الحديث عن علاقة بين الرياضيات والفنون لا ينطلق من طبيعة الرياضيات وتفاصيلها العلمية البحتة من جداول ورموز ولوغاريتمات... إلخ. بل من خلاصة ذلك كله على الصعيد الفكري، حين ننظر إلى الرياضيات كعملية ذهنية معقدة قائمة على التجريد وتحويل الأفكار إلى رموز وأرقام في تناسق دقيق مبنيّ بناء هندسيّا متقنا.
هذا الأمر يندرج في مشاغل الفلسفة التي كما توصف بأنها (أمّ العلوم). أي أنها تبحث في المشترك بين العلوم والفنون جميعها بطريقة لا شكّ أنها معقدة وشائكة. والأمثلة لا تحصى من تاريخ البشرية التي تفيد في وجود فلاسفة هم علماء رياضيات وهندسة وأدباء ولاهوتيون أحيانا.
إذاً يمكن رؤية معنى الرياضيات كمنهج دقيق وواضح الأسلوب، في عدد من الفنون الجميلة مثل الموسيقا والعمارة واللغة الشعرية. نعم اللغة الشعرية، من حيث ضرورة بنائها بوعيٍ صارم، وملاءمة التصورات الشعرية والخيالات الشاطحة لعدد من الكلمات لا تشتطّ ولا تنداح لتسقط في مرض التداعي واللغو الذي يعاني منه شعرنا، كصورة منعكسة عن حياتنا كلها. تتجلى الرياضيات هنا في ضرورة تحقيق انسجام عالٍ ومتناسق بين عائلة الكلمات التي هي أداة عمل الشاعر، بحيث يصون الشاعر تدفقاته اللغوية من الذهاب نحو العشوائية واللامعنى.
لا يمكن للمدقق أيضا أن يفصل عبقرية اكتشاف الوزن الشعري بالنسبة للعرب على يد الخليل الفراهيديّ، عن حسّه الموسيقيّ المرهف والمذهل. والعارف بعلم العروض والتقطيع سوف يكتشف العلاقة بين رياضيات الكلمات وموسيقاها معاً في الوقت نفسه. فالبحور الشعرية هي معادلات رياضياتية صارمة لا يجوز الخطأ فيها، وهي عملية حسابية ذهنية مشبعة بالإيقاع الموسيقيّ الذي لا ينفصل عن إيقاع المعنى. وكانت العرب تأخذ على الشاعر ما يسمى (الحشو) والإطالة التي لا طائل منها من أجل تعبئة فراغات ليس إلا. كان هذا يعتبر ضعفا في مهارات الشاعر.
ومن منظار فلسفي شموليّ سوف يعثر الباحث على تقنيات مشتركة بين الوحدات العروضية وبين العلامات الموسيقية التي ينوّطها المؤلّف ليصنع منها لحنا. بل إن الموسيقا التي هي أشدّ الإبداعات علاقة بالتجريد ما هي إلا إبداع رياضياتيّ فائق السحر والدهشة. إن كمية الدقة والانسجام الكامنة في عمق الموسيقا هي ما يتحدث عنه علماء الفيزياء أيضا حين يشرحون المتعة والجمال في العمليات الفيزئاية وفي حركة المادة وكيفية تخلّق الكون وكل ما يرتبط بذلك من قانون خفيّ غير قائم على الصدفة والفوضى. في الفنون جميعها لا بدّ من نظامٍ هو وحده ما يحفظ جوهر الإبداع من الفلتان والتخبّط.
في الموسيقا هناك معمارٌ رياضياتيّ من خلال اعتماد المؤلف أيضا على سلّم موسيقي هو نفسه يحتوي على علامات موسيقية يستعان في ترميزها بالأعداد. الأعمالُ الكلاسيكية العالمية شديدة الدقة في توخّي الانضباط والتقدير الرشيق من أجل التقاط جموح الروح الموسيقية المجنونة، في تكوينات محددة لا تعرف الشتات.
