يغيب البيع النقدي بشكل شبه كلي في المراكز والمحال التجارية بمختلف أنواعها، في مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي، حيث تحوَّل تأمين احتياجات المعيشة اليومية إلى دفاتر دين ينظمها الباعة والتجار للأهالي الدائنين، بعدما أضحى الدَّين أسلوباً للتحايل على مشقة الظروف الاقتصادية والمعيشية التي تحكمها العديد من العوامل، التي باتت تعصف في المنطقة وتجرها إلى الهاوية.
يجلسُ مجد الفيصل خلفَ طاولةٍ في متجرٍ للمواد الغذائية يقع في مدينة مارع بريف حلب الشمالي، نهاية كل شهر لإحصاء مبالغ زبائنه الدائنين، وفقاً لرقم تسلسلي يعرفه الطرفان لاختصار وقت البحث في أثناء عمليات الشراء المعتادة خلال أيام الشهر الطويلة.
يبيع الرجل في المتجر مختلف أنواع المواد الغذائية الاستهلاكية بشكل يومي والألبان والأجبان، ومواد المونة، بالإضافة إلى المنظفات والأدوات المنزلية، لكن مع تراجع نسبة البيع النقدي إلى مستويات قياسية، أجبر على فتح دفتر دين لعدد من الزبائن الذين يملكون مرتبات شهرية معظمهم عاملون في القطاعين العام والخاص.
وقال الفيصل خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا": "إن نسبة البيع النقدي للزبائن قليلة، مما أجبرني على فتح إمكانية بيع المنتجات بالدين، بعدما أصبحت دفاتر الدين دستوراً عند معظم الباعة، ولا يمكن التخلي عنه إطلاقاً في ظل الظروف المعيشية الحالية ومن لا يدين الناس لا يمكنه الاستمرار في عمله التجاري".
وأضاف "أن الدائنين معظمهم من الموظفين الذين يحصلون على مرتبات شهرية ولا تغطي احتياجاتهم المعيشية، ويضطرون لاستدانة احتياجاتهم بشكل دوري، وفي نهاية كل شهر يغلقون حساب الديون المترتبة عليهم في حين نسبة كبيرة لا تستطيع إغلاق الحساب بشكل كامل ما يتسبب في تراكم الديون مما يؤدي إلى وقوع الدائن في محنة صعبة".
وتتوزع أسماء مئات الأشخاص الذين لديهم حسابات بين متاجر المواد الغذائية ومحال الخضراوات والخبز والمحروقات والماء والصيدليات، ولا يستطيع الدائنون سداد الديون المترتبة عليهم ما جعلها تتراكم لعدة أشهر على التوالي، وبعضها يفوق السنة، مما يجبر البائع على منعه من الشراء بالدين، ريثما يتم سداد الديون السابقة، ويسير معظم الباعة على هذا المنوال.
ديون متراكمة
ينتظر المعلم أحمد الحمدو، بالقرب من فرع مؤسسة الـ (PTT) التركية في مدينة مارع بريف حلب الشمالي، ضمن طابور مع عشرات المعلمين والمعلمات الموظفين في القطاع العام، ريثما يصل دوره لصرف مرتبه الشهري بعد مرور الأسبوع الأول من شهر حزيران / يونيو الجاري.
اعتاد الحمدو الذي ينحدر من قرية الحميدية الواقعة في ريف حلب تسلُّمَ مرتبه الشهري الذي كان يبلغ في بداية عام 2023، قرابة 1925 ليرة تركية والتي تعادل 107 دولارات أميركية، وتوزيعه على بائع المواد الغذائية وبائع الخبز والخضراوات والمحروقات والصيدلية، فضلاً عن فواتير خدمات الكهرباء والماء والإنترنت، من دون قدرته على إغلاق حساب الدين بالكامل ما يتسبب في تراكم الديون.
يقول الحمدو خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا": "إن الراتب لا يمكنه تغطية نفقات أسرتي في تأمين احتياجات المعيشة، ما يضطرني إلى فتح حساب دفتر دين عند المحال التي تبيع المواد الاستهلاكية اليومية، ورغم ذلك لا أستطيع سداد الديون بالكامل".
وأضاف: "أن راتبه انخفض من 107 دولارات أميركية إلى 81 دولارا أميركيا، نتيجة تغير سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار خلال خمسة أشهر تقريباً وتجاوزها عتبة الـ 23.5 ليرة لكل دولار، مما ساهم في تفاقم الأوضاع المعيشية، مشيراً، إلى أن ديونه التراكمية تفوق 500 دولار أميركي بعدما استدان من أقربائه لكي يغلق حساباته في المحال التجارية.
ولا يختلف حال معظم الموظفين العاملين في القطاع العام في ظل انخفاض الأجور وتدهور الليرة التركية وعدم استقرارها مع ارتفاع أسعار السلع والمنتجات، في حين تبقى فرصة حصول العاملين في المياومة والورش الفنية والبنائية نادرة في الحصول على دفتر دين عند أحد الباعة كونه غير قادر على سداد حتى جزء بسيط من الدين.
حياة معيشية متردية
يعيش الأهالي في مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي، في ظروف معيشية متردية للغاية، متأثرة بالعديد من العوامل التي كانت سبباً في ازدهار دفاتر الدين وتراجع البيع النقدي لدى مختلف المراكز التجارية في المنطقة مما عكس واقع التضخم وتراجع القدرة الشرائية لدى الأفراد.
وتعتبر منطقة ريفي حلب الشمالي والشرقي منطقة زراعية يعتمد سكانها على الزراعة بشكل رئيسي، لكنها تراجعت خلال الأعوام القليلة متأثرةً بالعوامل المناخية والتغيرات الجوية، فضلاً عن تحديات التصريف والتسويق بين مناطق السيطرة المختلفة.
