نعى الشعب السوري، رياض الترك عميد المناضلين السوريين، من أمضى شطراً واسعاً من حياته في السجن دفاعاً عن حرية السوريين وحقهم في بناء بلد كريم.
ليست كلمة عادية أو عابرة أن تكون معارضاً سياسياً في ظل حكم حافظ الأسد أو نجله، والذي أخذ بعداً أمنياً وسلطوياً منذ اللحظة الأولى لاستلام حزب البعث للسلطة عام 1963، وأصبح حكماً فردياً عسكرياتياً ديكتاتورياً منهياً جميع الآمال بحياة مدنية تعددية ديمقراطية في سوريا حتى اندلاع الثورة السورية عام 2011.
ومع كل المخاطر الأمنية التي قد يواجهها أي شخص قد يعبر عن رأيه السياسي في سوريا، اتخذ رياض الترك موقفاً معارضاً للنظام العسكري منذ ستينيات القرن الماضي واستمر مصراً على موقفه نفسه حتى وفاته.
على درب النضال
ولد رياض الترك "أبو هشام" في حمص عام 1930، وعاش في دار الأيتام الإسلامية سنوات طفولته الأولى، ثم درس في كلية الحقوق. كان عمره لا يتجاوز الثانية والعشرين عندما ألقي القبض عليه أول مرة عام 1952 بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي؛ وظل رهن الاعتقال لعدة شهور تعرض خلالها للتعذيب.
ويقول الترك لقد كان التعذيب خفيفاً بالمقارنة بما استخدم فيما بعد. لم تكن هناك سوى غرفتين في القصر تستخدمهما قوات الأمن، أما الآن فهناك حصون تحتوي على سجون محصنة تحت الأرض تتسع لأعداد غير محدودة من السجناء.
في عام 1955 انضم الترك إلى الحزب الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش، وتميز بسرعة كمفكر وكاتب في صحيفة الحزب "النور"، واعتقل لفترة وجيزة لانتقاده نظام الرئيس أديب الشيشكلي.
وفي عام 1960، اعتقل مرة أخرى، وتعرض للتعذيب والسجن وكان السبب هذه المرة هو معارضته الوحدة بين سوريا ومصر في أوج حركة القومية العربية التي قادها الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر.
وعن ذلك قال الترك "لقد جاءت قوات الأمن المصرية بأساليب من التعذيب أشد قسوة من الأساليب المستخدمة من قبل؛ فقد استحدث أسلوب "الفلقة" وغيره، ولقي بعض المعتقلين حتفهم في الحجز من جراء ذلك".
في أعقاب انقلاب مارس / آذار 1963، سجن لفترة قصيرة قبل نفيه حيث انتقل إلى لبنان مع خالد بكداش، وبقي هناك حتى عام 1965 حيث عاد إلى سوريا.
اُنتخب "الترك" في المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري عام 1969 عضواً في المكتب السياسي، لكن سرعان ما ظهرت الخلافات بينه وبين الأمين العام للحزب خالد بكداش، حول العديد من القضايا الفكرية والسياسية والتنظيمية والتي تجلت فيما بعد بانشقاق أثّر في بنية الحزب الشيوعي نفسه.
في عام 1972، دعا حافظ الأسد لتأسيس الجبهة الوطنية التقدمية، كائتلاف للأحزاب السورية تحت مظلة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي سيقود الدولة والمجتمع وفق الدستور السوري لعام 1973.
في ذلك الوقت عارض رياض الترك بشكل حاسم الانضمام إلى الجبهة الوطنية التقدمية التي كانت بمنزلة اعتراف سياسي بحافظ الأسد بعد انقلاب تشرين الثاني (1970)، ما أدى إلى انشقاقه عن الحزب الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش، ليؤسس الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي).
