كما أنَّ البكاء والتفجُّع على رحيل الشاعر نادر شاليش "شاعر المخيمات والنزروح" كان حالة شعبية عامة وعارمة ومفهومة، فإن التجاهل أو شبه التجاهل النخبوي للراحل؛ كان أمراً يمكن فهمه وتفسيره وفق نظرية الأدب الرسمي والأدب الشعبي.
نادر شاليش الذي رحل عن عمر تجاوز الثمانين، اشتهر بين الناس في سوريا وخارجها بقصيدة واحدة، مطلعها "أرسلت روحي إلى داري"، على أن له مجموعة قصائد أخرى ضمها ديوان غير مطبوع بعنوان "أطميات" نسبة إلى مخيم أطمة الذي استقر به الشاعر بعد تهجيره من قريته في ريف حماة، وهناك وقف الشاعر روحه ظل يتفجع ويتفطر قلبه حزناً على فراق داره التي لا ناقة ولا جمل له بغيرها من مساكن الأرض، كما يقول في قصيدته ذائعة الصيت.
القصيدة الممزوجة بدموع الشاعر وغصته، والتي انتشر تسجيل مرئي بسيط لها، تم تسجيله بكاميرا هاتف جوال، عبرت الآفاق واستقرت في قلوب الناس المهجرين والنازحين والمتعاطفين معهم، وتجدد الاحتفاء بها وبصاحبها عند رحيله منذ أيام، فلقي الرجل حفاوة شعبية بالغة في فترة نزوجه وعند رحيله، إلا أن الأدب الرسمي النخبوي لم يجد ما يكتب عنه، وهذا يبدو مفهوماً ضمن المعايير التي يقوم عليها ذلك الأدب، فالراحل ليس له كتب مطبوعة أو أثر نقدي أو مشاركات في تظاهرات ثقافية.. حتى قصيدته الشهيرة وغيرها من شعره عليه ملاحظات كثيرة في اللغة والنحو والعروض، وهي الأدوات الأولية البسيطة التي يجب أن يمتلكها النظّام فضلاً عن الشاعر.
فإلى أي جانب يميل الراحل نادر شاليش وتجربته الأدبية؟ وما بين الثقافتين الرسمية والشعبية حدودٌ مسيجة وجدران مرصودة، وإن كانت الحدود تُفتح أحياناً والجدران تنهدم أو تنحني في أحايين أخرى.
وكلاهما كان ضرورة لا تغني عن الآخر ولا تأخذ مكانه، وإن كانتا تتمددان وتنحسران وفقاً لسياقات سياسية واجتماعية وحضارية، إلا أن هذا كله لا يسوّغ الاشتباك الذي يحصل بينهما أو يُصطنع، فاتهام الثقافة الشعبية على إطلاقها بالسطحية والسوقية ينفيه التاريخ والواقع، فهي كانت على الدوام مادة رئيسةً في تشكيل الوعي الجمالي والخيال والبيئة الفنية للمثقف الرسمي، وكانت كذلك جزءاً أصيلاً من بنيان مادته الثقافية التي لا يمكن إلا أن تَصدُرَ عن ذاتية شكَّلتها أو أسهمت في تشكيلها الثقافة الشعبية بشكل أو بآخر.
ومن الأساطير؛ إلى السير الشعبية إلى القصيدِ والنكات والشخصيات الخيالية التي نستعين بها على فقر الحقيقة، أنتجت الثقافة الشعبية إرثاً عظيماً لا يمكن اختزاله بالفلكلور والآداب والفنون المحلية.. ولعلها لقنت المثقف الرسمي درساً من حيث لا يحتسب، فبينما تدعو النخبة بلا انقطاع إلى تعزيز الضمير الجمعي لتحسين جودة الحياة والمجتمع، أنجز الأدب الشعبي المهمة منذ زمن، فأنتج أدباً جماعياً بدا وكأن الشعب هو من كتبه، فلا أحد يعرف أسماء مؤلفي السير الشعبية والنكات والأمثال والحكم الشعبية، بينما يقف الأدب الرسمي بحزم عند حقوق الملكية الفكرية ويسن لها القوانين الرادعة، ذلك أنه إنتاج فرديٌّ بُذل فيه عمر كامل.. أما الأدب الشعبي فهو ملك الشعب، ولعله أول وأصدق وسيلة إنتاج تعود ملكيتها للشعب؛ بلا قرار سياسي أو قدرة من أحد على انتزاعها.