لم يعد الخطاب العنصري حكراً على أحزاب اليمين المتطرف، بل أجبر الخطاب المناهض للاجئين في تركيا أحزاب محسوبة على التيار الليبرالي أن تشن هجوماً ضد اللاجئين، ما زاد من حجم التحشيد السياسي ضد اللاجئين والأجانب
وفي مقطع مصور انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، شن أحد مواطني تركيا هجوماً على العرب والأجانب في بلاده، واصفاً إياهم"بالحيوانات وعديمي القيم والشرف والأخلاق"، مضيفاً: "هناك 10 ملايين مخلوق في بلادنا ليسوا بشراً، من عرب وأفغان وباكستانيين".
واستدرك عندما حاول أحد الحضور الاعتراض ومقاطعته: "أنا أعمل في مجال الوراثة وأعي ما أقول.. اللوزة الدماغية لهؤلاء أكبر حجماً من الطبيعي. إنهم يملكون دماغاً بدائياً وهم أصحاب فكر منحدر".
وأضاف: "من الأصح أن نقول إنهم من ثقافة مختلفة، على سبيل المثال نستطيع أن نقول إن هناك اختلاف ثقافات بين التركي واليوناني هذا هو الاختلاف.. منهم من يفضل العرق الأبيض التركي ومنهم من يفضل اليوناني وهذا أمر مختلف".
ولكن العرب والأفغان والباكستانيين أو كما قال "الجيل العربي، فهذا الجيل أسفل الثقافة الطبيعية، وهناك 10 ملايين شخص في بلدنا تابعون لهذه الثقافة المنحدرة، ويستطيعون القيام بأشياء لا يستطيع العقل تصورها".
منطلقات العنصريين الراسخة
العنصريون لا يرون إلا أنفسهم، ولا يفكرون بشكل منطقي أو عقلاني ولا يبرزون الأدلة لأنصارهم، هم شعبويون في خطاباتهم، يعتمدون على حقيقة واحدة هي "نحن"، نحن التاريخ والجغرافيا والمستقبل، نحن الضمير والنار، نحن أبناء السماء ورثة الأرض والهواء، خلقتنا "الآلهة" لنكون خلفاءها وحدنا دون آخرين وميزتنا عن كل شعب أو عرق أو دين أو مذهب.
تبدأ أفكارهم من حقيقة راسخة واحدة، نحن أفضل من الجميع، ويعتاشون على هذه الأفكار ويعلكونها صباحاً ومساءً، بكرة وعشياً، أمام الحشود، بين أنفسهم، في كتبهم، في صحفهم، في شعاراتهم، في بياناتهم، يَكذبون ويُكذبون، لا رادع لهم في زمن الشعبوية والتغريد على تويتر والبث المباشر على "تيك توك" سوى قوانين حقيقية تمنعهم من التهجم على الضعفاء واللاجئين.
العنصرية تجاه السوريين في تركيا
في ظل هذا الخطاب الجنوني، يعيش اللاجئون السوريون في تركيا لحظات حاسمة وترقباً قبل الجولة الثانية من الانتخابات التركية مع تصاعد الخطاب العنصري الذي كان يقوده بالجولة الأولى من الانتخابات كل من سنان أوغان المرشح عن تحالف الأجداد وهو تحالف يميني متطرف، وأوميت أوزداغ زعيم حزب الظفر العنصري واليميني المتطرف أيضاً.
مع الخسارة المدوية التي مني بها تحالف الأمة المعارض بعد فشله في حسم الانتخابات من الجولة الأولى، اختار كمال كليتشدار أوغلو أن يركز حملته على طرد اللاجئين السوريين والأجانب من تركيا في تحول كامل بخطابه، ثم حاول التحالف مع سنان أوغان وأوميت أوزداغ، إلا أن الأخير فقط من دعمه، في الوقت الذي قرر سنان أن يدعم الرئيس رجب طيب أردوغان بلهجة عنصرية أقل وطأة.
