تتغير «هيئة تحرير الشام» ويتبدل خصومها. فبعد أن غلب عليهم أن يكونوا مقاتلين في فصائل الجيش الحر، أو ناشطين مدنيين وحقوقيين، أو إعلاميين معارضين؛ صار أكثر نزلاء سجونها الأمنية من أبناء الوسط الجهادي نفسه، بتهمة أنهم دواعش، أو خوارج، أو أعضاء في تنظيم «القاعدة» أو متعاونون معه، أو مهاجرون لا ينضبطون بالإيقاع الذي تدير به الهيئة الملف العسكري في إدلب، يُتهمون بإيواء مجموعات مارقة تتخذ من «الاحتطاب» (الخطف بهدف الحصول على الفدية) وسيلة لتمويل وجودها واستمرار عملها القتالي.
من أعداء الهيئة اليوم بعض مؤسسيها ومسؤوليها السابقين؛ من قادة عسكريين أو شرعيين بارزين، فصلتهم الهيئة أو تخلوا عنها بعد انتقادهم أداءها العسكري و«تمييع منهجها» ونتائج تسلط أبي محمد الجولاني عليها. ومن هؤلاء أبو العلاء الشامي الذي كان محل ثقة الجولاني، مما أتاح الاطلاع على مواقف لهذا الأخير دفعت الشامي إلى مغادرة التنظيم وفتح النار على زعيمه.
في ذكرى الثورة، قبل قرابة أسبوعين، طرح أبو العلاء على شبكة الإنترنت كتاباً سمّاه «حديث السجون»، جمع فيه خلاصة ما تحصل لديه من روايات معتقلين سابقين في سجون الهيئة. وقد حظي الكتاب بالترحيب في أوساط المنشقين عن الجولاني وقدّم له أحد بارزيهم، وهو أبو شعيب طلحة المسيّر، المهاجر المصري الذي كان شرعياً في الهيئة.
في المدخل يقول المؤلف إنه اهتم بموضوع السجون منذ نشأته، عندما كان والده يحدثه عن سجنه في الثمانينيات (ربما في سجن تدمر)، وحين اعتقلت مخابرات النظام شقيقه لاحقاً (على الأرجح في سجن صيدنايا)، حتى سجون مَن ما زالت «رواسب الناصرية والبعثية» في دواخلهم ممن ركبوا قطار «الثورة والجهاد» وصار أحدهم ربانه. فزيّن له الشيطان سوء عمله حتى خيّل إليه «أنه رجل نادر عظيم مختلف عن الناس فيه صفات فريدة استثنائية، يجب عليهم أن يشكروه على أفضاله ويقدِّسوه ويبجِّلوه ويوقِّروه ويقدِّموا له الولاء المطلق والطاعة العمياء». والمقصود هنا هو أحمد حسين الشرع (أبو محمد الجولاني) «القائد الطويل الجميل المخضرم الواعي المحنك الحكيم» في نظر نفسه، و«الثعلب المخادع» الذي تنصّل من ماضيه وفتح لرفاق دربه السجون وأنشأ المعتقلات، وفق وصف الكتاب.
يعدد الكاتب ما أمكن له رصده من هذه الأساليب. كالدولاب المعروف والجلد فيه لستين ضربة أو أكثر، لساعات أحياناً. والشّبح الأمامي أو العكسي أو الجانبي، وربما باستخدام بكرة البلنكو
تبدأ «المحنة» عندما يقرر الجولاني إسكات صوت أحد «الناصحين والمصلحين» فيأمر مخبريه بمتابعته بدقة. ثم ينقض عليه الأمنيون ليجرّوه، مقيداً مطمشاً، إلى عالم التغييب الذي يبدأ بإلباسه لباس السجن، وهو بدلة زرقاء مخططة رقيقة جداً ومستعملة من قبل معتقلين آخرين سابقاً. ورميه في زنزانة انفرادية أو في مهجع مكتظ تمهيداً للتحقيق الذي يعتمد على وسائل التعذيب.
وهنا يعدد الكاتب ما أمكن له رصده من هذه الأساليب. كالدولاب المعروف والجلد فيه لستين ضربة أو أكثر، لساعات أحياناً. والشّبح الأمامي أو العكسي أو الجانبي، وربما باستخدام بكرة البلنكو. والفلقة بالخرطوم البلاستيكي المحشو بالسيليكون أو بحزام محرك السيارة، خمسين جلدة أو أكثر. وبساط الريح الخشبي. والكرسي الكهربائي الذي اشترته الهيئة من السوق الإقليمي عام 2018 بمبلغ 6500 $. والتقييد بالعقرب بكلبشة اليدين إلى الخلف بطريقة معينة مؤلمة بشدة. والتابوت الذي يقول المؤلف إنه لم يعثر عليه بين وسائل التعذيب المعروفة لدى الأنظمة الطغيانية سابقاً. وهو صندوق حديدي له باب، منتصب كالخزانة، بارتفاع مترين وطول قاعدته 40 سم وعرضه (عمقه) 25 سم تقريباً. وخلف بابه لوح ثخين حديدي كذلك، مثبت بنوابض تتحرك بمنويل من أمام الباب. فإذا أُدخل فيه المعتقل حرّك الجلاد المنويل فاستطالت النوابض دافعة اللوح الحديدي لتكبس جسم المعتقل الذي لا يستطيع التنفس إلا من ثقب صغير.
