ملخص:
-
داريا بعد المجزرة والتهجير: تعرضت مدينة داريا لمجزرة وحشية في آب 2012، أسفرت عن مقتل المئات وتهجير الغالبية العظمى من سكانها.
-
عودة محدودة للسكان: بعد سنوات من التهجير، عاد بعض السكان تدريجيا إلى داريا منذ 2018، لكنهم واجهوا ظروفا صعبة في ظل دمار واسع النطاق ونقص شديد في الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء.
-
مستقبل غير واضح: المدينة تعاني من تدهور كبير وسط مخاوف من محاولات إيران وحزب الله الاستيلاء على العقارات.
"عاد الناس لكن الحياة لم تعد كذلك لم يعد العنب ولا نسمات الليل العليلة إلى داريا"، هكذا قال الشاب ماهر أبو أسامة الذي يقطن في مدينة داريا بريف دمشق الغربي.
استطاع أبو أسامة العودة إلى داريا عام 2019 أي بعد شهور من سماح النظام لبعض العوائل بالدخول المدينة المدمرة، وذلك بعد رحلة نزوح مرّ فيها أبو أسامة بعدة بلدات ومدن في الريف الدمشقي.
يروي أبو أسامة لموقع "تلفزيون سوريا" عن حالة مدينة داريا هذه الأيام بقوله: "لم تعد تلك المدينة الوادعة التي كانت تصدّر الخيرات لدمشق. ولم يعد سوق الموبيليا والنجارة الشهير يعمل ليغذي كل سوريا بالمنتوجات، لكن الناس تحاول ما استطاعت أن تعيش ويجب أن نعيش لأن المعاناة كبيرة ولا يمكن إلا أن نقاومها كي لا نموت قهرا وكمدا".
ما سبق من كلام يأتي في ظل عدم وضوح مستقبل مدينة داريا بعد سنوات من المجزرة والتهجير، ولعلّ في هذا التقرير نوضح بعضا مما يحصل في المدينة التي كانت تعتبر رقما صعبا في الثورة السورية.
ذكرى المجزرة والتهجير
لا يأتي شهر آب أغسطس في كل سنة إلا ويحمل معه ذكريات ثقيلة على أهل المدينة، رائحة الدم والحسرة عابقة في ثنايا هذا الشهر، ففي آب من عام 2012 ارتكبت قوات النظام بحق أهالي المدينة مجزرة كبيرة، بدأت في 20 أغسطس تمهيدا وقصفا حتى وصلت إلى يوم 25 من ذات الشهر لتتكشف واحدة من كبريات مجازر سوريا، حيث قتل النظام أكثر من 700 شخص من بينهم نساء وأطفال عدا عن أكثر من 1500 جريح نتيجة القصف التمهيدي قبل المجزرة، إضافة إلى مئات المعتقلين خلال حملات المداهمات، وفقا لما وثقها ناشطون من أبناء المدينة.
ويقول الناشطون من أبناء المدينة، إن "الجثث بعد المجزرة كانت تترامى في جميع أنحاء المدينة، في المساجد والأقبية وحتى في المصاعد وفي الأراضي الزراعية، كانت علامات القتل تشير إلى كافة أنواع الأسلحة إعدام بالرصاص وتمثيل بالجثث وتشفي بأجساد الأهالي".
وعندما بدأت المجزرة تتضح معالمها للناس، باتت الصدمة على وجوه الجميع لا أحد يستوعب ما الذي حصل، بدأ الأهالي بتجميع الجثث لدفنها في مقبرة جماعية خلف مسجد أبو سليمان الداراني، لكن صمتا ساد المدينة لمدة شهر من هول تلك المصيبة.
على بشاعة المجزرة حينها، إلا أنّ مراقبة الأحدث تشير إلى أن أهالي داريا استعادوا نشاطهم مرة أخرى وعملوا على تنظيم صفوفهم. لكن النظام عاد ليبدأ حملة جديدة في شهر تشرين الثاني نوفمبر على المدينة وهاجم أراضي داريا الشرقية وقتل العشرات.
