ليست الأسباب المباشرة وحدها هي التي تدفع السوريين للتفكير باللجوء والهجرة إلى أوروبا وسواها من دول غربية، ولعل أبرز هذه الأسباب هو السبب الاقتصادي المتمثل بعدم قدرة سوريي الداخل على تأمين سبل العيش اليومية. أما بالنسبة للمقيمين في الدول المجاورة لسوريا فيتمثل السبب المباشر الرئيس في ما يتعرض له عدد من السوريين من عنصرية واضطهاد على اختلاف درجاته، خاصة في تركيا ولبنان، ويكاد لا يمر يوم إلا نسمع حكاية اضطهاد أو عنصرية تكشف أنه لا كبير أو صغير أمام سيل العنصرية الذي تغذيه ظروف انتخابية أو ضائقة اقتصادية. بل تبادر إلى أسماعنا عبر أشخاص لهم صلات قوية مع الجهات التركية المعنية، أن القنوات الإعلامية التي تبث من تركيا والعاملين فيها هي الأخرى، باتت تحت عيون واسعة، مما يضع تلك المؤسسات أمام خيارات مؤلمة وضيقة، خاصة أن مهمة تلك المنصات الرئيسية كونها صوتاً للسوريين الموجوعين، والإضاءة على تفاصيلهم ويومياتهم، ومتابعة شؤونهم وشجونهم. أما السياسيون السوريون المعارضون المقيمون وسواهم من أصحاب الرأي، فصاروا يعدّون للمئة قبل إبداء أيّ رأي خشية غول الترحيل المتوحش، لا أسباب له، ولا نقاش فيه، ولا منطق ثابت له، ولا ناظم أو رادع، فهو عزرائيلُ السلطات، تسلِّطه متى ما شاءت؛ ليقبض على حياة الناس المستقرة، تفرِّقُ من خلاله الجماعات، وتهدم اللذات.
تحدّثني صديقة: إنها لا تشعر بالأمان! وحين أوقفتنا الشرطة مؤخراً في إسطنبول معاً لتسألنا عن ثبوتيّاتنا، علقتُ على تغير لون وجهها مع أنها تحمل الجنسية التركية: شعوركَ يختلف عن شعوري، لأنه في نهاية الأمر لديك سفارة ستحمل قضيتك، لديك دولة يحسب حسابها. أما أنا فقد تسحب مني الجنسية، وربما يكون باص الترحيل بانتظاري، ونتيجة خوف تلك الصديقة من مآلات لا تريدها، فقد حذفت عدداً من منشوراتها المتعلقة بالسياسة التركية عبر الفيسبوك، بل تفكر تلك الصديقة أن تهاجر دون عودة، قلت لها ممازحاً: أول وصولك إلى هولندا يمكنك أن تقفي في الشارع وتشتمي الجميع بما فيهم ملكنا المحترم، ولن يكترث بك أحد!
الجانب الإنساني عند الحكومات الأوروبية، الذي ظنّ فيه السوريون الخير سنوات عدة، فلن يكون المدخل الأفضل لكي تلتفت تلك الحكومات إلى قضيتهم
إنَّ هناك أسباباً أخرى غير مباشرة، أو استراتيجية يجب ألا تفوت السوريين، يمكن أن تكون عاملاً في دفعهم إلى الهجرة واللجوء إلى أوروبا وأبرزها:
السبب الأول: سبب وطني، ويتمثَّل في الضغط على الأوروبيين؛ لكي يعيدوا الانتباه إلى الملف السوري، ونقله من الخزانة المهملة إلى الخزانة المفعَّلة. لن يقوم المجتمع الدولي بذلك إنْ لم يشكل السوريون أداة ضغط عليه، في قلب دوله، عبر التظاهر أو اللوبيات، أو أن يغدوا مشكلة اجتماعية ومعيشية مؤثرة. خاصة أن الحكومات الأوروبية منشغلة بعدد من الملفات الساخنة من مثل أوكرانيا والتضخم والجفاف والغاز، دون أن ننسى استعصاء الحلول في الملف السوري وتعقيداته الذي يشعرها بالعجز. وإحدى أدوات الضغط الرئيسية المتبقية لدى السوريين هي أن يشكلوا مشكلة من حيث كثرتهم في المجتمع الأوروبي وكثرة تفاصيلهم، وبالتالي قد تضطر حكومات تلك الدول لعدم نسيان هذا الملف. أما الجانب الإنساني عند الحكومات الأوروبية، الذي ظنّ فيه السوريون الخير سنوات عدة، فلن يكون المدخل الأفضل لكي تلتفت تلك الحكومات إلى قضيتهم، بل إنها تعدّ استقبالهم على أراضيها ومنحهم الجنسية أحد ألوان مساهمتها في مساعدتهم لتعذّر إمكانية حلحلة الملف السوري، البالغ التعقيد. وهذا النوع من الضغط يدخل في إطار القوة الناعمة، والحل بالسلب، وهو أحد أنواع الاحتجاج السلمي للمظلومين، ويماثل إضرابات الشعوب في وجه الحكومات، إذ يمثل تقاطع الحاجة الفردية مع الأثر الوطني.
