بعد حسابات استغرقت شهراً كاملاً، أيقن "مفتي" نظام ولاية الفقيه أو مرشده الأعلى علي خامنئي أن إشعال حرب أهلية بين المسلمين أهون وأسهل وأوفر له ولنظامه من إشعال حرب إيرانية مع إسرائيل!
فبعد ما يقرب من شهر على الوعد الإيراني الكاذب بقصف إسرائيل انتقاماً لاغتيال هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صرح خامنئي في ثلاث تغريدات بأن الصراع الأساسي الذي يجب العودة إليه ليس الصراع مع إسرائيل، بل الصراع مع "اليزيديين" – في إشارة ضمنية إلى السنة – فهو الصراع "المحبب" ربما لخامنئي، إذ إنه صراع معتاد تكرر عبر التاريخ عشرات المرات بأشكال مختلفة.
ولسان حاله يقول: ما اختبرناه خير مما لم نختبره، والقتال في سوريا والعراق ولبنان واليمن أهون بكثير من قتال إسرائيل، القتال الذي قد يجر إيران إلى معركة نهائية تعيدها إلى العصر الحجري، كما صرح محذراً أحد المسؤولين الإسرائيليين.
عوائق داخلية وخارجية
وإذا كانت الجبهة العسكرية الأميركية الأوروبية المدافعة عن إسرائيل رادعاً لإيران عن ضرب إسرائيل، فإن هناك ما يردع خامنئي عن تنفيذ وعيده وتهديده المبطن بضرب العرب أو السنة، الذين هم وحدهم من يقفون في الجبهة اليزيدية – كما يتخيل خامنئي. وعوامل الردع هذه المرة إيرانية داخلية وأولها سياسي؛ فالشعب الإيراني لم يعد يؤيد السلطة الحاكمة كما كان من قبل، ولم يعد وهج الأيديولوجية السياسية المتمثلة بالإسلام الشيعي ودولة الحق والعدالة والإيمان كما كان قبل عقدين. والدليل على ذلك أن أعداد تاركي المذهب والدين باتجاه الإلحاد أو باتجاه أديان أخرى في ازدياد، كرد فعل على استمرار دولة الولي الفقيه.
من ناحية أخرى، يعاني الشعب الإيراني من الفقر المدقع الذي يجبر آلاف السيدات على امتهان أسوأ وأقسى الأعمال التي تحط بكرامتهن وإنسانيتهن، ما دفع عشرات آلاف النساء الإيرانيات للانتفاضة التي انطلقت إثر مقتل مهسا أميني، إضافة إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية المتمثلة في انهيار التومان الإيراني، وانقطاع الكهرباء، وتزايد أعداد العاطلين عن العمل. الأمر الذي يدفع آلاف الشباب الإيراني للهجرة بشكل غير شرعي، كما لو أنهم يعيشون في بلد ضربته الحرب، على غرار هجرة الشباب من سوريا وأفغانستان.
وكما أن هناك عوائق داخلية إيرانية تمنع الولي الفقيه من تفجير أي صراع مع إسرائيل وأميركا، فإن هناك عوائق خارجية تمنعه من تنفيذ أي تهديد بحق العرب والسنة. إذ إن ملايين العرب المخدوعين بإيران يقفون معها على خلفية الصراع العربي الإسرائيلي، ولا سيما بعد حرب أكتوبر الثانية 2023، فلا يعقل أن يشن خامنئي الحرب على العرب جميعاً، بمن فيهم أولئك المناصرين لإيران. كما لا يعقل أن يشن الحرب على الشيعة العرب الذين صار أغلبهم، إن لم يكن معظمهم، يقفون على مسافة بعيدة من إيران بسبب ممارساتها العنصرية بحق العرب، وممارساتها التمييزية بحق الشيعة العرب، وبسبب انكشاف خدعة الصراع مع إسرائيل. لذا فإن الهروب إلى محاولة تفجير حرب أهلية مذهبية بين السنة العرب والشيعة العرب سيدفع ثمنها أولاً الشيعة العرب، بينما تقبض إيران الثمن الاستراتيجي من أميركا والغرب ولو بعد حين.
هل هذه إشارة من الولي الفقيه إلى نهاية الصراع الإعلامي والسياسي بين إيران وإسرائيل والعودة إلى الصراع المذهبي التقليدي بين الشيعة والسنة.