بدوره، بدأ الجيش الحر حينها حالة مقاومة، وضرب الحواجز التي نصبها جيش النظام داخل المدينة لما شكلته ذلك من خطر على المدنيين.
وبعدها، هاجمت قوات النظام المدينة مجددا لتبدأ "معركة داريا" التي تسببت بنزوح أكثر من 98٪ من أهالي المدينة خلال الأيام الأولى خوفا من تكرار المجزرة الكبرى، وخلال الشهر الأول من المعركة ضرب النظام حصارا كبيرا على المدينة وبدأ بحصار التجويع لمن بقي فيها من العوائل والمقاتلين، واستمر هذا الوضع لما يقرب من أربع سنوات. إلى أنّ أقر اتفاق تهجير أهالي داريا يوم 25 آب أغسطس عام 2016 ليكون متوافقا مع الذكرى الرابعة لمجزرة داريا الكبرى.
قتال حتى النهاية
ولم يشمل تهجير سكان داريا أية ضمانات روسية أو إيرانية أو مؤسسات دولية، فكان قبول التهجير حالة اضطرارية من قبل المقاتلين الذين فقدوا كافة خيارات الصمود وأدوات البقاء العسكري والحياتي، كان التهجير عبارة عن طوق نجاة للمحاصرين، خاصة وأن بعض الأطراف العسكرية من قوات النظام كانت لا تريد لنموذج داريا أن ينتهي بتهجير وأن ينجو من تبقى من المقاتلين، بل كان المخطط إبادة شاملة لثلاثة آلاف ممن تبقوا في المدينة منهم 700 من المقاتلين وركيزتهم الأساسية كانت 100 من المقاتلين الذي حملوا على عاتقهم القتال حتى النهاية.
داريا بعد التهجير
في شهر أغسطس/آب عام 2018 أي بعد عامين من التهجير الكبير وبعد إفراغ المدينة لمدة سنتين والقيام بسرقة كل محتوياتها بشكل كامل، بدأ النظام بالسماح لأهالي داريا بالعودة بعد استصدار بطاقة أمنية. كان الدخول بداية لتفقد الأحوال فقط بعد ذلك بشهور بدأ يسمح بعودة الأهالي الذين يرغبون في السكن بالمدينة وفقا لشروط أمنية مشددة، وبالطبع فقد كانت العودة إلى داريا حلما للكثيرين الذين كانوا يعانون الأمرّين في أماكن نزوحهم من استغلال وحالة اقتصادية تعيسة.
عندما عاد الأهالي إلى المدينة صدموا بحجم الدمار الكبير الذي خلفه قصف النظام السوري على المدينة، وبدأوا بإصلاح ما يستطيعون إصلاحه من بيوتهم والجلوس فيها حتى على خرابها، وإلى ذلك التاريخ ما زالت مؤسسات حكومة النظام الخدمية غائبة، وحينما دخلت باتت تعمل على خجل ولم ترمم سوى بعض "مؤسسات الدولة" مثل المخفر والاتصالات.
وبسؤال المقيمين في المدينة، يظهر أن الأهالي العائدين لم تقدم لهم حكومة النظام النظام أي خدمة، بل عملوا بأنفسهم على تنظيف حاراتهم وشوارعهم وكذلك كان بعض ميسوري الحال من أهل داريا الذين تبرعوا ببعض الآليات للبلدية لكي تفتح الطرقات المليئة بركام الدمار، وكذلك حاولت كل عائلة تعمل على ترميم أو إعادة إعمار أو تنظيف ما يحيط بها من مرفقات.
ورغم ضآلة هذا التقدم أمام حجم الدمار، إلا أنّ الأهالي في المدينة استطاعوا إعادة فتح بعض المحال، ويقول الشاب ماهر أبو أسامة لموقع تلفزيون سوريا: "نعم هناك أجساد تمشي وهناك دكاكين تفتح أبوابها لكن هل في هذه الأجساد أرواح؟ أو هل في هذه الدكاكين نبض حياة؟ لا أظن ذلك حيث أضحت المدينة غير تلك التي نعرفها قبل حرب النظام عليها".