ويدخل كذلك في هذا السبب الوطني للجوء جزءٌ مستقبلي يتمثل في المساهمة ببناء سوريا مستقبلاً، من خلال وجود جيل من الشباب السوريين، الذين درسوا في الجامعات الأوروبية، يتولّون مرحلة ما بعد النزاع. هذا الجيل السوري الجديد سيتاح له أن "يفلتر" نفسه في الفلتر الأوروبي الإنساني والمنهجي والتعليمي والفكري، ويطلع كذلك على تجارب شعوب أخرى مختلفة كلية. لذا من المهم أن يحرص الأهل على إبقاء روابط قوية للأطفال السوريين والشباب مع سوريا تاريخاً وحضارة وكذلك التواصل مع الأقارب في الداخل، كي يعود أولئك الشباب يوماً، للمساهمة في البناء، في تلك اللحظة المنتظرة.
السبب الثاني: الاقتصادي المعيشي، حيث إنَّ من حق الإنسان وفقاً للشرائع الدولية أن يعيش بأمان معيشي وأن يأخذ راتباً يكفيه، ووفقاً لتصنيفات المنظمات الدولية فإن سوريا دولة تحت خط الفقر، ومثل هذا السبب كاف لكي يفكر سوريو الداخل باللجوء إلى أوروبا، إذ من غير المعقول أن يعيش مجتمع مجاور للسوريين بكل هذه الكفاية ورغد العيش، فيما يتحسر كثير من السوريين على لقمة الخبز، هذا مناف للأعراف الإنسانية والأخلاقية. ولن يلتفت الأوروبيون الالتفاتة اللازمة إلى السوريين ما داموا ليسوا في ديارهم. الكفايات الأساسية لدولة الرعاية الاجتماعية الأوروبية مغايرة كلياً لدولة التسلط الشرقية، من المهم الاطلاع عليها والتوق للوصول إليها، إضافة إلى سبب آني يتمثل في تقديم المساعدة لمن بقي من أهل اللاجئ في الداخل، وتكشف التحويلات الشهرية التقديرية إلى الداخل السوري أن هذا العامل عامل رئيس في معيشة كثيرين، لا يتعلق الأمر بالمساعدة المالية فحسب، بل ببقاء النموذج والتساؤل عن عدم وجوده في سوريا؛ مما يجعله عامل ضغط على النظام السياسي، ليعمل على التحسين والتطوير حاضراً ومستقبلاً، أراد أم لم يرد، ذهبت أيام العيش في ذلك الصندوق المغلق، التي اشتغل عليها الأسد الأب كثيراً، ليس بسبب اللجوء فحسب، بل بسبب دولة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كذلك.
