على الرغم من ثبات حدود توزع السيطرة العسكرية على الأراضي السورية، تقريبا، في العام المنصرم إلا أن الديناميات العسكرية والسياسية والاقتصادية كانت نشطة مع جملة أحداث أثرت وستؤثر بالمشهد السوري وستكون مؤسسة لعام مفصلي في تاريخ سوريا.
انطلق عام 2023 مع زلزال ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا موقعا خسائر بشرية هائلة إضافة لخسائر مادية وانعكاسات وانكشافات سياسية، حاول النظام وداعميه استغلالها لاكتساب شرعية أكبر على الصعيد الإقليمي والدولي ولو على حساب الشعب وآلامه.
إلا أن الزلزال السياسي لم يكن أقل أهمية من الإنساني فقد اندفعت الدول العربية والخليجية صاحبة الثقل الجيوسياسي والتاريخي للتطبيع مع الأسد بزيارات متبادلة توالت منذ زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى سلطنة عمان في شباط 2023 مستغلا الكارثة الإنسانية التي حلت بسوريا وقد سطرت هذه الزيارة، الأولى من نوعها منذ اندلاع الثورة، حقبة جديدة من العلاقة الرسمية بين النظام السوري والدول العربية.
تبعت هذه الزيارة مجموعة زيارات رسمية في الاتجاه نفسه من زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى الرياض في نيسان وإصدار بيان من عمان في أيار حدد بموجبه مسار التطبيع العربي مع الأسد. بعدها جاءت دعوة الأخير إلى الجامعة العربية التي حضرها الأسد في الشهر نفسه. لم يكن التطبيع العربي وحيدا، بل تصاحب مع تطبيع تركي مع النظام.
لم تكن هذه فقط هي التحركات، بل تبعتها مجموعة أخرى سرية وعلنية إلا أن المشكلة كمنت في أن النظام السوري أظهر استغناء عن تقديم تنازلات للأطراف كافة سعيا نحو المغانم دون دفع أي ضريبة وهو ما أدى لخيبات أمل، عربية خاصة، من مسار التطبيع وبالتالي عدم تقدمه بانتظار مسار ثان وهو العلاقات الإيرانية- الخليجية (خاصة السعودية) والتي يعتبر الملف السوري أحد أعمدتها.
الهدوء الحاصل يؤكد بأن خطوط التماس النفسية والشعبية ضد النظام لا تزال قائمة وقابلة للتطور نظرا لكون جل الاتفاقات المبرمة هشة ولا يضبطها سوى الإجماع الإقليمي والدولي على الحفاظ عليها حتى حين
هذا المسار السياسي الذي اعتقد في بدياته أنه سيصل لخواتيم سريعة اصطدم كذلك بقرار غربي، أميركي خاصة، غير متحمس للتطبيع مع الأسد، لتلتقي العوامل الداخلية مع الخارجية وتفرمل التطبيع العربي والتركي مع الأسد وهو ما تجلى كذلك بفشل نهج الخطوة مقابل خطوة الذي طرحه المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا.
بالإضافة إلى أنه لا يمكن الحديث عن عام 2023 في سوريا دون الحديث عن تسعّر الاحتجاجات الشعبية ضد النظام في السويداء والتي أثبتت أن الاستقرار في سوريا لم يكن يعني انتهاء الحقبة الماضية في النفوس ولم تكن تعني أن الصفحة طويت شعبيا بل العكس. إن الهدوء الحاصل يؤكد بأن خطوط التماس النفسية والشعبية ضد النظام لا تزال قائمة وقابلة للتطور نظرا لكون جل الاتفاقات المبرمة هشة ولا يضبطها سوى الإجماع الإقليمي والدولي على الحفاظ عليها حتى حين.
على صعيد المعارضة السورية، فقد تلقت ضربة قوية بالتطبيع العربي مع النظام وإغلاق مكاتبها في المملكة العربية السعودية واستبدال مقعدها في الجامعة العربية بالنظام نفسه في وقت أظهر الزلزال عجزا كبيرا لقيادات المعارضة عن إدارة شؤون المناطق المحررة والتي كانت أضرارها جسيمة دون أن يكون هناك تحرك سياسي إغاثي إعلامي مناسب لحجم الكارثة. كما أن الواقع عامة أظهر فشل قوى المعارضة في تقديم نموذج إنمائي مقنع للشعب السوري في تلك المناطق خاصة بعد سحب البساط من تحتها من قبل العمق العربي.
شهدت مناطق المعارضة كذلك استمرار محاولات هيئة تحرير الشام بتوسيع السيطرة وإعادة تقديم نفسها كحركة ليبرالية منفتحة لدرجة إقصاء قيادات منها وفصائل حليفة تضر بهذه الصورة التي أطلقها الجولاني بنفسه عبر تغيير مظهره من لباس عرفت به القاعدة إلى "المظهر الغربي". لكن الحقيقة والنظرة العامة الداخلية والخارجية للجولاني والهيئة لم تتغير وظل محسوبا على الجماعات الجهادية مع ربطهم بالقاعدة أقلها فكريا.
أما الحدث الأبرز مع نهاية العام فهي الحرب على غزة. هذه الحرب أظهرت أولويات النظام السوري وهي الحفاظ على نفسه وتقديم أوراق اعتماده للغرب وإسرائيل ولو كان ذلك على حساب شعارات المقاومة ووحدة الساحات التي غابت بشكل شبه تام مع غياب التفاعل السوري بشكل مع الأحداث على الرغم من توجيه الجيش الإسرائيلي لمجموعة ضربات قوية للنظام السوري وحلفائه على الأراضي السورية. أراد الأسد توجيه رسالة واضحة بأنه أهل لأن يمسك سوريا وخاصة جنوبها وبأنه قادر على ضبطها وحماية إسرائيل وهو ملف حساس بالنسبة لروسيا وأميركا على السواء.
هذه المشاهد العسكرية والسياسية صاحبها وضع اقتصادي مرعب على مختلف الأراضي السوري تسبب بارتفاع مستوى اللجوء السوري إلى لبنان والدول المحيطة وتفاقم معاناة المواطن السوري الذي لا يعرف كيف ستنتهي به الأحداث ومتى يمكن أن تنتهي رحلة المعاناة هذه.
الثبات الإجمالي في الخريطة العسكرية والسياسية أخفى في طياته ديناميات كبيرة قد تؤدي في العام 2024 إلى ارتفاع منسوب التغييرات مع شيء من الثبات في الخطوط العريضة والمشهد العام
إن المشهد العام وعلى الرغم من أنه لم يتعرض لتغيير كبير في الصورة الإجمالية إلا أن كل شيء فيه بدا هشا مع الاشتباكات المتبادلة على كافة الجبهات، الداخلية في مناطق المعارضة، المحاولات الإيرانية في التوسع على حساب التحالف الدولي شرق سوريا واندلاع اشتباكات بين قسد وعشائر عربية في المنطقة واشتداد الضربات الإسرائيلية في سوريا وارتفاع مستوى التطبيع العربي التركي مع الأسد على الرغم من تعثره أخيرا. إذا، فإن الثبات الإجمالي في الخريطة العسكرية والسياسية أخفى في طياته ديناميات كبيرة قد تؤدي في العام 2024 إلى ارتفاع منسوب التغييرات مع شيء من الثبات في الخطوط العريضة والمشهد العام.