18 عاماً في السجن
في عام 1978 طرح الحزب بقيادة رياض الترك برنامجاً ديمقراطياً يدعو إلى التَّغيير الجذري لبنية السلطة السورية القائمة. ثم تعرَّضت كوادر الحزب لموجات اعتقال طالت المئات من قياداته وكوادره وأعضائه لينتقل إلى العمل السري عبر نشر البيانات والمنشورات السياسية المحظورة، بعد انضمامه إلى تحالف المعارضة اليسارية السورية "التجمع الوطني الديمقراطي" منذ تأسيسه عام 1980.
تعرض رياض الترك للاعتقال في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 1980، بسبب زعامته للحزب الشيوعي - المكتب السياسي"، ومعارضته الصريحة للوجود السوري في لبنان؛ وخلال هذه الفترة أيضاً، قاسى صنوفاً أشد من التعذيب.
وعلى مدى السنوات الثماني عشرة التالية ظل الترك رهن الحبس الانفرادي بصفة شبه مستمرة، حيث كابد مشكلات صحية خطيرة، من بينها داء السكري وأمراض في القلب والكلية.
وبخصوص ذلك قالت زوجته أسماء الفيصل، وهي طبيبة سجنت هي الأخرى لمدة 20 شهراً بين عامي 1980 و 1982 "إنها لم تره لمدة 13 عاماً، ولم تكن تعرف مكانه يقيناً".
في عام 1987 وقع الترك في غيبوبة لمدة 25 يوماً بعد جلسة تعذيب شديدة، فقد على إثرها وعيه، إلى جانب التأثيرات النفسية والبدنية من طول مدة السجن الانفرادي.
وعن ظروفه في السجن قال "ابن العم" رياض الترك لصحيفة النهار في حوار نشر عام 1998 بعد الإفراج عنه بنحو شهرين وعمره آنذاك 68 عاماً، "كنت وحدي في غرفة انفرادية، ولم يكن هناك شيء، ثمة فتحة في الأعلى صغيرة كان يتسرب منها الضوء. أيضاً ثمة ما يشبه الفراغ فوق الغرفة، حيث يسحب الهواء الفاسد".
وأضاف "كنت محتجزاً فوق نظام عزل السجين عن الآخر بشكل تام. أدخل إلى الغرفة منفرداً وأخرج إلى الحمام منفرداً".
وتابع الترك "استطعت أن أتلاءم مع حياتي كسجين وليس السبب كونها حياة مريحة بل لأنني أدفع ثمن موقفي السياسي والنضالي. ولم أكن أعيش طوال فترة سجني كإنسان يتألم إلا لكون حريته قد احتجزت. تقبلت وضعي كسجين وتأقلمت معه رغم سوئه. اعترضتني ثلاثة أمور فيها عزلتي عن العالم، أولها هو موضوع العالم الخارجي، إذ عملت على القطيعة التامة معه. والقطيعة هنا هي قطيعة داخلية تفكيرية. فعندما يكون الإنسان وحيداً، منفرداً، ليس أمامه سوى أن يجلس ويفكر، أو يشرد تفكيره وشروده سينصبان على الماضي. هذا إذا لم يكن عنده ما يقرأه أو يعمله من الصباح حتى المساء ومن المساء حتى الصباح، فراغ الوقت هو مصدر صعوبة الوضع وسبب تأزم الحالة النفسية".
وفي لقاء عبر برنامج "المشهد" على شبكة "بي بي سي" العربية عام 2020، تحدث الترك عن سجنه قائلاً: إن "حافظ الأسد لم يسجني لوجود شيء شخصي، بل ببساطة لأنه يسجن كل من يعارضه حتى لو كان أقرب الناس إليه".
"مات الديكتاتور"
لم يكن رياض الترك يتوقع أن يطلق سراحه، لكن حافظ الأسد أصدر عفواً عاماً في أيار عام 1998، وكان الترك يبلغ من العمر 68 عاماً آنذاك، حيث كان يتصور أن السجن كسر عزيمته وأطفأ همته، ليخلد إلى الراحة بقرب عائلته التي حُرم منها، ولم يرها خلال 18 عاماً إلا ثلاث مرات فقط.