لا فرق يذكر بين شخصية أوغان وأوزداغ، فالرجلان من خلفية أكاديمية وكانا ضمن حزب الحركة القومية قبل أن يطردا منه، قد يختلف الرجلان ببعض التفاصيل، فقد كان أوزداغ أكثر تحريضاً وإساءة وكذباً على السوريين خلال السنوات القليلة الماضية، واستمر في ذلك عبر سلسلة من الادعاءات المفضوحة والمبالغ بها، والتي تحمل إساءة واضحة لتركيا قبل اللاجئين أو الأجانب الذين يعيشون فيها.
سؤال لحوح يخطر على بال الملايين من الناس، ماذا فعلنا لهؤلاء حتى يكرهونا إلى هذه الدرجة، ما الدوافع التي تجعلهم يكيلون الكذب تجاه ملايين من الأبرياء؟
"العنصرية" تاريخ وحشي
تعد العنصرية قديمة جداً، وتحمل في طياتها الكثير من الأنواع والاختلافات، وإن اتفقت في مضمونها على كراهية الآخر، وبغضه، والتجييش ضده وصلت في كثير من الأحيان إلى درجة القتل الفردي والجماعي وصولاً إلى ارتكاب مجازر "التطهير العرقي".
حتى أن العديد من النظريات العلمية ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لوضع تعريفات بيولوجية لتبرير ودعم المعتقدات العنصرية خلال فترة الإمبريالية الجديدة، أو يمكن تسميتها بـ "العنصرية الأكاديمية".
وقد اقترنت هذه النظريات العنصرية التي طُرحت على الفرضية العلمية مع نظريات أحادية الخط للتقدم الاجتماعي، والتي افترضت تفوّق الحضارة الأوروبية على بقية العالم. وعلاوةً على ذلك، كثيراً ما استخدموا فكرة «بقاء الأصلح»، وهو مصطلح صاغهُ هربرت سبنسر في عام 1864.
ورغم النقد الكبير الذي حصل من الجمعيات العلمية لهذه النظريات في القرن العشرين وحتى الآن، إلا أن الكثير من العنصريين، وخصوصاً قادة أحزاب اليمين المتطرف، ما زالوا يؤمنون بالفكرة الأولى التي تفرق جينياً بين إنسان وآخر، وفقاً لقومية أو عرق أو دين أو مذهب، عبر نظريات "انحطاط العرق" أو "وراثة الدم" أو الاختلاف الجيني.
وبعد تطور العلوم، وانتشار العولمة وثقافة الديمقراطية وسيطرة القانون، يرفض معظم علماء الأحياء والأنثروبولوجيا والاجتماع تصنيف الأجناس طبقاً لمعايير محدّدة أو معايير تجريبيّة مثل الجغرافيا أو العرق أو حتى الدين.
ولفترات طويلة قادت دول عظمى العنصرية والتمييز العنصري، مثل ما فعلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية في مستعمراتها في أفريقيا وأستراليا وآسيا، وكذلك الحال بالنسبة لألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وإسرائيل ضد الفلسطينيين، وغير ذلك.
دعمت حكومات هذه الدول وطبّقت أيديولوجيات وسياسات عنصرية وكارهة للأجانب، وفي حالة النازية دعمت سياسة الإبادة الجماعية، وفي حالة بريطانيا التي دعمت قانون الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
قانون بلا تطبيق
وجاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1948، أن لكل فرد الحق أن يعامل بكرامة، وكل الناس يحتاجون إلى حقوق اقتصادية وحقوق اجتماعية، من ضمنها الحق بالتعليم والحق في المشاركة الثقافية والسياسية والحرية المدنية
"دون تمييز من أي نوع كالعرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غيره أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الملكية أو المولد أو أي وضع آخر".
ولا تعرف الأمم المتحدة "العنصرية" بشكل مجرد، إنما وضعت تعريفاً لـ "التمييز العنصري" عام 1965، قاصدة به كل "تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني ويستهدف أو يسُتتبع بتعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، علي قدم المساواة، في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي مجال آخر من مجالات الحياة العامة".