أما عن ظروف الاحتجاز فتعطى للمعتقل بطانيتان صيفاً وأربع شتاء، لتكون فراشاً ووسادة وغطاء. وتقدّم للسجناء كمية أكل قليلة تصل إلى ثلث حاجتهم، وبنوعية رديئة، مع استخدام ملحوظ لمواد الإغاثة وسرقة القائمين مكونات الطعام. وهنا يعرض الكتاب البرنامج الأسبوعي لإفطار المعتقلين وغدائهم، وبرنامج الحلويات والفواكه الهزيل شهرياً. ويزوَّد المهجع بكمية ماء قليلة تعادل عشر حاجة المعتقلين، مع غياب المياه الساخنة إلا نادراً. ومنع التمارين الرياضية حتى الفردية منها. والاقتصار على التعرض للشمس مرة شهرياً في السجون التي تتيح ذلك، أما المغارات في الجبال فلا تدخلها أشعة الشمس. مما يؤدي إلى ضعف أجساد المعتقلين وانتشار الأمراض بينهم، وخاصة السارية منها، نتيجة تكدس السجناء، كالجرب الذي ينتقل بالعدوى عبر البطانيات غير المغسولة كذلك. ولا توجد عيادات في السجون. ويقتصر الأمر على كادر طبي ضعيف التأهيل يزور السجن أسبوعياً محملاً بكميات قليلة من الدواء الذي قد يكون منتهي الصلاحية.
تمنع الزيارات في أثناء مدة التحقيق الطويلة، ويسمح بها بعد ذلك، مرة كل 4-6 أشهر، بعد وساطات وإلحاح شديد، تحت الرقابة ولوقت قصير. وفي أثناء التحقيق ربما يتعرض المعتقل للسب والشتم. وإن اقتصرا على إهانته دون ذويه، بألفاظ من نوع «يا خنزير، يا حيوان، يا نجس، يا كلب، يا خبيث». وربما تعرض للكم والركل والدوس على الرأس. فضلاً عن انتهاك خصوصيته بعد انتزاع رمز مرور جواله منه ورؤية صوره الشخصية وسماع صوتيات محادثاته العائلية. كما تتم مراقبة المعتقلين عبر كاميرات مثبتة في المهاجع وبزرع الجواسيس بينهم. أما لجنة متابعة السجون، التي تزورها لسماع شكاوى المحتجزين، فهي شكلية وتأتي بصحبة مدير السجن نفسه.
يختم الكاتب ببابٍ في «فقه السجون» مكون من استفتاءات وجّهها المعتقلون الذين «ما عادوا يطلبون من المشايخ نصرتهم، ولا المطالبة بإطلاق سراحهم، ولا الإنكار على ظالميهم»
يستعرض الشامي أساليب التحقيق التي لا جديد فيها؛ كالتخمين عندما لا يملك المحققون معلومات كافية عن الموقوف، وتبسيط تهمته لخداعه بالاعتراف والخروج بعد وقت قصير، أو تضخيمها ليدرأ عن نفسه هذا التهويل بالاعتراف كذلك. ويقدّم لقارئه، الذي قد يتعرض لهذه التجربة، نصائح لمقاومة المحققين.
وأخيراً يختم الكاتب ببابٍ في «فقه السجون» مكون من استفتاءات وجّهها المعتقلون الذين «ما عادوا يطلبون من المشايخ نصرتهم، ولا المطالبة بإطلاق سراحهم، ولا الإنكار على ظالميهم». بل فقط الإجابة عن أسئلة من نوع: هل تجوز الصلاة بالملابس المبتلة بالدماء والقيح الناتج عن التعذيب؟ وعن كيفية تقدير أوقات الصلاة في المنفردة؟ وهل يصلي المشبوح دون ركوع ولا سجود أم ينتظر حتى يفكّه السجان، قبيل وقت المغرب عادة، ليقضي ما فاته؟ وهل تجب عليه زكاة الفطر في رمضان؟ وإذا سألوني ما رأيك بجهاز الأمن العام فأجبت بأنهم إخوة مجاهدون يدافعون عن المظلوم ويأخذون حق الضعيف ويحاربون الظالم- رغم معرفتي بحقيقتهم المخالفة لذلك- هل أكون معيناً للأمنيين على ظلمهم؟ وهل يجوز أن أنادي المحقق أو مدير السجن أو السجان بـ: يا شيخ، كما هي العادة حالياً؟!