لم ينجُ الأطفال في مناطق سيطرة نظام الأسد من الأزمة الاقتصادية التي تمر على البلاد، والتي انعكست بشكل مباشر عليهم من خلال فشل معظم الأهالي في تسجيل أبنائهم في رياض الأطفال، وذلك بسبب التكاليف العالية التي يطلبها أصحاب هذه "الروضات"، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المستلزمات التعليمية.
وتختلف تكاليف التسجيل في رياض الأطفال بين محافظة وأخرى، فعلى سبيل المثال يتراوح التسجيل في مدينة حمص بين 400 ألف ليرة سورية و600 ألف ليرة وفقاً لموقع الروضة والنشاطات التي تقدمها، بينما في مدينة حلب شمالي سوريا فتبدأ الأسعار من 600 ألف ليرة سورية وتصل إلى 2 مليون ليرة، وفي مدينة دمشق التي سجلت أعلى الأسعار بالنسبة للتكاليف، فوصل سعر تسجيل الطفل بإحدى الروضات في المناطق "الراقية" إلى 4 ملايين ليرة سورية.
هذه الأسعار دفعت بعض الأمهات العاملات إلى ترك أطفالهن عند جيرانهن أو عند أحد الأقرباء بدلاً من تسجيلهم في هذه الروضات مما حرم الطفل من حق التعلم واللعب، كأقرانه من نفس سنه في دول أخرى.
رياض الأطفال في مدينة دمشق وضواحيها:
جوليا العبد إحدى السيدات القاطنات في منطقة الميسات وسط مدينة دمشق، قالت لموقع تلفزيون سوريا، إنها اضطرت هذا العام إلى إلغاء فكرة تسجيل ابنها البالغ من العمر 5 سنوات في رياض الأطفال بسبب التكاليف الكبيرة التي طلبت منها في أثناء عملية التسجيل.
وأضافت: "لدي طفلة أخرى بعمر الثماني سنوات، وهي في الصف الثالث الابتدائي، لا يمكننا أنا وزوجي تحمل تكلفة تسجيل الطفلين، على الرغم من أن ابنتي في مدرسة عامة إلا أن مصاريف الملابس والقرطاسية استنزفت كل إمكانياتنا".
وأوضحت أنها وأثناء زيارتها لروضة قريبة من منزلها، لاحظت أن أعداداً قليلة من الأطفال كانوا فيها، وعزت ذلك إلى التكاليف العالية سواء للتسجيل أو لشراء مخصصات الطفل من أقلام تلوين ودفاتر وأوراق وغيرها من الطلبات التي تفرضها الروضات على الأهالي، والتي يصل مجموع ما قد يصرفه الأهالي على أبنائهم إلى أكثر من 600 ألف ليرة سورية".
وتابعت: إحدى صديقاتي طبيبة تمتلك عيادة في منطقة أبو رمانة، اضطرت لوضع ابنتها في روضة قريبة، كونها لا تستطيع اصطحابها معها ولا يوجد مكان تضعها فيه أثناء غيابها بسبب هجرة أفراد عائلتها، وأكدت لي أن تكلفة الروضة وحدها وصلت إلى 4 ملايين ونصف ليرة سورية سنوياً.
إحدى المعلمات في روضة بحي "المزة جبل" قالت لموقع تلفزيون سوريا وطلبت عدم ذكر اسمها: خلال السنوات الماضية كان يبلغ عدد الأطفال في الصف الدراسي الواحد أكثر من عشرين طفلاً، أما اليوم، فمعظم الصفوف مغلقة بسبب عدم وجود طلاب، واقتصرت الروضة على صفين دراسيين فقط الأول لعمر أقل من 3 سنوات، والثاني لعمر أكبر من ثلاث سنوات.
وأشارت إلى أن الروضة بدأت بتقديم تسهيلات لأهالي الأطفال مثل عدم فرض لباس موحد للأطفال، والتخفيف من النشاطات، حيث سابقاً كان يتم توزيع قصص على الأطفال، واليوم المعلمة تجلس وتقرؤها للأطفال، كما أن نشاطات الرسم والتلوين أصبحت أقل مقارنةً بالسابق، كما صار من الطبيعي أن تجد المشرف يضع أفلام الرسوم المتحركة للأطفال لإضاعة الوقت فقط.
