الشام التي لم نأخذها بعد انشقاق الأخ الجولاني، وبما أن الأمر وصل إلى ما وصل إليه، فإننا نرى أنه لا يسعنا السكوت عن حقوقنا وسلاحنا، فنحن اليوم نطالبهم بسلاحنا وحقوقنا، فهذا السلاح والحقوق من الأمور المتنازع عليها بيننا سابقاً، ولم يُقض فيها ولم يحسم أمرها إلى الآن، لنكمل بها طريقنا الجهادي على المنهج والطريقة التي تعاهدنا عليها ورأينا بركاتها وآثارها الطيبة قديماً، بعيداً عن المشاريع التي لا تزيد الساحة إلا ضعفاً ودماراً وتشتيتاً".

تعويض الفشل العسكري بنجاح أمني

تسبب الإخفاق الكبير عسكرياً في مواجهة قوات النظام وإيران وروسيا عامي 2019 و 2020 وخسارة مناطق كبيرة، بحرج شديد للجولاني خاصة أن معركة النظام بدأت والهيئة منشغلة في الهجوم على من تبقى من فصائل من المنطقة، فأردات الهيئة تعويض الإخفاق العسكري بنجاح أمني، وهذا ما حصل عندما أعلن عن تأسيس "جهاز الأمن العام" في العاشر من حزيران عام 2020، بوصفه جهاز استخبارات لا يتبع لأي فصيل عسكري ولا يتبع لوزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، إلا أنه حقيقة شكل جديد من "أمنية" جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام من بعدها.

كانت أولى نجاحات الجهاز تفكيك عشرات الشبكات لتنظيم الدولة التي كثفت هجماتها واغتيالاتها بحق المقاتلين من مختلف الفصائل، ثم ألقى القبض على "سرية أنصار أبي بكر الصديق" التي استهدفت أرتال الجيشين التركي والروسي أثناء تنفيذ دوريات مراقبة وقف اتفاق أردوغان وبوتين في آذار 2020، وكذلك أعلن الجهاز عن القبض على عدد من خلايا وعملاء يتبعون للنظام السوري.

أعطى الجهاز شعوراً بالأمان فلا يمكن إنكار منجزاته الأمنية في ضبط المسروقات والإفراج عن المختطفين وصولاً إلى العمل المخابراتي في تفكيك الخلايا، وروجت هيئة تحرير الشام للجهاز وشكلت حوله حالة كبيرة جعلت المجرمين يفكرون كثيراً. إلا أن أزمة العملاء انفجرت في وجه الهيئة وجهاز الأمن العام بعد أن ثبت اعتقال الجهاز لعشرات القياديين والعناصر بتهم العمالة واعترافهم بذلك تحت التعذيب، وصولاً إلى قرار الجولاني في آذار الفائت بإلحاق الجهاز بوزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ بمسمى "إدارة الأمن العام".

"تحرير الشام" تخمد الأصوات المعارضة

عملت الهيئة على إخماد صوت أي شخصية تعارض توجهاتها، حتى لو كان ذلك الشخص أحد الشرعيين أو القادة العاملين في صفوفها، أو ممن كانوا في فترة ما ضمن المشاركين معها في قتال بقية الفصائل.

وظهرت الخلافات بين الهيئة وبعض الشخصيات، مع إعلان الشرعي العامل فيها المدعو "أبو اليقظان المصري" استقالته من الهيئة، بعد رفضه طلباً يدعوه إلى الالتزام بالضوابط اﻹعلامية التي تضعها قيادة الهيئة ومجلسها الشرعي.

وتزامناً مع ذلك اعتقلت الهيئة المحاضرة في جامعة إدلب التابعة لـ"حكومة الإنقاذ"، بتول جندية، المعروفة باسم علا الشريف، بعد انتقادها المسؤول السابق في حكومة الإنقاذ إبراهيم شاشو.

صدور هذا الفعل من الهيئة بحق "جندية"، تزامن مع ظهور زوجها عصام الخطيب، الرئيس السابق للمحكمة العسكرية الثانية في هيئة تحرير الشام بتسجيل مصور، قال فيه إن الشريعة "لا تُطبق في وزارة العدل بحكومة الإنقاذ، حيث تطبق وساطات وأهواء، ونتائجها يراها الجميع إلا من يريد أن لا يرى".