العنصريون لا يرون إلا أنفسهم
ورغم أهمية القانون في صيرورة الحياة التي نعيشها، إلا أن التطبيق الفعلي لحقوق الإنسان غير متوفر إلا في نطاقات وأنظمة ودول معينة وبشكل ضيق أيضاً، حيث تُنتهك حقوق الإنسان يومياً، إلى الدرجة التي يموت فيها اللاجئون في البحر وهم يحاولون أن يصلوا إلى دول تعطيهم حق اللجوء، أو يُهجروا من بيوتهم على البث المباشر كما حصل في سوريا عبر اتفاقيات تهجير إجبارية تحت التهديد بالقصف بأسلحة كمياوية محرمة دولياً بإشراف مباشر من روسيا وإيران.
وعلى ذلك، كانت موجة اللجوء بعد عام 2014 سبباً أساسياً لصعود اليمين المتطرف في الغرب والأحزاب العنصرية بشكل كبير جداً، عبر تخويف المواطنين الأوروبيين من اختطاف هوية البلد الذي يعيشون فيه، واعتبار أن الآخر سيحول حياتهم التي اعتادوا عليها إلى خراب وبؤس وفقر دون أي مؤشرات ملموسة أو أدلة.
ويرتكز خطاب اليمين المتطرف "العنصري" في مكنونه وأساسه على مبدأ العدوانية على كل آخر لا يشبهنا، ويسعى عبر أنصاره إلى بناء مجتمع متجانس على أساس الإثنية أو العرقية أو الجنسية أو الدين عبر رفض جميع الأشكال الأخرى في صالح حب الذات وانتقاص الآخرين، بعبارة أخرى "إضفاء حالة من المثالية على (نحن) وإقصاء أو طرد من يكونوا ضمن دائرة (هم)".
هل العنصرية مرض نفسي؟
رغم وجود الكثير من الدراسات التي حاولت زج العنصرية بين الأمراض والاضطرابات النفسية، إلا أن الجمعية الأميركية للطب النفسي لم تعترف بذلك، مؤكدة أن القضية أثيرت منذ أكثر من 30 سنة بعد عمليات قتل عنصرية، حيث سعت مجموعة من الأطباء النفسيين لتصنيف التعصب الشديد على أنه اضطراب عقلي. رفض مسؤولو الجمعية التوصية، بحجة أن العديد من الأميركيين عنصريون، فإن العنصرية المتطرفة في هذا البلد هي أمر معياري - وهي مشكلة ثقافية وليست مؤشراً على مرض نفسي.
ولذلك فالعنصرية ليست مرضاً أو جيناً يولد مع الإنسان، بل هي قرار ناتج عن المحيط والمجتمع وقياداته، ويرتبط بالأخلاق وتعريف القيم، كما تتصل العنصرية اتصالاً وثيقاً بالعادات والتقاليد والثقافة والأشخاص، وما ينشر في الكتب والصحف ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ويمكن الشفاء منها من خلال التربية والتوجّه الرَّسمي من الحكومات والأحزاب والمجتمع المدني.
ولزمن طويل اختزلت العنصرية بمعايير الماضي، إلا أنه يتم التغاضي عن العنصرية المنهجية أو المؤسساتية في الكثير من البلدان حالياً، ما سمح لها بالدوام والتقدم، تحت مسميات ألطف مثل "اليمين المتطرف" أو "أقصى اليمين".
والعنصـرية، في كثير من الأساليب، هي ظاهرة ثقافية أكثر من كونها ظاهرة فردية نفسية. يعني هذا أنك لا تحتاج إلى أن تكون عنصرياً حتى تدعم النظم العنصرية وتؤيّدها، مجرد أن تصوت لحزب عنصري وإن لم تقل ما يقولونه سيقال فيك:"إنك امرؤ فيك عنصرية".