وأضافت أن أسعار المازوت المرتفع أثر أيضاً على ارتفاع أسعار التسجيل في الروضات، حيث كان سابقاً سعره يكاد لا يذكر مقارنة برسوم التسجيل، أما اليوم، وبسبب أزمة المازوت، قررت إدارة الروضة رفع الرسوم وتشغيل مدفأتين فقط في الروضة، أي داخل الصفين الدراسيين فقط، ومنعت استخدام المكيفات أو المدافئ الكهربائية، باستثناء غرفة الإدارة.
وأشارت إلى أن معظم الأطفال في الروضة لأمهات عاملات، يضطررن إلى وضع أطفالهن في الروضة أثناء وجودهن وظائفهن.
وختمت حديثها بأن معظم روضات الأطفال في الأحياء الشعبية الفقيرة، أغلقت أبوابها بسبب عدم وجود أعداد كافية من الأطفال المسجلين لديها، بينما بدأت إدارات بعض الروضات يإقالة المعلمين لديها وتعيين آخرين من أفراد عائلاتهم، كنوع من تخفيف المصاريف.
تكاليف رياض الأطفال في مدينة حمص لا تختلف كثيراً:
في حمص كما في باقي المدن في سوريا تتراوح تكاليف الروضات بحسب المنطقة ونوعية الروضة والأنشطة المقدمة للطفل، حيث تبدأ تكاليف التسجيل من 400 ألف ليرة سورية وتصل حتى 600 ألف وذلك من دون احتساب ثمن الكتب والقرطاسية واللباس، التي تترواح بين 50 و 100 ألف ليرة، كما يتم دفع أجور النقل منفصلة وذلك بحسب مكان وجود الطالب، وتبدأ أجور النقل من 8000 وحتى 15000 ليرة شهريا.
أما في الرستن تنخفض التكلفة قليلا، فتبدأ التكاليف من 300 ألف ليرة، وأيضا من دون احتساب أي تكاليف إضافية.
الأستاذ أبوحسام، صاحب روضة في المدينة قال إن التكاليف تختلف بين منطقة وأخرى نظراً لعدة عوامل، كالضرائب، ونوعية المعلمين، وحجم النشاطات التي تقدمها كل روضة.
وأضاف أن ما يمنع معظم العائلات من التسجيل في الروضات هو عدم تناسب الدخل مع المصاريف، إذ إن مبلغ 300 ألف ليرة يعتبر رمزيا بالمقارنة مع تكاليف التسجيل قبل عدة سنوات، وبرأيه أن هذا المبلغ بالكاد يغطي مصاريف النشاطات التي تقدمها الروضة.
من جهتها، المعلمة رنيم، التي تعطي الدروس في روضة النسيم من مدينة تلبيسة، قالت إن تكاليف التسجيل في روضات ريف حمص لا يتجاوز في أفضل الحالات 400 ألف ليرة لفصلين كاملين، وعلى أقساط تبدأ بخمسين ألف ليرة، وعبرت عن عدم رضاها عن أجور المعلمات، التي لا تتجاوز 100 ألف ليرة شهريا، وهو مبلغ زهيد لا يتناسب مع الغلاء الذي يسيطر على البلاد.
أما عبدالكريم.ت أحد ذوي الطلاب قال إن تكاليف التسجيل ليست عالية بالنظر إلى ما تقدمه الروضات ولكن في الوقت ذاته لا يمكن لمعظم العائلات تأمينه، خاصة إن كانت العائلة تفكر في تسجيل أكثر من طفل واحد.
بينما امتنعت لبنى، أم لطفلين تحت خمس سنوات من تسجيل أطفالها، وقالت إن تكاليف التسجيل مع بقية الأجور ستصل إلى مليون ليرة على الأقل على مدار العام الدراسي ولا أستطيع تأمين هذا المبلغ، وحتى إن استطعت فأفضل صرفه على احتياجات المنزل الضرورية وسأقوم بتعليم أطفالي بنفسي.
الوضع لا يختلف كثيراً في مدينة حلب:
تكاليف التسجيل في رياض الأطفال في مدينة حلب ليست استثناء عن باقي المحافظات حيث تتراوح أسعار التسجيل بالروضات من 400 ألف ليرة سورية لتصل إلى مليون وسبعمئة ألف ليرة للسنة الكاملة.
ليليا الراضي سيدة تعيش في مدينة حلب وهي أم لطفلين، قالت لموقع تلفزيون سوريا: "ذهبت بداية العام الدراسي للبحث عن روضة قريبة من المنزل لتسجيل ابني الصغير فيها، وبدأت أولاً بالروضات القريبة من الحي الذي أقطن فيه لأوفر أجور المواصلات، إلا أنني صدمت من الأسعار المرتفعة التي تطلبها الروضات لتسجيل الأطفال".