ومع توالي الانتقادات للهيئة، أقدمت الأخيرة على فصل الشرعي المصري العامل فيها الملقب بـ أبو شعيب المصري، وقالت إن السبب هو مخالفاته المتكررة وعدم التزامه بسياسة الهيئة، مضيفة أنه ستتم إحالة ما يتعلق بكلامه على هيئة تحرير الشام إلى القضاء المختص.

وتحدث القيادي في الهيئة أبو العبد أشداء، عن الفساد الإداري والمالي داخل تحرير الشام، وعن تراجع شعبيتها بشكل كبير، وقال في فيديو مصور إن "قيادة الهيئة لم تهتم خلال المعارك الأخيرة ضد روسيا بفتح المحاور القتالية المتعددة، والإكثار من الإغارات، وأهملت التحصين والتمويه".

وعلى الفور أعلنت الهيئة عن إعفاء "أبو العبد أشداء" من جميع مهامه، ومن قيادة  "كتلة حلب المدينة" وإدارة "جيش عمر بن الخطاب"، وإحالته للقضاء العسكري، بسبب "الافتراء والكلام الذي لا يخدم إلا أعداء الأمة ويشق الصف"، بحسب بيان صدر عن الهيئة.

واعتقلت تحرير الشام "أشداء" بعد مداهمة مقر له في ريف حلب، ثم حكمت عليه بالسجن لمدة عامين، قبل أن تفرج عنه في وقت لاحق، بعد تدخل وساطات من مدينة حلب التي ينحدر منها "أبو العبد".

وبعد فترة قصيرة أعلن القيادي في تحرير الشام، جمال زينية، الملقب بـ"أبو مالك التلي" انشقاقه من الهيئة، عقب أيام من رفضه لقرار صادر عن حكومة الإنقاذ يتعلق بإيقاف صلوات الجماعة في المساجد بسبب كورونا.

"تحرير الشام" وخصومها.. نقطة اللاعودة

وصلت الخلافات بين هيئة تحرير الشام وخصومها من الجماعات والشخصيات المنشقة عنها إلى نقطة اللاعودة، بعد أن تم الإعلان عن تشكيل غرفة عمليات "فاثبتوا"، من قبل تنسيقية الجهاد التي يقودها أبو العبد أشداء، ولواء المقاتلين الأنصار بقيادة أبو مالك التلي، وكل من أنصار الإسلام، وأنصار الدين، وتنظيم حراس الدين، في 12 حزيران عام 2020.

وحاولت تلك الجماعات المؤسسة لغرفة العمليات استقطاب العناصر المتشددة داخل هيئة تحرير الشام، مستغلة غضب ما يعرف بـ"التيار الجهادي" من الهيئة، بسبب تنفيذها للاتفاق التركي - الروسي، وحمايتها للدوريات التي تم تسييرها على طريق "M4".

وعلى إثر ذلك، شنت تحرير الشام عملية عسكرية ضد المكونات المشكلة لغرفة "فاثبتوا"، وبدأت هجماتها على مواقع لـ"حراس الدين" في بلدة عرب سعيد غربي إدلب، بالتزامن مع اعتقالها للعديد من قادة وعناصر الغرفة على حواجزها الأمنية.

وأعلنت "جبهة أنصار الدين" عن اعتقال "هيئة تحرير الشام" لعدة قادة وعناصر في الجبهة، ومنهم أبو صلاح الأوزبكي، تزامناً مع اعتقال الهيئة للقيادي السابق فيها والعامل في غرفة "فاثبتوا"، أبو مالك التلي، مبررة ذلك، بأن "التلي" شكّل فصيلاً جديداً في "سعيه لإضعاف الصف وتمزيق الممزق".