أما عن الخدمات التي يفترض أن يقدمها النظام للمدينة، فيرى أبو أسامة أن "النظام لا يقوم بدوره انتقاما من المدينة التي كانت صلبة في وجهه ولم تستكن"، مضيفا أن "المدينة وإن عاد إليها الناس فإنها تفتقد لكثير من الخدمات مثل المياه والكهرباء والنظافة والاهتمام بالمرافق العامة".
ويتسائل: "ماذا سأستفيد من المخفر ومن مؤسسة الاتصالات إذا كان المستوصف لا يعمل ولا يوجد خدمات طبية إذا حصل أي أمر طارئ".
ولا وعود تدور في الأفق لتحسين حالة الكهرباء في داريا، مما يدفع بعض الأهالي إلى الاشتراك بخدمة الأمبيرات والتي هي عبارة عن مولدات كهرباء ضخمة توزع الكهرباء على بيوت عديدة في أحياء معين، وهذه الخدمة في الأصل موجودة منذ سنوات عديدة في أماكن مثل حلب وإدلب لكن النظام سمح بها في دمشق وريفها في بداية عام 2023 خاصة مع عدم وجود حل في الأفق لأزمة الكهرباء في سوريا.
يعيش في داريا اليوم بحسب تقديرات سكانها ما يقرب من 50 ألفا من أصل 270 ألف كانوا يسكنونها قبل نهاية عام 2012، غالبهم يتوزعون في الأحياء القريبة من مركز المدينة، أما الأحياء المحيطة فما زال بعضها خاويا إلى الآن.
العقارات وخطط إيرانية؟
وتدور حاليا تساؤلات عن إذا ما كانت إيران وحزب الله يحاولون شراء العقارات والأراضي في داريا لما للمدينة من أهمية خاصة بعد تهجير الأهالي الذي استطاعوا تأخير ما يعرف بـ خطة "تشييع كبرى عقديا وعقاريا واجتماعيا" كانت تجري في المدينة خاصة في المنطقة المحيطة بمقام مزعوم لـ "سكينة بنت الحسين".
لكن وحتى اليوم، لم تضح الأمور بهذا الخصوص ولم يتم الكشف عن أن إيران وحزب الله يستملكون أو يشترون فعلاً أراض وعقارات في المدينة.
لكن الطبيب "م.ج" المقيم في داريا يقول لموقع تلفزيون سوريا إن شخصيات سورية معروفة تشتري العديد من العقارات والأراضي في مدينة داريا والأمر يتم بشكل غير مفهوم.
ويتسائل الطبيب المطلع على الشأن العام في داريا عما إذا كان هذه المعاملات العقارية "بريئة" أم لا، ويشير الطبيب إلى أن العقارات في داريا رخيصة جدا إذا ما قيست على الأسعار بباقي المناطق، لأن كثير من الأهالي يبيعون بيوتهم وأراضيهم لما وقعوا فيه من الفقر والفاقة والعوز.
وكان تلفزيون سوريا سلط الضوء في تقرير نشر قبل نحو عامين أن وفدا إيرانيا - عراقيا زار مدينة داريا واستطلع خلالها مقام "السيدة سكينة" ومحيطه وسط المدينة.
وحينها أشار التقرير إلى أن الوفد المشترك ضم معممين "شيعة" من الجنسيتين الإيرانية والعراقية، إضافة إلى قياديين من ميليشيا "حشد العتبات" التابعة "للحشد الشعبي العراقي"، وأضاف أن الوفد استطلع خلال جولته مقام "السيدة سكينة" ومحيطه، بهدف إجراء دراسة جديدة لعملية إعادة تأهيل المقام.
كما يلاحظ حاليا دخول وفود شيعية إلى مقام سكينة على الرغم من الدمار الشديد في المنطقة، وهو ما ينذر بترتيبات جديدة بالنسبة للمدينة بالعموم ولمنطقة المقام بالخصوص.