وأضافت: "منزلي في حي يعتبر من الأحياء الراقية في مدينة حلب، وهذا انعكس على سعر التسجيل، فقد طلبت إدارة الروضة مني مليون و700 ألف ليرة سورية كرسوم للتسجيل، إضافةً إلى 15 ألف ليرة كأجور مواصلات مع العلم أن منزلي يبعد عن الروضة أقل من كيلو متر واحد".
وتابعت: "حاولت البحث في الأحياء القريبة الأخرى علني أحظى بسعر مناسب أكثر، إلا أن فرق السعر بين الروضات الأخرى والروضة القريبة من منزلي ضئيل، ووهذا الفرق سأعيد دفعه لسائق الحافلة لإحضار طفلي إلى المنزل، فاضطررت إلى تسجيله في الروضة القريبة".
وعند سؤالها عن أسعار التسجيل في رياض الأطفال في المدينة أكدت أن الأسعار متقاربة، وتعتمد على عدد الطلاب الموجودين في الصف الواحد، إضافةً إلى موقع الروضة، والنشاطات التي تقدمها للأطفال، حيث في بعض الروضات التسجيل فيها منخفض ولا يتعدى الـ400 ألف ليرة سورية، إلا أنهم يضعون الأطفال في غرفة مع عدد من الألعاب، ويتركونهم يلعبون حتى نهاية الدوام، أو يضعون أغانيَ على شاشة تلفزيون داخل الصف لإلهاء الأطفال، أما الروضات ذات التسجيل المرتفع، فهناك اهتمام أكثر بالطفل، من خلال نشاطات الرسم والموسيقا والمسرح والسباحة، إضافة إلى تعليمهم كتابة الأرقام والحروف العربية والإنكليزية وقراءتها".
الأهالي يفضلون تعليم أطفالهم في المنزل
من خلال لقاءات أجراها موقع تلفزيون سوريا مع عدد من الأهالي أجمع معظمهم أن الأسعار المرتفعة التي تفرضها رياض الأطفال، جعلتهم يعزفون عن تسجيل أبنائهم فيها، واتجاههم إلى تعليم أطفالهم ذاتياً في المنزل، وتقديم نشاطات منزلية لهم، حيث فضل معظمهم تأمين مستزلمات المنزل من غذاء ولباس على تسجيل أبنائهم في هذه الروضات.
ولوقتٍ قريب كانت الأمهات السوريات يتجهن إلى تسجيل أبنائهن في رياض الأطفال التابعة للاتحاد النسائي التابع لنظام الأسد، بسبب رسومه الرمزية مقارنةً برياض الأطفال الخاصة، إلا أن رئيس النظام في سوريا بشار الأسد أصدر مرسوماً بحل الاتحاد في نيسان 2017، فأغلقت بعد إصداره جميع هذه الروضات.
الأزمة الاقتصادية في سوريا
ويعاني السوريون في مناطق سيطرة النظام من أزمة اقتصادية حادة، حيث لا يتناسب الراتب الذي تفرضه حكومة نظام الأسد مع مصاريف المعيشة، حيث كشف الباحث الاقتصادي عمار اليوسف لموقع "المشهد" الموالي منتصف أيلول الماضي، أن "نحو 92% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر المدقع، الذي ينطبق على كل شخص دخله اليومي أقل من 1.10 دولار".
وأوضح أنه "اعتمد على هذه النسبة باعتبار أن متوسط أجور السوريين في سوريا نحو 60 ألف ليرة في الشهر، بينما يعيش 3% منهم تحت خط الفقر، أما الطبقة الوسطى فوصلت نسبتها إلى 3%، أما طبقة الأثرياء فلا تتجاوز 2%".
وسبق أن أكدت صحيفة "قاسيون" التي يديرها وزير سابق في حكومة النظام مقرب من روسيا، نهاية أيلول الماضي، أن تكاليف الغذاء الأساسية للأسرة ارتفعت بنسبة 40% عن مستوى مطلع شهر نيسان 2021، وانتقلت من 550 ألف ليرة للأسرة شهرياً، إلى 766 ألف ليرة، وأن تكاليف معيشة أسرة من خمسة أشخاص في دمشق ارتفعت في منتصف عام 2021 لتصل إلى مليون و240 ألف ليرة سورية.