وعملت الهيئة على تقطيع أوصال غرفة عمليات "فاثبتوا"، والاستفراد بكل منطقة وفصيل على حدة، واستطاعت من خلال هذه السياسة إجبار فصيل "حراس الدين" على توقيع اتفاق في 26 حزيران العام 2020، يقضي بوقف إطلاق النار، وخروج من يرغب من عرب سعيد رفقة سلاحه الشخصي، وإحالة بعض الأشخاص المدعى عليهم إلى الحزب التركستاني (الوسيط بينهما)، وإغلاق مقر "حراس الدين" في عرب سعيد، مع التعهد بعدم إقامة حواجز في البلدة.

وبذلك، نجحت الهيئة في احتواء غرفة عمليات "فاثبتوا"، وتفكيكها بعد أيام من تشكيلها، إذ لم يلحظ للغرفة أي نشاطات عسكرية أو أمنية منذ ذلك الحين.

مرحلة إحكام القبضة الأمنية وترسيخ القوة

اتخذت "تحرير الشام" مجموعة من الإجراءات، لترسيخ قوتها وإحكام قبضتها الأمنية، ولضمان عدم ظهور مجموعات وغرف عمليات عسكرية تنافسها في الإدارة.

وأعلنت "لجنة المتابعة والإشراف العليا" التابعة للهيئة عن منع قادة وعناصر "تحرير الشام" كافة من ترك الفصيل قبل مراجعتها، مشترطة أخذ موافقة وإبراء الذمة، مضيفة: "يحظر على الأخ التارك تشكيل أيّ تجمع أو فصيل مهما كانت الأسباب"، أو الانضمام إلى أي تشكيل أو فصيل، قبل مراجعة لجنة المتابعة وأخذ الموافقة منها.

ومنعت الهيئة إنشاء غرف عمليات عسكرية، أو تشكيلات أو فصائل جديدة، تحت طائلة المحاسبة، مشيرة إلى أن المساهمة في المجال العسكري متاحة، بشرط أن تكون ضمن غرفة عمليات "الفتح المبين".

وكذلك أعلنت الهيئة عن إغلاق جميع المقار العسكرية في إدلب ما عدا مقار غرفة عمليات "الفتح المبين"، ومنع أي جهة عسكرية من التدخل بالشؤون العامة والحكومية.

واستولت "تحرير الشام" على نقاط رباط تتبع لما كان يعرف بـ "الكتائب المستقلة" في ريف حلب الغربي، وقالت تلك الكتائب في بيان، إن الهيئة هددت بتسلم النقاط بقوة السلاح.

ولم تتوقف الاعتقالات من قبل الجهاز الأمني في الهيئة بحق الشخصيات المناهضة لها، حيث تم اعتقال الإعلامي الأميركي بلال عبد الكريم، والعامل في المجال الإنساني، أبو حسام البريطاني، قبل الإفراج عنهما لاحقاً، والقيادي في "حراس الدين" أبو عبد الرحمن المكي، وغيرهم.

وشملت الاعتقالات قائد ما تسمى "فرقة الغرباء"، المدعو عمر أومسين، وهو فرنسي الجنسية ومصنف كإرهابي عالمي من قبل الولايات المتحدة.

وبحسب الهيئة فإن "أومسين"، سعى للتفرد بما يشبه إدارة مصغرة، تتضمن تسيير معظم الإجراءات المدنية المتعلقة بالأحوال الشخصية (زواج - طلاق - معاملات)، وإدارته سجناً مصغراً في مناطق سيطرة مجموعته (بريف اللاذقية وغربي إدلب).

ملف "جنود الشام" على الطاولة

تعرض فصيل "جنود الشام" بقيادة مسلم الشيشاني لضغوط مع نهاية شهر حزيران 2021 من جانب هيئة تحرير الشام، إذ أكد الصحفي الأميركي بلال عبد الكريم أن الهيئة طلبت من "الشيشاني" الانضمام إلى صفوفها أو مغادرة مناطق سيطرتها في إدلب.

ويتركز وجود فصيل "جنود الشام" في جبلي التركمان والأكراد بريف اللاذقية الشمالي، وكان للفصيل إسهامات سابقة في المعارك ضد النظام في جبال الساحل، كما كان له دور في إفشال العمليات البرية لقوات النظام على منطقة الكبينة شمالي اللاذقية.