في عام 2000، توفي حافظ الأسد، وخرج رياض الترك على قناة الجزيرة بشكل مباشر قائلاً: "الآن مات الديكتاتور" بكلمة من النادر أن يتمكن أي شخص أن يتلفظ بها همساً في سوريا.
وبعدئذ بدأ النشاط الذي يعرف باسم ربيع دمشق، حيث شارك "الترك" مع الآلاف من الأشخاص، في منتديات سياسية تنبض بالحيوية والحماسة في شتى أرجاء البلاد.
وفي 17 كانون الثاني 2000، قال الترك في أول حوار سياسي بعد عام ونصف على إطلاق سراحه "خرجت من السجن الصغير إلى السجن الكبير، وعلينا جميعاً أن نسعى إلى فتح أبوابه"، وفق حوار مع صحيفة الحياة اللندنية.
وأردف "لم يبقَ للمجتمع إلا الصمت ليعبّر من خلاله عن وجوده وعن رفضه للوضع القائم، إذاً الصمت هنا موقف، لكن هذا الصمت لا يمكنه أن يدوم إلى ما لا نهاية، ولا بدَّ للمجتمع بقواه الحية من أن يفرز تعبيرات جديدة تنتمي إلى عالم البيانات والمواقف العلنية والفعل".
وقبل يومَين من خطاب القسم الرئاسي لبشار الأسد في أثناء توليه السلطة بدمشق، نشر رياض الترك في ملحق جريدة "النهار" مقالته المعنونة: "من غير الممكن أن تظل سوريا مملكة الصمت"، وانتقد فيها تفصيل تعديل الدستور ليناسب عمر الرئيس الجديد.
ولم تلبث السلطات أن عادت إلى الاعتقالات السياسية، فاعتقل رياض الترك في أيلول 2001، ثم حكم عليه بالسجن لمدة عامين أمضى منها 15 شهراً، ثم أطلق سراحه.
وفي واحدة من أبرز المحاكمات السياسية في سوريا، عقدت محكمة أمن الدولة العليا في نيسان عام 2002 جلسة علنية لمحاكمة الترك، حضرها عدد من الصحفيين والدبلوماسيين المعتمدين في دمشق، وانتهت المحاكمة يوم 26 حزيران 2002 بالحكم عليه بالسجن سنتَين ونصف السنة، بتهمة "الاعتداء على الدستور وإلقاء الخطابات بقصد العصيان وإثارة الفتنة، ونشر أنباء كاذبة توهن عزيمة الأمة ونفسيتها".
وأُفرج عنه لاحقاً في 16 تشرين الثاني 2002، وشاعت آنذاك في دمشق تسميته بـ"مانديلا سوريا"، لاقتراب الفترة التي قضاها في السجون مع فترة المناضل الأفريقي الشهير نيلسون مانديلا.
"الولد ما بيعمر بلد"
في العقد الأول الذي حكم به بشار الأسد البلاد، مرت سوريا والمنطقة بالعديد من الأحداث السياسية المهمة والمفصلية مثل الغزو الأميركي للعراق وانتفاضة القامشلي واغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري والعدوان الإسرائيلي على لبنان والعدوان الإسرائيلي على غزة، وصولاً إلى ثورات الربيع العربي.
خلال العشرية التي حكم فيها بشار الأسد، استمر رياض الترك في نشاطه رغم السجن والمحاكمات والملاحقات الأمنية، وفي عام 2005 كان الترك أحد أبرز الموقعين على "إعلان دمشق" الذي صدر بمبادرة من مجموعات معارضة سورية للمطالبة بالتغيير الديمقراطي في سوريا، ويشتهر أنه قال في إشارة إلى بشار الأسد "الولد ما بيعمر بلد".
وقف رياض الترك إلى جانب الثورة السورية منذ أيامها الأولى، مع معظم كوادر حزبه الذي حمل اسم "حزب الشعب الديمقراطي" منذ عام 2000، وكتب مقالاً قال فيه: "نعم، سوريا الله حاميها، لأنها باقية بشعبها وجيشها ودولتها. أما الاستبداد فإلى زوال، قصر الزمن أو طال، وإن غداً لناظره قريب".