تغريدات خامنئي
يقول خامنئي في تغريدته الأولى بخصوص "الصراع بين الحسينية واليزيدية": "إنني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم إلى يوم القيامة. المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية مستمرة ولا نهاية لها". والسؤال هنا: لماذا تكون حرب إيران مع إسرائيل حرباً استعراضية إعلامية، بينما تكون حرب إيران على العرب حرباً مفروضة في عقيدة ولاية الفقيه الفارسي، وهي فرض عين على كل إيراني شيعي، وعلى كل شيعي موالٍ لإيران؟ ثم أليس كل من الحسين ويزيد عربي من قريش؟ أي مواطنين عرباً، فما دخل خامنئي في صراع عربي بين قبيلتين هاشمية وأموية، هما في النهاية أولاد عم، إذ لطالما تقاتلت قبائل العرب عبر التاريخ لأسباب عديدة، معظمها يتعلق بمسائل مصلحية. ثم لماذا تضخيم حدث جرى قبل أربعة عشر قرناً، بل أسطرته وتحويله إلى ملاحم تشبه الملاحم الفارسية والهندية واليونانية؟ ولماذا يزداد النفخ في نزاع قبلي كلما ابتعد بنا الزمن عن لحظة وقوعه؟
في تدوينته الثالثة، بيّن خامنئي أن "المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية تأخذ أشكالاً مختلفة"، مشيراً إلى اختلاف هذه الأشكال من عصر السيوف والرماح إلى عصر الذرة وصولاً إلى عصر الإنترنت." هل هذه إشارة من الولي الفقيه إلى نهاية الصراع الإعلامي والسياسي بين إيران وإسرائيل والعودة إلى الصراع المذهبي التقليدي بين الشيعة والسنة، وهذه المرة بأسلحة متطورة؟ هل النفخ المذهبي يطيل في عمر سلطته وفي عمر نظامه؟
إذا كان خامنئي يختزل موقف الحسين "بالجهاد ضد الظلم"، فإن هذا الجهاد يعني بوضوح جهاداً ضد كل ظلم من أي نوع كان، ومن أي جهة أتى، وفي كل زمان ومكان.
الجبهة اليزيدية
سنذهب مع مذهب خامنئي في أسطرة كل من اليزيدية والحسينية، وإخراجهما من الزمان والمكان كحدث بعينه وجعلهما جماعتين عابرتين للأديان والقوميات. في هذه الحالة، سنكون أمام الحقائق التالية: ليس اليزيديون أبناء يزيد وعشيرته، إنما اليزيديون هم كل من يقاتلون أصحاب الحق، فلا يفرقون بين مدنيين وعسكريين، ويعمدون إلى محاصرة المدنيين بحجة المقاتلين، أو بحجة أن هؤلاء المدنيين هم أبناء وعشيرة وحاضنة المقاتلين. فيمنعونهم بهذه الحجة من الطعام والماء، ويبقونهم محاصرين حتى الموت. بهذا، سنجد أن اليزيدية بهذا المعنى العام أو الكوني تنطبق على حالة وموقف ميليشيات إيران الشيعية وجيش الأسد وكل من قاتل معهما، إذ أنهم فعلوا ما فعله يزيد بالحسين وأهله. كما ينطبق هذا التوصيف أيضاً على كل مستعمر احتل أرضاً وأباد أهلها. وهو ما يعني، بالمقابل وطبقاً لهذا الاعتبار، أن الجبهة الحسينية لا تعني فقط أبناء وأصحاب الحسين بن علي، بل تشمل كل من قُتل ظلماً أو هاجر مظلوماً أو اعتقل ظلماً دون حقه، حتى لو كان قاتله ينحدر نسباً ودماً إلى الحسين بن علي.
الجبهة الحسينية
إذا كان خامنئي يختزل موقف الحسين "بالجهاد ضد الظلم"، فإن هذا الجهاد يعني بوضوح جهاداً ضد كل ظلم من أي نوع كان، ومن أي جهة أتى، وفي كل زمان ومكان. أفلا ينطوي تحت هذا العنوان "الجهاد ضد الظلم" نضال السوريين لاسترداد حريتهم وكرامتهم من أيدي سلطة فاجرة؟ مثلما ينطوي تحته أيضاً نضال الفلسطينيين لاسترداد حريتهم من أيدي الاستعمار الإسرائيلي، كما ينضوي تحت هذا العنوان نضال الإيرانيين أنفسهم لاسترداد حريتهم من أيدي سلطة قاهرة متمثلة في نظام ولي الفقيه. لو بُعث الحسين لقاتل مع الشعب السوري المظلوم في مواجهة ميليشيات إيران وميليشيات الشبيحة والنظام الأسدي المجرم. إذ ليس الحسيني من انتمى إلى الحسين بن علي بالدم، بل من سار على نهجه مطالباً بإحقاق الحق لنفسه ولكل إنسان في كل زمان ومكان. ليس الحسيني من يطالب في عام 2024 بحق الحسين وعلي في الخلافة، بل من يطالب بحق أي مظلوم، ويقف في وجه أي ظالم، ويرفض الظلم الذي يتعرض له أي إنسان في أي مكان وزمان.
تعيد تغريدات خامنئي إلى الأذهان فكرة الحرب الأبدية ما بين الخير والشر، كما تذكرنا "حربه" المفترضة بحروب أوروبا الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، التي راح ضحيتها عشرات ملايين الأبرياء. لكن الأوروبيين، بفضل عصر الأنوار وتأثير الفلاسفة والمفكرين الذين حسموا أمر سلطة الكنيسة وأنهوا هيمنتها على العقل والحقيقة، مهّدوا لوضع حد لتلك الصراعات المذهبية والطائفية الدامية. فهل من عصر أنوار عربي يمكن تلمس خيوطه؟ وهل من مفكرين مسلمين شيعة يدحضون حجج وأقوال ولي الفقيه وأمثاله، ويطفئون بحجج العقل فتنة خامنئي؟ أم أن أجهزة السلطة ووسائل الإعلام ستتكفل بصب الزيت على نار خامنئي لتزيدها اضطراماً فتمتد شرقاً وغرباً، فلا يبقى في بلاد العرب والمسلمين مسلم آمن على نفسه وعقله وماله وعرضه، ولتمسي بعد هجرها خراباً بلقعاً؟