كثيرا ما كان الموسيقار محمد عبد الوهاب يصرّ في حواراته كلها على أن الفارق بين الموسيقا الغربية والشرقية، أن الغربية فيها فكرٌ، فيها عمارةٌ وبناءٌ، على عكس موسيقانا لهذا كان مشروع عبد الوهاب الموسيقيّ أن يخرج من النسق التقليديّ الرتيب القائم على الميوعة في الاستطرادات التي لا تقول شيئا، فراح يبني موسيقاه بناء هندسيا متقنا وكأنه ينسجُ علاماته الموسيقية بحساباتٍ دقيقة لا مجال فيها للتلكؤ والشطط.
الأمر نفسه ركزت عليه الباحثة الموسيقية الجزائرية عائشة خلاف التي تجد أنه في الموسيقا يوجد (نظام فكريّ)!
لاشكّ أن المؤلف الموسيقيّ ومثله الشاعر لا يكتب بتخطيط عقلاني واضح، ولكنه مع التجربة والتراكم ينبغي عليه تقليم أظافر قصائده بقسوة، لكي لا يختبىء تحتها وسخُ التداعيات المجانية والاستطرادات العشوائية. ويصبح لديه الخبرة الباطنية اللاواعية لمراقبة قصيدته حتى وهو في حال الانخطاف والسحر.
الشعر الإيقاعي تحديداً متصل بهذه السمة الرياضياتية أكثر لتوفّره على عنصر الوزن، القائم على عدد محسوب من الأحرف والحركات والسكنات. بناء السوناتة بناء عدديّ واضحٌ، بناء شعر الهايكو أكثر دقّة وتكثيفاً بهذا الخصوص، لا يمكن فيه زيادة مقطع صوتي آخر على القاعدة.
سعيد عقل كان يتحدث عن فضل معرفته بما يمكن أن نسميه الآن روح الرياضيات، أو جماليتها، في كتابة قصائده المختصرة جُملاً ومفردات، حتى بات سعيد عقل معلّما باهرا في تنقية قصائده من الحشو، لا سيما قصائده ذات الأوزان القصيرة والخفيفة، التي يتألف منها البيت من خمس كلمات لا غير، يمكنه أن يعبّىء في هذه الكلمات القليلة ما يشاء من الفكرة والمعنى والصورة.
أكثر النقاط التي تلتقي فيها الرياضيات مع الموسيقا، هي في مسألة التجريد، حتى يمكن القول إن النوطة الموسيقية هي عمليات رياضياتية مجردة
إن التداعيات والحشو في أي عمل فني، حتى في هندسة العمارة، التي لا تخلو أبدا من الحسابات الدقيقة، هذه التداعيات هي ضعف وهشاشة تنتاب عمق العمل الفني، وتظهره بمظهر ناقص من حيث القيمة الجمالية. الجمال هو تكامل وانسجام وأناقة، ولا يقبل الخلل.
يقال إن فيثاغورث الرياضياتي الأقدم، كان يقدس الرقم 10 لأنه يعني الكمال، كان يرى أن العالم مبنيّ من العلاقة الوثيقة بين العدد والنغم... وفكرته المختصرة: إن كل شيء في الوجود متعلق بالرياضيات... ويرى البعض أن فيثاغورث كان نبيّا.
أكثر النقاط التي تلتقي فيها الرياضيات مع الموسيقا، هي في مسألة التجريد، حتى يمكن القول إن النوطة الموسيقية هي عمليات رياضياتية مجردة. التجريد هو رفع الفكرة إلى مفهومٍ لا يدرك بلغةٍ مرئية محسوسة، أو لا يمكن للمجرد أن يكون محسوسا، هو فضاءٌ سابح في ملكوت الخيال الأعلى، يستعين الإنسان من أجل إدراكه بالرموز والإشارات، تماما كما يفعل رجل الرياضيات ورجل الموسيقا. هنا حيث البراهين الرياضية والأعمال الموسيقية المسموعة. شخصيا لا أحسد أي صاحب جنس إبداعيّ ولا يحيّرني ويدهشني مثل الموسيقيّ، فنحن نسمع موسيقاه عبر الهواء، تصدرها آلاتٌ مختلفة، السؤال الذي يحيّر كيف وصلت قدرته الخارقة على التجريد وهو يؤلّف لنا هذه الأصوات حين كان يرسمها علامات ورموزاً على الورق؟ كيف يتمكن من تقديم هذا اللامرئيّ وهو يكتبه فقط؟ ومثل ذلك بالضبط مقرىء القرآن، الذي يحوّل الكلمات أمامه إلى موسيقا، ويتفنن بتنويعها وتنغيمها حسب مقاماتٍ موسيقية بالأساس. وكثيرا ما كان يتبارى مقرئون كبار مبدعون في تقديم السورة نفسها، أو الآيات نفسها من سورة ما، ويتنافسون على من يكون الأفضل والأكثر امتلاكاً للحضور الموسيقي والجلال الرباني المبثوث في اللغة القرآنية.