السبب الثالث: هو السبب الأمني، الذي يتمثل بعدم الشعور بالأمان، ويقصد بالأمان هاهنا الأمان النفسي والاجتماعي والفكري والمعيشي والوجودي، لا شيء يعادل الشعور بالأمان. كنت في زيارة مؤخراً إلى تركيا ووجدتُ ابنتي تكرر أكثر من مرة: رجاء لنتحدث الهولندية! ولما سألتها عن السبب قالت لي: لا تتخيل حجم الكراهية للسوريين عبر السنابشات والتيكتوك، احترتُ هل أستجيب لها؟ أم أصرُّ على رأيي بأن نتحدث بلغتنا الأم "العربية"؟ أول عبورنا الحدود عائدين إلى الاتحاد الأوروبي قالت لي بصوت عال: صار بإمكاننا الحديث بالعربية دون خوف! فكرتُ بعمق حول هذا المآل المؤلم. ربما كان من الطبيعي أن نتحدث ونفاخر بالعربية في تركيا وليس العكس، من أين يأتي الشعور بالأمان؟ من القانون أم إنسانية الشعوب؟ هذا مثال بسيط عن أحد أنواع الأمان التي يفتقدها السوري، لا حياة كريمة مع الخوف، الأمان ليس شعوراً وجدانياً فحسب، الأمان حالة وجودية يجب أن تملأ كيانك مع من تحب، ومن تعيش، ومن تصادق!
اليوم غدا معظم السوريين متعلمين، لا بدّ من خطوة جديدة تتعلق بالتعرف إلى تجربة حضارية مختلفة، ألا وهي التجربة الأوروبية
السبب الرابع: الثقافي الفكري، إذ جرت العادة في القرن الماضي أن تحرص كل عائلة سورية تدريجياً على أن يكون أحد أبنائها متعلماً ليشكل منارة وقدوة يفيد منها أفراد العائلة الآخرين، اليوم غدا معظم السوريين متعلمين، لا بدّ من خطوة جديدة تتعلق بالتعرف إلى تجربة حضارية مختلفة، ألا وهي التجربة الأوروبية، فما المانع أن يفيد السوريون من هذه الفرصة التاريخية، التي لم تتح لهم من قبل، ويغدو في كل عائلة حاملٌ للجنسية الأوروبية؟
السبب الخامس: هو السبب القانوني، إذ إن كثيراً من السوريين اليوم ليس لديهم أوراق رسمية، أو محكومون بأحكام تعسفية، فلِمَ لا يلجؤون ليحصلوا على وثاثق رسمية، ولاحقاً على جنسيات وجوازات أوروبية، تمكِّنُهم من أن يجولوا العالم، ويتعرفوا إلى تجاربه وتجارته وطرائق عيشه، يؤثّرون ويتأثرون، لقد أخذوا قسطهم وحصتهم من العيش بصندوق الاستبداد الأسود أكثر من خمسين عاماً.
بالتأكيد لا تغيب عن تلك الأسباب أسباب أخرى منها تجربة العيش في كنف الفردانية، وبعيداً عن حاجات المعيشة اليومية، وتجربة الاكتفاء الذاتي، وعدم الضغط والحياة المنظمة والهادئة والقانونية، وتجربة المواطنة الحقيقية والحرية والديمقراطية والحقوق والواجبات.
لا بدّ من تجربة العيش عبر المزج بين الجغرافيا المفتوحة لتعيش تاريخك الشخصي، وتحفر ذكرياتك الخاصة بك، بعيداً عن الإشراطات والإكراهات الاجتماعية، فالتغييرات العميقة لا تحصل إلا في المنعطفات والمفاصل التاريخية فلا تفوتها على نفسك!
يقول أحد اللاجئين السوريين، ممن دخلوا سن الكهولة (ما بعد الثلاثين أو الأربعين): لقد تغيَّرنا بعد اللجوء، كذلك تلوّنتْ قصصُ حبّنا وغرامنا، وصارت مختلفة، فالحياة الجديدة تتغلغل فيك، وتدفعك إلى المغامرة، وتشعِرُك بالاكتفاء والأمان والحماية، وأن تكونَ أنت مرجع ذاتك في ظل مظلة القانون، الذي يحميك؛ فتغامر، دون حساب كبير للعقبات أو إشراطات الكهولة!