في حين تعد الصناعة من النشاطات المستحدثة في المنطقة، والتي تزامنت مع بناء المناطق الصناعية، لكنها حتى الوقت الحالي لم تحقق النجاح المأمول في تشغيل أكبر عدد ممكن من الأيادي العاملة في ظل أجور زهيدة يتقاضاها العاملون وهي لا تتناسب مع مستوى المعيشة، كما تتحكم العديد من الظروف العسكرية والاقتصادية في تأمين المواد الأولية والتسويق والتصدير.
كما تعمل نسبة كبيرة من الناس في القطاعين العام والخاص، لكنهم يتقاضون أجورا زهيدة لا يمكنها تغطية نفقات العائلة فهي لا تتجاوز في أحسن أحوالها عتبة الـ 100 دولار أميركي، في ظل تدهور الليرة التركية التي يتم التعامل بها محلياً.
ويشكل النازحون والمهجرون أكثر من نصف سكان ريف حلب، ومعظمهم لا يملكون شيئا وتوزعوا على المخيمات والبلدات والمدن التي يعتمد سكانها على الزراعة كمصدر رزق رئيسي، لكن النظام دمر البنية التحتية للزراعة، فضلاً عن التغيرات المناخية التي تسببت في جفاف الآبار نتيجة الاستهلاك العشوائي للري، ما تسبب في انهيار القطاع الزراعي، بحسب ما أوضح وزير المالية والاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة.
وقال الوزير خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا": "إن السكان الأصليين والنازحين والمهجرين من مختلف المحافظات السورية يعيشون في ظروف معيشية صعبة، مع تفاقم البطالة وغياب مصادر الدخل وانخفاض الأجور لدى الأفراد الذين يحصلون على فرصة عمل، ما تسبب في خلق فجوة كبيرة بين الدخل والنفقات".
وأضاف: "أن الأسرة المكونة من خمسة أفراد وما دون تحتاج إلى 270 دولارا أميركيا شهرياً، للعيش بالحد المقبول، بينما يقدر الحد الأدنى بـ180 دولارا أميركيا، وهي لا تغطي كل احتياجات المعيشة للأسرة، لكن الواقع يوحي بأن الدخل لدى شريحة واسعة من الناس لا يتجاوز 100 دولار، لذلك يضطر بعضهم إلى العمل في مهن متعددة والتعامل بالدين مع مختلف الباعة".
تراجع القدرة الشرائية
من جهته الباحث الاقتصادي يحيى السيد عمر يرى أن تراجع القدرة الشرائية للأفراد يعد سببا رئيسا لارتفاع معدل الدين، خاصة أنها مترافقة مع تضخم حاد، وهو ما يعني أن المشكلة في تفاقم مستمر، أجور تتدنى باستمرار وأسعار ترتفع، وهو ما يدفع الأفراد للاستدانة، وما يدفع مالكي الفعاليات الاقتصادية لقبول البيع بالدين بهذه الكثافة، لا سيما أن نسبة الأفراد القادرين على الشراء النقدي قليلة، لذلك لا بد من قبول التعامل بالدين حتى لا تخرج هذه الفعاليات الاقتصادية من السوق، سواء أكانت محلا صغيرا أو صيدلية أو أي متجر آخر، فالاستدانة مفروضة على المشتري والبائع معاً.
وقال السيد عمر خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا": "إن الدلائل الاقتصادية للتعامل بالدين، تشير إلى التضخم المرتفع وإلى الكساد في الوقت نفسه، وهو ما يعني أن المنطقة تعاني من ركود تضخمي واضح، وهو ما يترك آثاراً اجتماعية وإنسانية قد لا يكون علاجها سهلاً، ويخشى أن تؤثر على البنية الاجتماعية للمجتمع المحلي".
وأضاف: "أنه في حال استمرار الواقع الاقتصادي الحالي، واستمرار اعتماد الأفراد والأسر على الاستدانة، سيقود هذا الوضع إلى عدة نتائج، أولها خسارة أصحاب الفعاليات الاقتصادية وربما إفلاسهم، وفي حال خروجهم من السوق ستزيد نسبة البطالة والفقر، ثاني النتائج زيادة مخاطر انعدام الأمن الغذائي وارتفاع معدل الفقر والفقر المدقع وزيادة ظاهرة عمالة الأطفال والتشرد وغيرها من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية".
وعن الحلول المقترحة، أوضح أن الحل، هو تحسين مستوى الدخل وزيادة معدل الأجور، ودعم مصادر الدخل المتاحة من خلال المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، وهذه الحلول تحتاج لمناخ اقتصادي وسياسي وأمني مستقر، وهي غير متهيئة حالياً، فالحلول كلها مرتبطة بإيجاد حل سياسي للقضية السورية، كما أن المساعدات الإنسانية قد تسهم بتخفيف حدة الظاهرة ولكنها لا تعد حلاً حقيقياً، فالحل في معالجة جوهر المشكلة وليس التعامل مع النتائج.
ولعل من أبرز الحلول الإسعافية التي يمكن أن تساعد في القضاء على مظاهر الفقر في المنطقة، توفير بيئة آمنة في الشمال السوري، تضمن حياة معيشية مستقرة إلى حدٍ ما، وذلك من خلال زيادة أجور العاملين في القطاعين العام والخاص، بما يتناسب مع الحد المقبول للمعيشة، فضلاً عن تأمين فرص عمل لمكافحة ظاهرة البطالة من خلال التشجيع على الاستثمار الصناعي والتجاري، وإتاحة المجال أمام التجار في تصدير وتسويق منتجاتهم إلى الخارج، وفي حال لم تتم معالجتها فإن الشمال أمام هاوية غير واضحة المعالم.