كان الشعراء الرمزيون في فرنسا ينشغلون دائما بالموسيقا، "بول فاليري" كان يريد أن يستردّ من الموسيقا ما ضيّعه الشعراء، وكان "مالارميه" يرى أن موسيقا "فاجنر" هي قمّة المطلق المرعبة! "مالارميه" أراد في قصائده تقديم تجربة قمة المطلق هذه، فلجأ إلى التجريد كثيراً، وزوّجَ ذلك بالموسيقا. لذلك نلمح في لغته ذلك الغموض العالي، ولا سيما أن معظمنا يقرؤه مترجما، بمعنى أن عنصر الموسيقا سيذهب كليةً مع الترجمة. وهو كان يعتمد الموسيقا كحامل أساسيّ للتجريد.
مهما قدّم الشاعر المجرّدَ يبقى هناك مفاتيح مرئية هي عبارة عن كلمات وصور وعبارات، ثم إن استغراقه في المجرد فقط نقطة ضعفٍ في موهبته وعمله الشعري. محمود درويش كان أفضل شاعر أقام سحرَ التوازن بين المجرّد والمحسوس في شعره، حتى إنه التقط أرواح القراء من خلال كيفية تحويله المجرد إلى محسوس وكأنه قطعةٌ مادية بين يدي القارىء. ولا ننسَ كيف كانت تجربته مكوّنةً من عدد من المميزات، أبرزها الموسيقا، التي امتلكَ جماليتها كما لم يفعل كثير من الشعراء في ثقافتنا.
ربما كان من أهم أسباب الإبهام في بعض من نتاج شعر الحداثة، أنه استغرق في المجرد كثيرا، وأهمل عملية توازن المجرد مع المحسوس. رغم أن لذلك مبرراته خاصة إذا كان هناك قناعة بطبيعة شعرية ذات مزاج سوريالي مشوش معين في التعاطي مع اللغة الشعرية ومقتضياتها؛ رغم أن لذلك أيضا جمالياته الخاصة، لكنها جمالياتٌ لن تكتشف إلا عبر أساليب قراءة خاصة وليست جماهيرية!
في اللغة الشعرية لا يمكن الركون إلى المجردات وحدها، أو إلى ما عرف بلغة الرؤيا، والميتافيزيقيا. فهذه سوف تجعل من النشاط الشعري مشغولاً بنموذج فيه تعالٍ عن التواصل. وليس التواصل بالضرورة هو أمرٌ جماهيري، بل إن الأدب كله ينبغي أن يحقق تواصلا مع الآخر.
كان محمود درويش الذي ليس واضحا هو الآخر، بل مشبع بالغموض، صاحب غموضٍ يتسرب إلى المتلقي كسحرٍ خالص، لأنه لعبَ على ترسيخ ثنائية (المادي والروحي) (المجرد والمحسوس) معاً في نفس الإنسان. كثيرون لا يفهمون شعره على وجه التحديد، لكنه يوهمهم بأنه مفهوم وواضح لهم. إنه صاحب مكائد شعرية خاصة، يوقع بها المتلقي في لذّة الجمال المطلق. إن رياضيات شعر درويش نموذج فريد للتواصل والتداول. فهو خير من صنع هندسة اللامرئي حين يكون مرئيّاً.