وتتهم وزارة الخارجية الأميركية "الشيشاني" ببناء قاعدة للمقاتلين الأجانب في سوريا، وكانت قد صنفته في عام 2014 على أنه قائد جماعة إرهابية مسلحة في سوريا.

ونقل موقع "المونيتور" حينذاك عن مصادر مطلعة، أن عناصر "جند الشام" تركوا أسلحتهم ومواقعهم العسكرية في جبال اللاذقية، وتوجهوا مع عائلاتهم للعيش في ريف جسر الشغور غربي إدلب استجابة لمطالب "هيئة تحرير الشام"، كما ذكر قيادي في "تحرير الشام" فضّل عدم الكشف عن اسمه، للموقع نفسه، أن "الهيئة تؤسس دولة، ولن تسمح لأي مجموعة بالعمل بشكل مستقل عنها".

التوسع شمالاً

خلال عامي 2022 و2023 بدأت "هيئة تحرير الشام" مرحلة جديدة من المعارك مع الفصائل الأخرى، حيث بدأت بالتوسع باتجاه مناطق نفوذ الجيش الوطني السوري شمالي حلب، وتركزت معاركها بشكل رئيسي ضد الفيلق الثالث في الجيش الوطني، والذي كان يؤسس في تلك الفترة لتجربة إدارية توازي تجربة الهيئة في إدلب، وهذا لم يرق لـ"تحرير الشام" التي تعتبر مشاريع بقية الأطراف خطراً قد يهددها لاحقاً.

واستغلت الهيئة الخلافات ضمن فصائل الجيش الوطني لتنفيذ مخططها، حيث شكّلت حلفاً إلى جانبها يضم فرقتي "السلطان سليمان شاه" (العمشات)، و"فرقة الحمزة" (الحمزات)، إضافة إلى"أحرار الشام" العاملة في إدلب، وكان هدفه بشكل رئيسي إضعاف "الفيلق الثالث" (يضم بشكل رئيسي الجبهة الشامية وجيش الإسلام).

وبعد معارك عنيفة، تركزت في منطقة كفرجنة المحاذية لمدينة اعزاز شمالي حلب، تمكنت الهيئة من تقويض نفوذ الفيلق الثالث، على حساب صعود وتوسع نفوذ "العمشات" و"الحمزات" المتحالفين مع الهيئة.

ضغوط في إدلب

ومنذ مطلع العام 2024، بدأت ملامح الحراك الشعبي تجاه "هيئة تحرير الشام" بالظهور بشكل لافت، للمطالبة بإسقاط "الجولاني" ومحاكمته (جاء الحراك عقب كشف ملف العملاء)، وبعد أشهر من انطلاق الحراك، يبدو أن الجولاني لا يجد حلاً لإخماده أفضل من افتعال اقتتال داخلي أو حملات تضييق واعتقال، وتشير التقديرات، إلى أن أبرز الأهداف الموضوعة على قائمة "تحرير الشام"، تشمل جيش الأحرار، وتجمع دمشق، في الجبهة الوطنية للتحرير، إضافة إلى خلايا تعمل ضمن "حراس الدين"، والمنتسبين لـ"حزب التحرير".

خلاصة القول؛ إن ما فعلته "هيئة تحرير الشام" على مر السنوات الماضية يأتي في إطار جهودها للهيمنة العسكرية والأمنية والاقتصادية في شمال غربي سوريا، وترسيخ وجودها من خلال إزاحة جميع الخصوم الذين يشكلون خطراً عليها، يأتي ذلك مع جهود بذلتها الهيئة لرفع اسمها من على قوائم الإرهاب، لكنها لم تصل إلى غايتها بهذا الخصوص حتى الآن، وبطبيعة الحال، فإن ما يهمها الآن بالدرجة الأولى، هو التخلص من الضغوط الشعبية، وانتهاء أزمتها الداخلية التي تفجرت مع ظهور "ملف العملاء من أفراد الهيئة لصالح جهات خارجية" للعلن في منتصف العام الماضي.