وأضاف في تصريح آخر له: "ثورتنا سلمية شعبية ترفض الطائفية، والشعب السوري واحد. لا تنازل ولا تفاوض بشأن الهدف المتمثل بقلب النظام الطاغية".
وساهم حزبه في تأسيس المجلس الوطني السوري عام 2011، والائتلاف الوطني السوري عام 2012، وكان داعماً للجيش السوري الحر وتسليحه لوقف قتل السوريين.
ومع الزخم الكبير الذي رافق المظاهرات المدنية ثم سيطرة المشهد العسكري على الصورة في سوريا بعد العنف الذي قاده النظام، كان الترك يقيم متخفياً في بيت صغير بإحدى ضواحي دمشق، وبعد عدة محاولات من قبل أجهزة النظام لاعتقاله، قرر الخروج من سوريا، ليصل إلى الشمال السوري عن طريق التهريب، ومنه إلى تركيا، ثم عملت فرنسا على تنظيم انتقاله إلى أراضيها حيث ودع الحياة.
وفي حوار مع صحيفة "لوموند" الفرنسية قال رياض الترك في تشرين الأول عام 2018: "بعد الخلاص من الأخطار، وبتركي وراء ظهري هذا البلد الذي لم يعد أبداً يخصني، سلوت في البداية، ثم فارقني هذا الشعور، وما أحسست به حينئذ تختصره قصيدة للشاعر الشريف الرضي، حيث قال عند خروجه من بغداد:
ولقد مررت على ديارهم ... وطلولها بيد البلى نهبُ
فوقفت حتى ضجَّ من لغب ... نضوي ولج بعذَّلي الركبُ
وتلفّتتْ عيني فمذ خفيت ... عنها الطلول تلفّت القلبُ".
عنادٌ وثبات وحلم مؤجل
لم يرَ رياض الترك سوريا كما يريد ويتمنى، وفارق الحياة، رغم إصراره على قضاء عمر طويل خارج السجون، فعمّر حتى 93 عاماً، محافظاً على مواقفه وعناده في وجه الديكتاتورية والطغيان، أرجل في باريس وروحٌ تطوف بين حمص ودمشق.
جرب رياض الترك جميع أنواع الحقب السياسية في سوريا من فترة الاستقلال مروراً بالوحدة حتى انقلاب البعث وحقبتي حافظ الأسد وبشار الأسد، ورغم ذلك بقي مصرّاً على رأيه ومبادئه.
18 عاماً في السجن دفعة واحدة، معظمها في السجن الانفرادي لم تكسر فيه إرادته الصلبة، وإيمانه الراسخ بعدالة القضية السورية، وعندما خرج عاد إلى نضاله منتقداً توريث الحكم في بلد يطلق عليها "جمهورية"، ويعتقل ثانية على زمن بشار الأسد لأنه قال علانية عن "القائد الخالد حافظ الأسد" مات الديكتاتور، الذي كان يُظن أنه لن يموت.
سعى لأن يكون لسوريا صوت عال فرفع صوته ضد الاستبداد والظلم، ورغم كل العروض والمكاسب لم يغادر سوريا إلا بعد استحالة البقاء خارج السجن فخرج تهريباً.
ربما كانت أمنية رياض الترك أن يعود إلى سوريا يحكمها أبناؤها عبر صناديق اقتراع حرة، يعلو فيها صوت القانون والعدالة الاجتماعية، تضم جميع الآراء والأفكار السياسية، إلا أن الأجل كان أسرع، تاركاً الحلم المؤجل لبقية السوريين ليتابعوا الطريق حتى تحقيق غايتهم.
وهذا ما قاله رداً على سؤال صديقه الصحفي علي الأتاسي الذي كان سأله عام 2012 ماذا سيكون أول شيء يفعله رياض الترك فيما إذا انتصرت الثورة, كان جوابه: "إذا بقي مكان صغير على رصيف سوف أجلس فيه أشاهد وأصفق لشبيبتنا. وهذا سوف يكفيني".